تهذیب الاصول المجلد 2

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: سبزواري، عبدالاعلی، 1288 - 1372

عنوان واسم المؤلف: تهذیب الاصول المجلد 2/ تالیف عبدالاعلی الموسوی السبزواري

تفاصيل المنشور: [قم]: مکتب سماحة آیة الله العظمي السید السبزواري: موسسة المنار، - 1376.

الطبعه الثالثة 1417 ه - 1996 م

ISBN : بها:8000ریال(ج.1،2) ؛ بها:8000ریال(ج.1،2) ؛ بها:8000ریال(ج.1،2) ؛ بها:8000ریال(ج.1،2)

عنوان : أصول الفقه الشيعي

المعرف المضاف: مکتب سماحة آیة الله العظمي السید السبزواري

ترتيب الكونجرس: BP159/8/س22ت9 1376

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 76-8156

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد للّه ربّ العالمين و الصلاة و السّلام على خير خلقه محمّد و آله الطّيّبين الطّاهرين

مقدّمة

قد تقدم في أول الكتاب أن علم الاصول: هو ما يبحث فيه عن كيفية تعيين الوظيفة، و ما يصح أن يعتذر به لها. و نتائج مسائله لا بدّ و أن تقع في طريق استفادة الوظائف و الاعتذار.

و الكلام في هذا القسم من الكتاب يقع في ما يصح الاعتذار به عند العقلاء و لم يردع عنه الشارع.

و هو إما عذر بنفسه أو لا، و الثاني إما أن تعتبر العذرية فيه لأجل الكشف الناقص الموجود فيه أو لا. و الأول هو القطع، و الثاني الظن، و الثالث الشك الذي يكون موردا لاعتبار الاصول العملية الأربعة.

و إن شئت قلت: الاعتذار إما بما فيه الكشف التام، أو الكشف الناقص، أو بما لا كشف فيه.

و المقصود بالقطع و الظن و الشك هنا، ما حصل للمجتهد الباحث في الأدلة الفاحص عنها، لأن ما حصل من هذه الصفات لغيره لا يترتب عليه هذا الأثر قطعا، فلا يكون من مسائل الفن رأسا، و اعتبار القطع لكل من حصل له في

ص: 5

الجملة. و كذا اعتبار الاصول الجارية في الشبهات الموضوعية لغير المجتهد أيضا لا يصلح لأن يكون من مسائل الاصول، إذ ليس كلما اعتبر لكل أحد من مسائله، بل هو نحو اعتبار خاص يتوقف على مقدمات مخصوصة من البحث و الفحص و اليأس، و الوقوع في طريق الاستنتاج الفرعي، و غير المجتهد بمعزل عن ذلك كله.

ثم إن الحق تثليث الأقسام، كما مرّ لأن المقام من قبيل ذكر الفهرس لما يأتي من المباحث المتعلّقة بالقطع و الظن و الشك، فينبغي ذكر الثلاثة بالخصوص إرشادا إلى الموضوعات الآتية.

إن قلت: الظن غير المعتبر بحكم الشك، و المعتبر منه بحكم القطع مع أن متعلّقهما إنما هو الحكم الفعلي، و هو إما مقطوع به أو لا، فلا وجه للتثليث.

قلت: أما الإلحاق حكما فهو لا يضرّ بالتعدد - موضوعا - الذي لا بد من ذكره في المقام مقدّمة للمباحث الآتية.

و أما أن متعلّقهما الحكم الفعلي، و هو إما مقطوع به أو لا، فليس ذلك إلا مجرد التغيير في التعبير، لاشتمال قول (أو لا) على الظن و الشك، و لذا فسّره بهما في الكفاية، فراجع. مع أن الحكم الفعلي معتبر طريقا إلى الواقعي و لا موضوعية فيه بوجه، فلا وجه لذكره بالخصوص.

ثم إنه مع حصول الشك يتحقق موضوع الاصول العملية، و المتداول منها في الفقه الأربعة المعروفة: الاستصحاب، و الاحتياط، و التخيير، و البراءة. و هي من الاصول المعتبرة العقلائية التي لم يردع عنها الشرع، بل أمضاها، و لا تختص بباب دون باب بل تجري في جميع الأبواب، و حصرها في الأربعة استقرائي، و يصح أن يكون عقليا بالعرض، كما يأتي.

و هناك أصول اخرى ليست بذلك العموم و السريان فتختص ببعض الأبواب فقط، كأصالة احترام المال و العرض و النفس، و أصالة الحرية، و أصالة

ص: 6

الصحة، و أصالتي الطهارة و الحلية، و أصالة عدم التذكية، إلى غير ذلك من الاصول المعتبرة.

و يمكن تقرير حصر مجاري الاصول الأربعة المعروفة بوجه عقلي، بأن يقال: الشك إما أن تلحظ فيه الحالة السابقة أو لا تلحظ، و على الثاني إما أن يعلم بالتكليف و لو بجنسه أو لا يعلم. و على الأول إما أن يمكن الاحتياط أو لا يمكن.

و الأول مجرى الاستصحاب، و الثاني مجرى الاحتياط، و الثالث مجرى التخيير، و الرابع مجرى البراءة.

و حيث أن هذه الاصول الأربعة مختصة بمجاريها اختصاص العرض بموضوعه، يكون الحصر فيها عقليا، لكن بالعرض لا بالذات - كما لا يخفى - و ليس في البحث عن كيفية الحصر مطلقا ثمرة عملية، بل و لا علمية.

ثم إن الاستصحاب برزخ بين الأمارة المحضة و الأصل المحض، فيصح أن يقال: إن ما اعتبر إما أمارة محضة، أو أصلا محضا، أو برزخا بينهما.

و الأول كخبر الواحد مثلا، و الثاني كالبراءة، و الثالث كالاستصحاب.

ص: 7

ص: 8

المقصد الأول ما يكون معتبرا في نفسه

اشارة

ص: 9

ص: 10

و هو القطع و البحث فيه عن امور:

الأمر الأول و فيه جهات من البحث:

الاولى: المعروف أن مبحث القطع ليس من مسائل فن الاصول

، لعدم وقوعه في طريق استنباط الحكم الفرعي، لأنه إذا قطع بحكم أو موضوع يقال:

هذا واجب، أو هذا ماء - مثلا - و لا يقال: هذا مقطوع الوجوب أو مقطوع المائية، لكونه بالنسبة إلى متعلّقه طريقا من دون أن يكون مأخوذا فيه بوجه من الوجوه.

و يرد عليه: ما مرّ في أول الكتاب من أن علم الاصول ما يبحث فيه عن كيفية استفادة الوظائف العملية، و ما يصح أن يعتذر به لها، و لا ريب في أن القطع مما يصح الاعتذار به، بل هو الأصل فيه، فلا فرق بينه و بين الأمارات و الاصول العملية من جهة صحة الاعتذار في الوظائف العملية، التي هي المناط في المسألة الاصولية، ففي المقام يقال: هذا واجب للقطع به، و كلما وجب للقطع به يصح الاعتذار به، فهذا يصح الاعتذار به، و كذا في القطع بالنسبة إلى الموضوع، كالمائية و نحوها.

الثانية: لا ريب في أن القطع، كسائر الصفات النفسانية له حقيقة خاصة و آثار مخصوصة

، و حقيقته الكشف و المرآتية، و آثاره وجوب العمل على طبقه

ص: 11

و استحقاق العقاب على مخالفته، و كونه عذرا مع المخالفة للواقع، قصورا لا تقصيرا، و هذه الآثار من المرتكزات التي يلتزم بها كل عاقل، فوجوب العمل على طبقه ليس وجوبا شرعيا، بل هو من الوجوب الارتكازي العقلي، كوجوب دفع الضرر.

و يصح تعلّق الجعل الشرعي بهما إثباتا للتأكيد و ردعا لمصالح يعرفها الشارع، بل الظاهر صحة تعلّق الجعل بجهة الكاشفية أيضا للتأكيد و إتمام الحجة، كما يصح ردع الشارع عنها، لأن اعتبار الكواشف مطلقا في الشريعة معلق على عدم ردع الشارع عنها، فالقاطع و إن كان يرى الواقع باعتقاده و لكن الشارع الحكيم له أن يقول: لا اعتبر الواقع، و لا أريده منك و لا محذور فيه.

ثم إن تحقق القطع بالنسبة إلى القاطع و جعله له إنما هو بالجعل البسيط، و هو إيجاده بما يوجب حصوله في النفس من ترتيب المقدمات الدخيلة في حصوله.

و أما الجعل المؤلف - و هو جعل الحجية و الكاشفية له - فهو غير معقول، لأنه إنما يكون بين الشيء و عوارضه المفارقة، لا بينه و بين ذاتياته، لأن مناط هذا الجعل إنما هو الفقدان، و لا يعقل أن يكون الشيء فاقدا لذاتياته، فلا يعقل الجعل التكويني بين القطع و الكشف و الحجية لهذه الجهة - على المعروف بين الفلاسفة و إن ناقشنا فيه خصوصا بالنسبة إلى مجعولات اللّه تعالى في محله - لا لأنه مستلزم للتسلسل، كما عن جمع من الاصوليين بدعوى: أن حجية كل شيء لا بد و أن تنتهي إلى العلم، فإن كانت حجيته مجعولة يلزم التسلسل، و ذلك لأن التسلسل إنما يلزم إن كان جعل الحجية للقطع بنحو القضية الخارجية. و أما إذا كان على نحو القضية الطبيعية، فلا يلزم ذلك، كما لا يخفى.

و حيث لا يعقل جعل الحجية للقطع على المشهور، فلا يعقل سلبها عنه أيضا، لأن كل ما لا يمكن تعلّق الجعل بوجوده لا يمكن تعلّقه بعدمه أيضا، لأن

ص: 12

معنى القدرة - كما ثبت في محله - هو إن شاء فعل و إن شاء ترك، فالقدرة تساوي المشية بالنسبة إلى طرفي الوجود و العدم، و عدم إمكان تعلقها بالنسبة إلى طرف يستلزم عدم إمكانه بالنسبة إلى الطرف الآخر، كما هو واضح، هذا كله في الجعل التكويني.

و أما الجعل التشريعي، فقالوا بعدم إمكانه أيضا، لأنه لإيجاد الداعي و هو حاصل للقاطع لأجل قطعه، فيكون الجعل التشريعي لحجية القطع حينئذ من تحصيل الحاصل المحال.

و يردّ: بأنه كذلك لو لم يكن غرض صحيح عقلائي في البين، كإيجاد الداعى من قبل الشارع أيضا و إتمام الحجة، و هما من أكمل الأغراض الصحيحة العقلائية، و أتمها في تشريع الشرائع الإلهية، فيكون القطع حينئذ، كسائر الحجج العقلائية التي شملتها عناية الشارع و لو بعنوان عدم الردع، هذا بالنسبة إلى جعل الحجية الشرعية للقطع.

و أما بالنسبة إلى سلب الحجية عنه، فقد قالوا أيضا بأنه لا يمكن للشارع سلب الاعتبار و الحجية عن القطع، لأنه إما أن يحكم حينئذ في مورده بعين الحكم المقطوع به، و هو تحصيل للحاصل، أو بمثله، و هو من اجتماع المثلين في نظر القاطع، أو بضده، و هو من اجتماع الضدين فيه، أو لا يحكم بشيء أبدا، فيلزم خلوّ الواقعة عن الحكم، و هو خلاف ما تسالموا عليه من عدم جوازه.

و يردّ الأول بما مرّ من إمكان تصوير الغرض الصحيح العقلائي فيه، فيخرج من موضوع تحصيل الحاصل حينئذ، و الثاني و الثالث بأن الأحكام اعتبارات عقلائية، و يعتبر في اجتماع المثلين أو الضدين أن يكونا من الموجودات الخارجية، كما ثبت في محله، و على فرض كونها موجودات خارجية، أو يكون المراد بهما مطلق المعاندة العرفية، يكفي اختلاف الحيثية في رفع محذور الاجتماع، فمن حيث صلاحية متعلق القطع للداعوية يكون مورد

ص: 13

الحكم الشرعي المجعول، و من حيث تعلّق القطع به يكون مورد حكم آخر، و لا ريب في كونهما حيثيتين مختلفتين عرفا قابلتين لرفع محذور التماثل و التضاد.

و يردّ الرابع بأن الممنوع هو الخلو عن الحكم الواقعي النفس الأمري دون الفعلي الظاهري، فلنا أن نلتزم بعدم حكم للشارع ظاهرا، و إن كان له فيها حكم واقعا.

فتلخّص: أنه يمكن جعل الحجية للقطع من الشارع، كما يمكن له سلبها عنه، و ربما يأتي بعض ما ينفع المقام في مستقبل الكلام.

الثالثة: للحجية إطلاقات ثلاثة
اشارة

منها: ما يصح الاعتذار و الاحتجاج به، و بهذا الإطلاق يصح إطلاقها على القطع و جميع الأمارات المعتبرة، بل و الاصول العملية و القواعد الفقهية أيضا، و لا محذور فيه أبدا من عقل أو نقل.

و منها: ما اصطلح عليه أهل الميزان، و هو ما كان علة لتحقق الشيء و ثبوته و يذكر في البرهان عليه - كالتغير الذي هو علة للحدوث، و يذكر في البرهان على الحدوث، فيقال: العالم متغير، و كل متغير حادث، فالعالم حادث - و ظاهرهم بل صريح بعض عدم صحة إطلاق الحجة بهذا المعنى على القطع، لعدم كونه علة لثبوت المقطوع به، بل يكون كاشفا عنه.

و فيه: إن القطع علة لثبوت المقطوع به الأوّلي الذاتي القائم بالنفس.

نعم، هو كاشف عما يكون في الخارج و بينهما نحو اتحاد، فيصح إطلاق الحجة بهذا المعنى عليه أيضا.

و لنا أن نفرض ما يكون القطع فيه علة للثبوت خارجا أيضا، لأن القطع بشيء علة لاستحقاق العقاب على مخالفته و الثواب على الموافقة، فيقال - مثلا - هذا مقطوع الوجوب، و كل مقطوع الوجوب يستحق العقاب على مخالفته، فهذا يستحق العقاب على مخالفته، فلا وجه لنفي إطلاق الحجة بهذا المعنى على

ص: 14

القطع على نحو الإطلاق.

و منها: ما اصطلح عليه في الاصول، و هو ما يكون واسطة في الإثبات شرعا، كالأدلة الاجتهادية و القواعد المعتبرة التي نثبت بها الأحكام، و كالبيّنة و قول ذي اليد و نحوهما مما تثبت به موضوعاتها، فكل ما يكون معتبرا شرعا تأسيسا أو إمضاء و يثبت به حكم أو موضوعه، تطلق عليه الحجة باصطلاح الاصول.

و الظاهر عدم الاختصاص لها بالاصول حتى تكون اصطلاحا خاصا فيه، لأن الواسطة في الإثبات شائعة في جميع العلوم، فكل ما يكون منشأ لإثبات مورده عقلا أو عرفا أو شرعا، يسمى دليلا و حجة، و واسطة في الإثبات.

و عن جمع منهم شيخنا المحقق النائيني قدّس سرّه: عدم صحة إطلاق الحجة على القطع بهذا المعنى أيضا، لعدم كونه واسطة في الإثبات شرعا، لما قالوا من أن اعتباره عقلي و لا يمكن الجعل الشرعي بالنسبة إليه.

و يرد عليه: ما تقدم من إمكان تعلّق الجعل الشرعي به و لو على نحو الإمضاء، و سيأتي أن حجية جلّ الحجج الشرعية - لو لا كلها - إمضائية و لو بنحو عدم ثبوت الردع، فليكن القطع أيضا كذلك، بل يصح إطلاق الحجة بهذا المعنى على الاصول العملية أيضا، لكونها واسطة لإثبات متعلّقاتها في الجملة، فيقال:

هذا مما قامت عليه أصالة البراءة، و كل ما قامت عليه أصالة البراءة لا إلزام بالنسبة إليه، فهذا لا إلزام بالنسبة إليه، و كذا في سائر الاصول العملية، و لا فرق فيه بين كونها اصولا عقلائية ممضاة شرعا، - كما اخترناه على ما سيأتي في محله - أو كانت اصولا شرعية، كما يظهر عن جمع.

و يصح إطلاق الحجة بهذا المعنى - أي بالاصطلاح الاصولي - على القطع أيضا، فيقال بالنسبة إلى الموضوعات: هذا خمر، لأني أقطع بخمريته، و بالنسبة إلى الأحكام هذا صحيح، لأني أقطع بصحته، و في جملة من كلمات الفقهاء هذا

ص: 15

حرام - مثلا - قطعا، أو هذا مما قطع به الأصحاب، إلى غير ذلك مما هو كثير في العرف و في الفقه.

فتلخّص من جميع ما مرّ صحة إطلاق الحجة على القطع بإطلاقاتها الثلاثة بلا محذور فيه أبدا، هذا كله في القطع الطريقي.

و أما القطع الموضوعي فلا إشكال من أحد في صحة إطلاق الحجة عليه بالإطلاقات الثلاثة، لصحة تعلّق الجعل به، إذ لا معنى لأخذه في الموضوع إلاّ ذلك، سواء كان تمام الموضوع أو جزءه بنحو الصفتية الخاصة أو بنحو الكشف.

و ينبغي التنبيه على امور:
الأول: القطع إما طريق محض إلى الواقع

بلا دخل له في الموضوع أصلا، كما هو الغالب فيه في العقليات و الشرعيات و العرفيات.

أو مأخوذ في الموضوع إما بنحو تمام الموضوع أو جزئه، و كل منهما إما بنحو الكاشفية و الطريقية، أو بنحو الصفة الخاصة، فهذه الأربعة مع القسم الأول تصير خمسة أقسام.

و المراد بتمام الموضوع أنه هو المناط في الحكم، لا أن يكون الموضوع مركبا منه و من متعلّقه و إن كان يلزمه المتعلّق، لأن القطع من الصفات ذات الإضافة لا تحقق له بدون المتعلّق، فيكون زواله من تبدّل الموضوع لا من تبين الخلاف.

و المراد بجزء الموضوع أن الموضوع مركب منه و من متعلّقه و لكل منهما دخل في تحقق الموضوع.

و يتصور هذه الأقسام الخمسة في جميع الأمارات، بل يصح فرضها في الاصول العملية أيضا، لأن الفرض و الاعتبار قليل المئونة، و لكن لا مصداق

ص: 16

لجميع هذه الأقسام مطلقا في الفقه إلا للطريقي منها فقط، و إن قيل أن لها مصاديق لكن لا تخلو من مناقشة فلا وجه لتعطيل الوقت فيها.

ثم إن جميع الأمارات تقوم مقام القطع الطريقي المحض، و كذا في ما أخذ في الموضوع من جهة الكشف و الطريقية بنفس دليل اعتبارها، بخلاف ما أخذ في الموضوع بنحو الصفتية الخاصة.

الثاني: لا ريب في كون الاطمئنان العقلائي حجة عقلائية

، و له مراتب متفاوتة أعلاها القطع و أدناها الظن، و كل ما هو حجة عقلائية حجة شرعية أيضا إلا إذا ثبت الردع عنها، فاللازم على الاصولي إثبات دليل الردع، فيكون البحث عن الحجية مطلقا من التطويل بلا طائل، و يكفي في عدم الردع - في الامور العامة الابتلائية بين الناس - أصالة عدمه، و كما لا يخفى.

الثالث: ذكروا أن حكم العقل باعتبار القطع

تنجّزي غير معلّق على شيء بخلاف الظن الانسدادي بناء على الحكومة، فإن أصل اعتباره معلّق على عدم ثبوت الردع من الشارع، فلا يقاس أحدهما على الآخر.

و استدل عليه: بأن العقل لا يحكم بشيء إلا مع إحاطته بجميع ما له دخل في حكمه، فمع إحاطته بذلك يحكم و ينتجز، و مع العدم فلا حكم له أصلا.

و فيه: أنه صحيح في العقل المحيط بالواقعيات إحاطة واقعية من كل جهة.

و أما العقول التي هي في طريق الاستكمال في كل آن فلا وجه لذلك، فكم قد ثبت الخطأ في الأحكام العقلية، و ليس لأحد أن يدعي أن مطابقة القطع للواقع أكثر من مطابقة الأمارات المعتبرة، و مخالفة الأمارات أكثر من مخالفة القطع له، مع أنه لا بد و أن يكون اعتبار الكواشف مطلقا بالنسبة إلى واقعية كل شريعة - اصولا و فروعا - تحت حيطة صاحب الشريعة. و إلا اختل النظام.

الرابع: قد أشرنا إلى أنه لا يمكن الجعل التأليفي بين الشيء و ذاتياته

، و لكن لا بد و أن يعلم أن الذاتي على قسمين: ذاتي واقعي، و ذاتي إدراكي،

ص: 17

و بينهما عموم من وجه، و ما لا يمكن الجعل فيه هو الأول دون الثاني، و مع الشك يصح الجعل، لأن موضوع الامتناع إحراز الذاتية الواقعية، كما أن المراد بلوازم الذات التي لا يصح الجعل التأليفي فيها اللوازم للماهية و الذات الواقعية دون اللوازم العقلائية للشيء، فيصح فيها الجعل التأليفي بلا إشكال.

و الظاهر أن استحقاق العقاب على المخالفة و لزوم الموافقة و العذر لدى القصور بالنسبة إلى القطع من القسم الثاني دون الأول، فيصح فيها الجعل التأليفي تكوينا و تشريعا. و لو شك في أنها من القسم الأول أو الثاني يلحق بالأخير، لعدم إحراز الذاتية الأولية.

الخامس: عن المحقق الخراساني قدّس سرّه أن للحكم مراتبا أربع..
الاقتضاء:

و يعبّر عنه بالشأنية أيضا، و هذه المرتبة عبارة عن المصالح

و المفاسد

المقتضية لتشريع الحكم على طبقها.

و الإنشاء:

و هي عبارة عن مجرد الجعل و التشريع.

و الفعلية:

و هي عبارة عن وصوله إلى المكلف.

و التنجز:

و هي عبارة عن استجماع المكلف لجميع شرائط التكليف و فقده لموانعه.

و يرد عليه.. أولا: أنه إن أراد الإطلاق الحقيقي، فلا يطلق الحكم حقيقة على مرتبة الاقتضاء، لأنه من التكوينيات، و لا ريب في أن الحكم من المجعولات الاعتبارية. و إن أراد الأعم منه و من المجازي، فمبادئ الحكم من العلم بالصلاح، و الإرادة، و نحوهما أيضا، يصح إطلاق الحكم عليها مجازا، فلا وجه للتخصيص بالأربع، إلاّ أن يريد بالاقتضاء المعنى الأعم الشامل لجميع ذلك كله.

و ثانيا: أن التحقيق - كما يأتي إن شاء اللّه تعالى - في مورد الأمارات المعتبرة إنما هو جعل الحجية فقط دون الحكم، فلا وجه لهذا التقسيم في مورد

ص: 18

الأمارات، بل لا وجه له في مورد القطع أيضا، إذ لا أثر للقطع بالحكم الاقتضائي و الإنشائي أصلا، كما صرح هو قدّس سرّه بذلك أيضا.

و الحق أن الحكم - خالقيا كان أو خلقيا - جعل القانون بداعي صيرورته فعليا بالنسبة إلى واجدي الشرائط، سواء كانوا كذلك حين صدوره أو بعد ذلك فهو فعلي أبدا من طرف الجاعل لصلاحيته لإتمام الحجة و البيان، كما أنه كذلك بالنسبة إلى واجدي الشرائط مطلقا. و بالنسبة إلى غيرهم لا حكم أبدا حتى يبحث عن أنه إنشائي أو لا، لأن الإنشاء إن كان بلا داع فهو محال عليه تعالى و قبيح بالنسبة إلى غيره، و إن كان بداع آخر غير الفعلية فلا وجه لصيرورته فعليا حين تحقق الشرائط.

و خلاصة القول:

أنه ليس للحكم إلا مرتبة واحدة، و هي الفعلية، سواء اضيف إلى الحكم أو إلى المحكوم فلا وجه للتقسيم إلى مرتبة الاقتضاء و الإنشاء و التنجز، مع أنه لا تترتب على هذه المراتب ثمرة عملية بل و لا علمية، فالإعراض عنها أولى و أجدر، مع أنه لا مشاحة في الاصطلاح.

ص: 19

الأمر الثاني التجري و ما يتعلق به

تمهيد:

هذه المسألة - كجملة من مسائل الاصول - فيها ملاك الفقهية و الاصولية و الكلامية، فإن كان عنوان البحث في أن التجري حرام أو لا؟ و أن الفعل المتجرى به محرم أو باق على ما كان عليه؟ فهو فقهي.

و إن كان عنوان البحث في أن أدلة التكاليف الواقعية هل تشمل الموضوعات الاعتقادية أو لا؟ فهو اصولي.

و إن كان العنوان في أن التجري هل يوجب استحقاق العقاب أو لا؟ فهو كلامي.

فيصح أن يكون بكل من هذه الجهات مورد البحث و النظر.

و لا اختصاص للتجري بخصوص القطع، بل يجري في جميع ما هو معتبر شرعا، قطعا كان أو أمارة أو أصلا مع تبين الخلاف.

نعم، لو كان القطع أو الأمارة مأخوذا في الموضوع على نحو الصفتية الخاصة، فلا وجه لجريان التجري فيه، فإن مخالفته حينئذ تكون معصية حقيقية و زواله يكون من تبدل الموضوع لا من تبين الخلاف، كما لا يخفى.

ص: 20

حكم التجري:

التجري و الانقياد من الموضوعات العرفية في جميع الأزمان و المذاهب و الأديان، فلا بد في الحكم بقبح الأول و كونه موجبا لاستحقاق الذم أو العقاب، و حسن الثاني، و كونه موجبا لاستحقاق المدح أو الثواب، من الرجوع إلى المرتكزات العقلائية، و لو ورد دليل من إجماع أو نص فهو إرشاد محض إلى المرتكزات، لا أن يكون دليلا مستقلا في مقابلها.

نعم، يمكن أن يلاحظ فيه جهة المولوية أيضا مضافا إلى الإرشاد.

فالتجري إما أن يوجب استحقاق العقاب أو لا، و على الثاني إما أن يوجب القبح الفاعلي أو لا، و قال بكل من هذه الاحتمالات قائل.

و الحق أن التجري يوجب استحقاق العقاب، لأن المناط في إيجاب المعصية الحقيقية لاستحقاق العقاب ليس إلا هتك المولى و المبارزة معه و الظلم عليه، و لا ريب في تحقق ذلك كله في مورد التجري لدى العقلاء كافة، فيصح تشكيل القياس على نحو الشكل الأول، فيقال: التجري هتك للمولى، و كل هتك له يوجب استحقاق العقاب، فالتجري يوجب استحقاق العقاب.

إن قلت: نعم، و لكن لتفويت الغرض و تحقق المخالفة مدخلية أيضا.

قلت: تفويت الغرض في الرتبة المتأخرة عن الهتك و الظلم على المولى، و هما في الرتبة الاولى، فيقال تجرأ على المولى ففوت غرضه.

إن قلت: إن ذلك موجب لتعلّق استحقاق العقاب بأمر غير ملتفت إليه، بل غير اختياري، و هو باطل، لأن عنوان التجري، كالناسي من حيث أن النسيان غير ملتفت إليه، و كما أن الناسي لو التفت إلى نسيانه لزال نسيانه بلا إشكال فكذا التجري، و إذا لم يكن ملتفتا إليه لم يكن اختياريا، فيلزم ما ذكر.

قلت: مورد الاستحقاق هو حيثية الهتك و الطغيان، و لا ريب في كونهما

ص: 21

ملتفتا إليهما و كونهما اختياريين، كما لا يخفى.

إن قلت: مع تحقق الاستحقاق في مورده إن بقي الواقع على ما كان عليه من عدم استحقاق العقوبة عليه فهو من اجتماع الضدين، و إن انقلب عما كان عليه فلا موجب له، لما يأتي من عدم تغير الفعل المتجري به بالتجري.

قلت: يبقى الواقع على ما كان عليه و لا يلزم اجتماع الضدين، لاختلاف الجهتين، فإن جهة الطغيان التي هي مورد الاستحقاق غير جهة واقع الفعل المتجرى به، و لا ربط لإحداهما بالاخرى.

إن قلت: استحقاق العقاب على المخالفة الاعتقادية مستلزم لشمول الخطابات الأولية للمخالفة الواقعية و الاعتقادية معا، و لا جامع بينهما إلا الإرادة و الاختيار و العلم، و الأولان غير اختياريين مع أنهما غير ملتفت إليهما حين الفعل، و الأخير طريقي إلى المخالفة الواقعية و موضوعي في الاعتقادية.

و موضوعية العلم لشيء - خلاف الأصل - تحتاج إلى دليل بالخصوص، و هو مفقود.

قلت: كل ذلك تطويل بلا طائل، لأن الهتك و الطغيان على المولى من المستقلات العقلية لاستحقاق العقوبة، و هو الجامع للمخالفة الواقعية و الاعتقادية، و تشمل الأدلة الأولية لهما بهذا الجامع القريب.

إن قلت: ورد في جملة من الأخبار العفو عن قصد المعصية، و إطلاقها يشمل المقام أيضا.

قلت: مع أنها معارضة بأكثر منها، مما تدل على ثبوت الاستحقاق من الآيات الكريمة مثل قوله تعالى: وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ . و الأخبار التي أشار إلى بعضها شيخنا الأنصاري قدّس سرّه محمولة على التفضل، فلا ينافي أصل الاستحقاق.

و يمكن الجمع بينهما. إما بحمل ما دلّ على الاستحقاق على ما إذا لم

ص: 22

يمت مؤمنا بل مات كافرا و العياذ باللّه، و ما دلّ على العفو على ما إذا مات مع الإيمان، فيشمله التفضل حينئذ.

أو بحمل ما دلّ على العفو على ما إذا ارتدع بنفسه. و ما دلّ على الثبوت على ما إذا منعه عن قصده مانع خارجي.

أو بحمل ما دلّ على الثبوت على بعض المراتب، و ما دلّ على العدم على بعض مراتب اخرى، لأن للعقوبة و الاستحقاق مراتبا متفاوتة جدا، أدناها الحرمان عن الالتذاذ بالمناجاة مع اللّه تعالى، و سلب التوفيق لصلاة الليل - مثلا - و أعلاها الخلود في النار، و بينهما مراتب كثيرة شدة و ضعفا.

و يمكن أن يحمل على الأشخاص، فإن إرادة المعصية بالنسبة إلى الأولياء و العلماء العاملين تعدّ معصية لدى العرف أيضا، بخلاف إرادتها بالنسبة إلى الجهّال و نحوهم من الغافلين.

و قد يستدل على استحقاق العقاب في التجري بأنه لو فرض أن شخصين قطع كل واحد منهما بخمرية ما في إنائه الخاص به و شرباه، فصادف أحدهما الواقع و لم يصادف الآخر. فإما أن نقول باستحقاق كل منهما للعقاب، أو بعدم استحقاقهما له، أو باستحقاق المصادف للواقع دون غيره. و الأخير مستلزم لتعلّق الاستحقاق بأمر غير اختياري، و الثاني مخالف للضرورة فيتعين الأول.

و فيه: أن العرف و الوجدان شاهد بصحة الأخير لتطابقهما على أن من صادف قطعه الواقع، شارب للخمر باختياره، و أن غير المصادف لم يشرب الخمر، بل لم يحصل منه إلا مجرد الجرأة و الطغيان و الهتك بالنسبة إلى المولى.

و بالجملة يكفينا التأمل في مفهوم التجري و الجرأة في الحكم باستحقاق العقاب بالنسبة إلى التجري.

ثم إنه قد تكرر في كلمات شيخنا الأنصاري قدّس سرّه أن التجري كاشف عن سوء السريرة و خبثها و شقاوتها. و تبعه صاحب الكفاية على ذلك أيضا.

ص: 23

و يردّ: بأن صدور المعصية الحقيقية أعم من خبث السريرة و الشقاوة، لأن السعيد أيضا قد يصدر منه الذنب و الطغيان. لغلبة الجهالة و الشهوة، كما هو معلوم، بل لا يترصد الشيطان إلاّ للسعداء.

نعم، الشقاوة و الخبث الذاتي منشأ للطغيان و صدور المعاصي على نحو الاقتضاء، لا العلية التامة، و ليس كل من تصدر منه المعصية شقيا و خبيثا، كما أنه ليس كل من تصدر منه الطاعة سعيدا و طيبا ذاتا، و قد ورد في جملة من الأخبار أن اللّه تعالى قد يحب العبد و يبغض عمله، و قد يبغض العبد و يحب عمله، و هذا موافق للأدلة العقلية أيضا.

و قد صرّح صاحب الكفاية قدّس سرّه بأن استحقاق العقاب في التجرّي و الثواب في الانقياد من تبعات البعد و القرب بالنسبة إلى اللّه تعالى، و يرجعان بالآخرة إلى الاستعداد الذي يكون ذاتيا، كذاتية الإنسانية للإنسان، و ذاتي الشيء ضروري الثبوت له و يكون غير معلل.

و هذا الكلام مخالف لما ثبت في محله من نفي الشقاوة و السعادة الذاتيّتين. بل للاختيار دخل فيهما. و عن بعض مشايخنا قدس سرّهم أنه: «كان بصدد حذف هذه الجملات من هنا و ما كانت مثلها في الطلب و الإرادة فلم يوفق له».

هذا بالنسبة إلى نفس صفة التجرّي من حيث هو.

و أما الفعل المتجرّى به فيمكن القول بقبحه أيضا، لكونه من مظاهر الطغيان و الظلم على المولى عرفا، و يكفي في ذلك قبحه لدى العقلاء من دون أن يستلزم الحرمة الشرعية، لكونها بلا ملاك بعد القبح العقلائي، و لو فرض وجود دليل شرعي عليها يكون إرشادا، كما في الإطاعة و المعصية الحقيقية، و لو لم يكن ما قلناه كافيا في قبحه فلا موجب له أصلا، لأن القطع بالحسن و القبح لا يغير الواقع عما هو عليه، بل هو باق على ما كان قبل التجري.

و الحاصل: أن التجري الخارجي قائم عرفا بالفعل و الفاعل معا، فينطبق

ص: 24

قبحه عليهما كذلك، فإثبات الحرمة إما بالعقل أو بالعرف أو بالشرع، و الأولان أجنبيان عن إثبات الحرمة، لأنه من شأن الشارع لا غيره، مضافا إلى أنهما يشهدان بعدم الحرمة. و أما الأخير فلا دليل في البين إلا ما ادعي في بعض صغريات التجري، كالإجماع المدعى على أنه مع خوف ضيق الوقت يأثم في تأخير الصلاة و إن بان السعة، و الإجماع المدعى على وجوب إتمام الصلاة على من خاف الضرر في سفره و إن بان الخلاف.

و فيه.. أولا: عدم الاعتماد على مثل هذه الإجماعات.

و ثانيا: بأن للخوف موضوعية في أمثال المقام، فيكون ذلك من المعصية الحقيقية، فلا موضوع للتجرّي حينئذ أصلا، كما مرّ من أن التجرّي إنما يتصور في ما هو طريقي فقط لا في ما له دخل في الموضوع و لو في الجملة.

و ينبعي التنبيه على امور:
الأول: تظهر الثمرة في القبح الفعلي و عدمه

في ما إذا كان عبادة، فلا يصح التقرّب به مع قبحه، كما إذا اعتقد غصبية المكان و مع ذلك صلّى فيه و حصل منه قصد القربة ثم بان الخلاف، فإن قلنا بالقبح الفعلي لا تصح الصلاة، لعدم صلاحية القبيح للتقرّب به، و إن لم نقل به تصح الصلاة و لا شيء عليه. هذا إذا احرز أن القبح الفعلي العرفي لازم للقبح الشرعي أيضا و موجب لاستحقاق العقاب. و أما إذا لم يحرز ذلك فلا وجه للبطلان أصلا، و لا طريق لنا لإثبات هذه الملازمة من عقل أو نقل على نحو الكلية.

الثاني: التجري طغيان و ظلم على المولى

، و قبحهما من المسلّمات لدى العقلاء، و لا يزول ذلك إلا بعروض عنوان حسن أرجح منه مع كونه ملتفتا إليه عمدا و اختيارا.

ص: 25

فما عن الفصول من أنه لو اشتبه عليه مؤمن ورع بكافر واجب القتل، و قطع بأنه الكافر و مع ذلك تجرى و لم يقتله، لا يستحق الذم على التجري لتدارك قبح تجرّيه بحسن حفظ النفس المحترمة.

مردود: بأن الطغيان صدر منه عن عمد و اختيار، بخلاف حفظ النفس المحترمة فإنه لم يكن ملتفتا إليه أصلا، فلا يوجب الحسن و استحقاق المدح، و ما كان كذلك كيف يرجح على القبيح الصادر منه بالعمد و الاختيار، و لا فرق في ذلك بين كون قبح التجري ذاتيا أو بالوجوه و الاعتبار، إذ الترجيح مطلقا لا بد و أن يكون بما يصدر عن العمد و الاختيار.

نعم، ملاك الحسن موجود فيه، و لكنه أيضا غير ملتفت إليه مع الالتفات إلى القبح و ملاكه المتحقق في التجري.

الثالث: لا ريب في تباين التجري الاصطلاحي مع المعصية الحقيقية،

لاعتبار عدم المصادفة مع الواقع في الأول و اعتبارها في الثاني.

فما عن صاحب الفصول من أنه مع مصادفة التجري للمعصية الحقيقية يتداخل عقابهما.

مخدوش.. أولا: بعدم تعقل مصادفة التجري الاصطلاحي للمعصية الحقيقية.

و ثانيا: على فرض التعقل بأن يكون مراده رحمه اللّه إتيان الحرام لأجل مبغوضيته لدى المولى لا لغلبة الشهوة و نحوها، فلا وجه حينئذ للتداخل مع كونه خلاف الأصل. إلاّ أن يكون مراده بالتداخل اشتداد العقاب لا التداخل الاصطلاحي.

نعم، لو شرب مائعا بقصد شرب جنس الحرام و اعتقد أنه خمر، فبان كونه مائعا نجسا، يمكن أن يتحقق فيه الحرام و التجري من جهتين.

الرابع: للتجري مراتب متفاوتة جدا..

ص: 26

فتارة: يكون في مجرد القصد فقط.

و أخرى: يكون فيه مع ارتكاب بعض المقدمات.

و ثالثة: مع الإتيان بما يعتقد كونه حراما.

و رابعة: يتحقق بمجرد عدم المبالاة في الدين.

و خامسة: في ارتكاب محتمل الحرمة برجاء إصابة الحرام.

و سادسة: في ارتكاب محتمل الحرمة برجاء عدم الإصابة.

و يجمع الجميع مفهوم التجري في الجملة مع الاختلاف في الضعف و الشدة، و المتيقن من استحقاق العقاب و قبح الفعل هو القسم الثالث.

و يمكن القول بالاستحقاق و القبح في باقي الأقسام أيضا مع اختلاف المراتب.

ثم إنه لا فرق في ما مرّ في التجري - من الأحكام و الأقسام - بين القطع و غيره، فتجري في الأمارات و الاصول المعتبرة أيضا.

و لا يخفى أنه يجري جميع ما مرّ في التجري - من الأحكام و الأقسام - في الانقياد أيضا، لكن مع استحقاق الثواب و حسن الفعل المنقاد به بالأدلة الأربعة.

ص: 27

الأمر الثالث أقسام القطع و ما يتعلّق بها

لا يخفى أن مقتضى طبع القطع أن يكون طريقا محضا إلى متعلّقه - كسائر الحجج و الأمارات - فأخذه في الموضوع مطلقا يحتاج إلى دليل خاص يدل عليه، و يكون فيه تابعا لمقدار دلالة الدليل فقط..

فتارة: يؤخذ فيه على نحو يكون تمام الموضوع، بأن يدور الحكم مدار القطع، أخطأ أو أصاب.

و أخرى: يكون بنحو جزء الموضوع، بأن يدور الحكم مدار القطع و متعلقه معا بحيث ينتفي بانتفاء أحدهما.

و على كل منهما إما أن يؤخذ فيه من حيث أنه كاشف عن الواقع، أو من حيث أنه صفة خاصة من صفات النفس في مقابل الظن و الوهم و سائر الصفات النفسانية، فهذه أربعة أقسام.

و على كل منها إما أن يؤخذ القطع بموضوع خارجي في متعلق حكم، مثل أن يقال: إن قطعت بدخول الوقت وجب عليك الصلاة، أو يؤخذ القطع بحكم في متعلّق حكم آخر، مثل أن يقال: إن قطعت بوجوب الصلاة وجبت عليك الطهارة، و هذه ثمانية أقسام؛ و هى اصولها فى الجملة و يمكن تشعب أقسام أخر منها. و سيأتي إمكان أخذ القطع بحكم في موضوع نفسه أيضا، فتكون الأقسام تسعة، و بضميمة القطع الطريقي المحض تصير عشرة كاملة، بل قد تكون أكثر.

ص: 28

و لو شك في قطع أنه أخذ في الموضوع - بأي نحو كان - أو لم يؤخذ فيه، فمقتضى الأصل عدم أخذه فيه، لأن هذه خصوصية زائدة منفية بالأصل، مضافا إلى أصالة الطريقية المحضة و الكشف في القطع مطلقا إلا ما خرج بالدليل.

ثم إنه لا ريب في أن أهم آثار القطع صحة الاعتذار به و الاستناد إليه، و هذا هو الأثر الذي يكون ملتفتا إليه لدى العقلاء.

و أما الكشف عن الواقع و إن كان من لوازمه أيضا، و لكنه مغفول عنه غالبا، لأن القاطع لا يرى إلا الواقع و لا يلتفت إلى قطعه و جهة الكشف غالبا، و حينئذ فكل ما صح به الاعتذار و جاز الاستناد إليه يقوم مقامه من هذه الجهة و الحيثية بنفس دليل اعتباره، سواء كان أمارة أو أصلا، موضوعيا أو حكميا، أي أصل كان، إذ لا وجه لاعتباره إلا صحة الاعتذار به و الاستناد إليه، و لا نحتاج إلى ملاحظة جهة الكشف فيها أبدا، لما مرّ من أنها في القطع - الذي هو ام الأمارات و أصلها - مغفول عنها فضلا عن غيره.

إن قلت: هذا صحيح في الأمارات التي يستند إليها و يعتذر بها، و أما في الاصول العملية التي ليس فيها إلا العمل على طبقها، فلا وجه لذلك.

قلت: المقصود الأصلي في الأمارات و الاصول مطلقا هو العمل، فلو لم يكن لها أثر عملي لما كان لاعتبارها وجه، فلا فرق بينهما من هذه الجهة، و تسمية الاصول بالعملية في مقابل الاصول اللفظية التي لها دخل في العمل بالواسطة، لا في مقابل الأمارات، بأن تكون الاصول العملية دخيلة في العمل بخلاف الأمارات، فإن ذلك فاسد قطعا، بل جميع مباحث الاصول لا بد و أن يكون لها ثمرة عملية، كما تقدم ذلك في الجزء الأول من هذا الكتاب. و حينئذ فنقول الأمارات و الاصول العملية و القواعد المعتبرة في حدّ أنفسها امور معتبرة يصح الاسناد إليها لدى العقلاء، كشف عنها الشارع أو لم يردع عنها، و كل ما كان كذلك يقوم مقام القطع، إما في عرض إمكان تحصيله أو بعد تعذر حصوله، إذ

ص: 29

المناط كله صحة الاعتذار بها و جواز الاستناد إليها، و هذه الجهة موجودة في الجميع.

ثم إن ما ذكرناه إنما هو بحسب أصل قيامها مقام القطع في الجملة و لا ينافي ذلك تقدّم بعضها على بعض في أنفسها، كما سيأتي في محله من تقدّم الأمارات على الاصول مطلقا و تقدّم الاصول الموضوعية على الحكمية، و في الاصول الحكمية يقدّم الاستصحاب على الجميع.

و بالجملة: أن نفس أدلة اعتبار الأمارات و الاصول متكفلة بتنزيلها منزلة القطع، لتحقق حيثية الاعتبار و الاعتذار فيها، و يمكن التمسك لذلك بالسيرة العقلائية، فإنهم لا يزالون يعتذرون بها مثل اعتذارهم بالقطع، هذا في القيام مقام القطع الطريقي المحض.

و أما القيام مقام ما أخذ في الموضوع فالحق صحته أيضا فيما أخذ فيه من حيث الكشف و الاعتذار، لا من حيث صفة القطعية فقط، لأنه في قوة أن يقال:

إن القطع فقط دون غيره مأخوذ في الموضوع، و حينئذ فلا وجه لقيام شيء مقامه بخلاف ما أخذ فيه من جهة الكشف و الاعتذار، لأن العلة التامة للدخل في الموضوع، و المناط فيه كله ليس إلا صحة الاعتذار و الاعتبار لدى العقلاء، فإذا كان مناط الدخل فيه ذلك فكل ما كان فيه، هذا المناط يقوم مقامه قطعا بنفس دليل الاعتبار، لفرض تحقق المناط فيه و يكون الدخل في الموضوع بالملازمة العرفية العقلائية قهرا، لأنه لا مناط للدخل فيه غير جهة الاعتبار و الاعتذار.

و لكن اورد عليه بوجهين:

الأول: أنه مستلزم للجمع بين اللحاظ الاستقلالي و الآلي في آن واحد في مورد واحد و استعمال واحد من متكلم واحد، و هو باطل، لأنه من الجمع بين الضدين، لأن لحاظ الدخل في الموضوع يستلزم اللحاظ الاستقلالي، و لحاظ الكشف عن الواقع يستلزم اللحاظ الآلي، فيلزم المحذور.

ص: 30

و يرد.. أولا: بأنه مبني على القول بجعل المؤدي، فيتحقق حينئذ اللحاظ الاستقلالي بالنسبة إلى الدخل في الموضوع و اللحاظ الآلي بالنسبة إلى المؤدي.

و أما بناء على القول بجعل نفس العذرية و الاعتبارية فليس في البين إلا لحاظ واحد استقلالي فقط، و هو لحاظ الاعتبار الذي هو عين الدخل في الموضوع، فلا موضوع للجمع بين اللحاظ الاستقلالي و الآلي حينئذ.

و ثانيا: أنه لا يلزم المحذور حتى بناء على القول بجعل المؤدي لعدم تعدد اللحاظ حتى يلزم المحذور و إنما هو واحد انبساطي على المؤدي و على ما نزل منزلة القطع و إن تفاوتا من جهتين، نظير لحاظ وجوب الصلاة و الحج المنبسط على الأجزاء المتفاوتة بالركنية و غيرها، و لحاظ المركب - حقيقيا كان أو اعتباريا - المنبسط على الأجزاء مع كمال الاختلاف بينها.

و ثالثا: بأن التنزيل إنما هو باعتبار الصحة الخاصة من المؤدي المقارنة مع ما قام عليه، فلا اثنينية في اللحاظ حينئذ، لأن لحاظ الحصة بما هي تلك الحصة عين لحاظ ما تحققت به، فقد نزلت الحصة الخاصة من غير المقطوع منزلة الحصة الخاصة منه، فاللحاظ متعلّق بالحصة و هو مستلزم للحاظ ما قام عليها، أمارة كان أو أصلا.

الثاني: أنه مستلزم للدور، إذ الموضوع مركب من جزءين، المؤدي و ما قام عليه، و تنزيل المؤدي منزلة الواقع يتوقف على تنزيل ما قام عليه منزلة القطع، و هو يتوقف على تنزيل المؤدي، إذ لا أثر لكل واحد منهما منفردا عن الآخر، لفرض تركب الموضوع و تقوّمه بجزءين، و هذا هو الدور.

و يرده.. أولا: أنه مبني على القول بجعل المؤدي. و أما بناء على القول بجعل الاعتبار و الاعتذار، فلا يرد الدور أصلا.

و ثانيا: أنه لا دور حتى على القول بجعل المؤدي، لتقوّم الدور بالتعدد الوجودي في المتوقف، و المتوقف عليه، و ليس المقام كذلك، إذ لا تعدد

ص: 31

للتنزيل و المنزل حتى يتوقف أحدهما على الآخر، بل ليس في البين إلا تنزيل واحد انبساطي على جزئي الموضوع في عرض واحد من دون تعدد و توقف فيه أبدا، نظير انبساط الوجوب العيني النفسي على أجزاء الصلاة في عرض واحد مع ترتب الأجزاء و اختلافها واقعا، و سيأتي مزيد بيان لدفع الدور إن شاء اللّه تعالى. هذا كله في القطع الطريقي، سواء كان مأخوذا في الموضوع أو لا.

و أما ما أخذ فيه من حيث الصفتية الخاصة فلا وجه لتوهم قيام غيره مقامه، لأنه مثل التصريح بأن القطع دون غيره مأخوذ في الموضوع، فعدم قيام الغير مقامه لمانع في البين لا لقصور في دليل الاعتبار، كما لا يخفى. و من ذلك كله ظهرت الخدشة في ما ذكره في الكفاية، فلاحظ و تأمل في عباراته المشكلة.

ص: 32

الأمر الرابع أخذ القطع بحكم في موضوع نفسه أو مثله أو ضده

اشارة

المعروف أنه لا يمكن أخذ القطع بحكم في موضوع نفسه أو مثله أو ضده.

أما الأول: فللزوم الدور

، لأن الحكم متأخر عن الموضوع طبعا، و هو متقدّم عليه كذلك، فإن كان الموضوع نفس هذا الحكم بعينه يلزم تقدّم الشيء على نفسه، و هو دور.

و فيه.. أولا: أن الدور المحال ما إذا تعدد المتوقف و المتوقف عليه وجودا و حقيقة، و ليس المقام كذلك، إذ التعدد فيه اعتباري محض، كما هو كذلك بين كل علم و معلوم، و قد ثبت في محله اتحاد العقل و العاقل و المعقول وجودا و بالأدلة القطعية، فراجع و تأمل.

و ثانيا: أنهما مختلفان جهة، لأن متعلّق القطع ذات الحكم و ماهيته، لما ثبت في محله من تعلّق العلم بالذوات و الماهيات، و قد قال الحكيم السبزواري:

للشيء غير الكون في الأعيان *** كون بنفسه لدى الأذهان

و أما الحكم فهو بوجوده العيني الخارجي يتوقف على القطع به، فيختلف المتوقف و المتوقف عليه فلا دور، هذا إن كان الأخذ على نحو التقييد الاصطلاحي.

و أما إذا كان على نحو نتيجة التقييد فلا محذور أصلا، و ذلك بأن يستفاد من القرائن الخارجية اختصاص الحكم بالعالم به، كما أن نتيجة الإطلاق أن

ص: 33

يستفاد منها شمول الحكم للعالم و الجاهل به.

و أما الثاني و الثالث: فللزوم اجتماع المثلين أو الضدين،

و هما باطلان.

و فيه: أن الضدين و المثلين أمران وجوديان لا يجتمعان في محل واحد، و الأحكام مطلقا ليست وجودية و لا من العوارض الخارجية، بل هي اعتبارات عقلائية، كسائر اعتباراتهم التي يقوم بها نظام معاشهم و معادهم، فلا موضوع لاجتماع المثلين و الضدين في المقام حتى يمتنع، هذا إذا كانت الأحكام عبارة عن نفس الاعتبارات.

و أما إذا كانت عبارة عن نفس الإرادة و الكراهة فلا اجتماع للمثلين إن كانا من نوع واحد، بل يكون من التأكيد و الاشتداد، و لا من اجتماع الضدين إن كانا من نوعين لاختلاف موضوعهما، لأن أحدهما قائم باعتقاد القاطع و الآخر بنفس الحاكم، فلا يكون الموضوع واحدا حتى يلزم المحذور.

نعم، الموضوع الخارجي مورد إضافتهما بالعرض، و ليس هذا مناط الاجتماع المحال.

إن قلت: نعم، و لكن جعل حكم آخر من الشارع مثل ما قطع به المكلف يكون لغوا و هو قبيح عليه، فيمتنع من هذه الجهة.

قلت: لا لغوية فيه، بل يكون من تأكد الداعي و هو حسن، بل قد يلزم.

فتلخّص: أنه يصح أخذ القطع بحكم في موضوع نفسه أو مثله أو ضده، و كذا في الظن بلا فرق بينهما أبدا من هذه الجهة.

ثم إنه قد صرّح جمع بإمكان أخذ القطع بالحكم الإنشائي في موضوع آخر فعليّ مثلا كان أو ضدا، لأن اختلاف المرتبة يرفع الغائلة.

و فيه: أن الإنشاء بلا داع أصلا محال على الشارع، و إن كان بداع آخر من غير أن يصير فعليا فلا يكون فعليا عند تحقق الشرائط، و هو خلف. و إن كان بداعي صيرورته فعليا عند تحققها فيعود المحذور بعد الفعلية.

ص: 34

الأمر الخامس الموافقة الالتزامية و بعض ما يتعلّق بها

اشارة

لا ريب في وجوب الالتزام بما جاء به النبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله بنحو الجملة و الإجمال، لأنه عبارة اخرى عن الاعتقاد بالنبوة، كما لا ريب في وجوب الاعتقاد بالمعارف الحقة على ما يأتي إن شاء اللّه تعالى.

و إنما الكلام في وجوب الالتزام بالتكاليف الفرعية بأن يكون بالنسبة إلى كل واجب و حرام، كالصلاة و الكذب مثلا تكليفين مستقلين لا ربط لأحدهما بالآخر، أحدهما الالتزام بالوجوب أو الحرمة قلبا، و الآخر الإتيان بالوظيفة خارجا، فيكون في البين موافقتان. التزامية و عملية، و مخالفتان كذلك مع صحة التفكيك بينهما، بأن يأتي به عملا و لا يلتزم به قلبا، أو بالعكس، و كما في مورد دوران الأمر بين المحذورين، حيث لا يمكن المخالفة العملية مع إمكانها التزاما.

و المعروف عدم وجوب الموافقة الالتزامية بهذا المعنى، و أنه ليس في البين إلا تكليف واحد متعلّق بالجوارح، لا اثنان و يكون الآخر متعلّقا بالجوانح فلا تجب الموافقة الالتزامية و لا تحرم المخالفة الالتزامية أيضا، للأصل بعد عدم الدليل عليهما من عقل أو نقل في هذا الأمر العام البلوى، و عدم كونها من شئون ذات التكليف حتى تدلّ عليها أدلة التكليف الأولية، لأن المناط فيها إنما هو الإتيان بها خارجا، التزم بها أو لا، و ليس الالتزام - على فرض الوجوب - إلا طريقا للإتيان بها.

نعم، لا ريب في حسنها، لأنها نوع من الطاعة و الانقياد، و من دواعي

ص: 35

الصلاح و السداد خصوصا للعوام و أهل السواد.

و يمكن أن يكون مراد من قال بوجوبها ما مرّ من وجوب الالتزام على نحو الجملة و الإجمال بما جاء به النبي صلّى اللّه عليه و آله من الحق المتعال، و لا ريب في وجوب ذلك عند الكل فيصير النزاع لفظيا.

مع أنهم لم يستدلوا على الوجوب إلا بقاعدة الاشتغال. و هو مردود بأن المقام من الشك في أصل التكليف، و المرجع فيه البراءة عقلا و نقلا، و مورد قاعدة الاشتغال في ما إذا كان الشك في الخروج عن العهدة بعد العلم بأصل التكليف. و إن أريد شرطية الموافقة الالتزامية لصحة العمل الذي علم المكلف به، فهو باطل أيضا، لتطابق آراء المحققين إلى الرجوع إلى البراءة مع الشك في الشرطية.

ثم إنه بناء على وجوب الموافقة الالتزامية للتكاليف الفرعية لا بد من البحث فيه من جهات
الاولى: أن وجوب الموافقة الالتزامية تابع لكيفية العلم بالتكليف تفصيلا

أو إجمالا، فإن علم تفصيلا فالالتزام به يكون تفصيليا، و إن علم إجمالا - أو كان دائرا بين المحذورين - يكفي الالتزام بالواقع على ما هو عليه، لأن الالتزام بالمعين تشريع مع أنه ترجيح بلا مرجح، و التخيير في الملتزم به لا وجه له في التكليف العيني النفسي، و التخيير في نفسي الالتزام من حيث هو تخيير بين الواجب و غيره، فينحصر مورده بالالتزام بالواقع على ما هو عليه.

الثانية: لا تلازم بين وجوبها و وجوب الموافقة العملية

الثانية: لا تلازم بين وجوبها و وجوب الموافقة العملية، إذ قد لا تمكن الثانية، كما في موارد دوران الأمر بين المحذورين بخلاف الاولى، لإمكان الالتزام، بالواقع على ما هو عليه، مع أنه يمكن العصيان بالنسبة إلى الثانية و الإطاعة بالنسبة إلى الاولى و بالعكس.

الثالثة: لا تمانع بين وجوبها و جريان الاصول العملية

الثالثة: لا تمانع بين وجوب الموافقة الالتزامية و جريان الاصول العملية

ص: 36

لو كانت جارية بنفسها فلا يمنع أحدهما عن الآخر، لاختلاف موردهما، لأن مورد الالتزام هو العقد القلبي و مورد جريان الاصول بالنسبة إلى الآثار العملية، ففي موارد جريان الاصول - الحكمية أو الموضوعية - يلتزم بالواقع على ما هو عليه، و لا يمنع الالتزام به جريان الأصل، كما لا يدفع بجريانه لزوم الالتزام به و إن أمكن أن يقال إنه على فرض وجوب الموافقة الالتزامية إنما هو في ما إذا لم يكن مؤمّن شرعي في البين، و الأصل مؤمّن فينتفي به موضوع وجوب الموافقة حتى في مورد دوران الأمر بين المحذورين.

إن قلت: لا وجه لجريان الأصل في موارد دوران الأمر بين المحذورين، لأن العقل يستقل فيها بعدم الحرج في الفعل و الترك، فليس في البين أثر عملي يجري الأصل بالنسبة إليه.

قلت: ليس هذا مانعا عن جريانه لو لم يكن مانع آخر في البين، لأن لزوم الأثر العملي من قبيل الحكمة لجريانه لا العلة التامة فيجري الأصل و تثبت الإباحة الظاهرية، و يلتزم بالواقع على ما هو عليه، بل و يصح الالتزام بالإباحة الظاهرية الثابتة بالأصل أيضا، لعدم التنافي بينهما، كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى.

ثم إنه بناء على وجوب الموافقة الالتزامية و حرمة مخالفتها، فلا إشكال في استحقاق العقاب على المخالفة، إذ لا معنى للحرمة إلا ذلك، و هل يصير العقاب فعليا مع الموافقة العملية أو لا؟ وجهان: يمكن القول بالثاني بناء على أن وجوب الموافقة الالتزامية نفسي طريقي لا موضوعية فيه.

نعم لو قيل بالموضوعية فالظاهر هو الأول - لو لم نقل بالسقوط من باب:

إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ، و لو تركهما معا فمقتضى تعدد السبب تعدد العقاب أيضا إلا إذا قلنا بالطريقية المحضة فالعقاب واحد، و لو أتى بهما معا فمقتضى سعة رحمة اللّه تعالى و فضله تعدد الثواب بناء على ترتب الثواب على الأعمال الجوانحية أيضا، كما يظهر من بعض الآيات، مثل قوله تعالى: وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ و قوله تعالى: تِلْكَ الدّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً - و الروايات التي تعرضنا لها في تفسيرنا (مواهب الرحمن)، هذا بناء على المشهور من أن الثواب يدور مدار قصد القربة. و أما بناء على أنه أعم من ذلك، كما يظهر من بعض الأخبار و اخترناه في كتابنا (مهذب الأحكام)، فيمكن ترتب الثواب على الأعمال الجوانحية و لو لم يقصد القربة.

ص: 37

إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ، و لو تركهما معا فمقتضى تعدد السبب تعدد العقاب أيضا إلا إذا قلنا بالطريقية المحضة فالعقاب واحد، و لو أتى بهما معا فمقتضى سعة رحمة اللّه تعالى و فضله تعدد الثواب بناء على ترتب الثواب على الأعمال الجوانحية أيضا، كما يظهر من بعض الآيات، مثل قوله تعالى: وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ و قوله تعالى: تِلْكَ الدّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً - و الروايات التي تعرضنا لها في تفسيرنا (مواهب الرحمن)، هذا بناء على المشهور من أن الثواب يدور مدار قصد القربة. و أما بناء على أنه أعم من ذلك، كما يظهر من بعض الأخبار و اخترناه في كتابنا (مهذب الأحكام)، فيمكن ترتب الثواب على الأعمال الجوانحية و لو لم يقصد القربة.

و لو ترك العمل و أتى بالموافقة الالتزامية، فالظاهر ترتب الثواب بالنسبة إليها أيضا في الجملة.

ثم إنه كما أن الثواب في الموافقة العملية يدور مدار كون العمل قربيّا، أو قصد القربة بالعمل و إن لم يكن كذلك، فهكذا بالنسبة إلى الموافقة الالتزامية أيضا.

ص: 38

الأمر السادس القطع الحاصل من العقليات و قطع القطاع

لا خلاف بين الكل في أن القطع المأخوذ في الموضوع مطلقا تابع لمقدار دلالة دليل الأخذ فيه تعميما و تخصيصا بالنسبة إلى الأسباب الحاصل منها، و الأشخاص الحاصل لهم، و الموارد الحاصل فيها، و المراتب الحاصلة، فهو مما يناله الجعل من كل جهة. كما لا ريب و لا خلاف في أن غير القطع من الحجج المجعولة العقلائية أو الشرعية تأسيسا أو إمضاء هي أيضا مما يصح فيها التعميم من كل جهة، كما يصح تخصيصها ببعض الأسباب دون بعض، و ببعض الأشخاص دون بعض، و ببعض المراتب دون البعض.

و أما القطع الطريقي المحض فقد قيل بعدم حصوله من الامور العقلية لعدم إحاطة العقول بالواقعيات.

و فيه: أنه خلاف الوجدان إن اريد به السالبة الكلية، و إن أريد به أن الخطأ فيه أكثر مما يحصل من غيرها، فهو من مجرد الدعوى و لا شاهد عليه.

و قد قيل: أيضا بعدم اعتباره و لو حصل منها، لعدم وصول دليل من الشرع على تقريره، و كثرة مخالفته للواقعيات.

و فيه: أنه خلاف الطريقة العقلائية من اتباع القطع مطلقا بلا نظر إلى منشأ حصوله أبدا، و عدم ورود ردع من الشارع مثل ما ورد في الردع عن القياس و الاستحسان، و لا يستفاد منهما الكلية بالنسبة إلى غيرهما، و ما ورد في حصر أخذ الأحكام عن المعصوم عليه السّلام أعم من التأسيسيات و الإمضائيات، و لا ريب في

ص: 39

أنه مع عدم ورود الردع بالخصوص يستكشف الإمضاء في مثل هذا الأمر العام البلوى بين العقلاء.

و قد قيل أيضا بعدم اعتبار قطع القطاع - أي: كل من يحصل له القطع بأدنى شيء على خلاف المتعارف بين الناس في أسباب حصول القطع عندهم - و هو قول حسن، لصحة دعوى عدم بناء من العقلاء على ترتب الأثر لهذا النحو من القطع، بل يلومون هذا القاطع على ترتيبه الأثر على قطعه، كالشكاك الذي يكون ملوما عند الناس.

نعم، هو حين حصول قطعه مجبول على اتباعه، و لكن لا بد له حين التفاته إلى حاله - و لو في الجملة - من الرجوع إلى العالم لتنبيهه على تكليفه إن كان عاميا، أو الرجوع إلى الأدلة إن كان مجتهدا.

ثم إن القطاع في مقابل الوسواسي الذي لا يحصل له القطع بشيء من الأسباب المتعارفة لحصول القطع عند متعارف الناس، و هو أيضا ملوم عندهم، بل شرعا أيضا، لما في صحيح ابن سنان من أنه من عمل الشيطان.

ثم إنه يمكن أن يوجه قول كل من قال بعدم اعتبار القطع في بعض الموارد بوجوه..

منها: أن اعتبار القطع في الأحكام الشرعية تعليقي على عدم ثبوت الردع من الشارع، و قد ورد الردع بمثل قولهم عليهم السّلام: «شرّقوا أو غرّبوا لن تجدوا علما صحيحا إلاّ ما خرج من عندنا أهل البيت»، فكما أن نفس الحكم يكون تحت اختيار الشرع وضعا و رفعا، فما يحصل منه القطع يكون كذلك أيضا.

و منها: أن الأحكام الشرعية مقيدة و لو بنتيجة التقييد بما إذا حصل القطع بها من مباد خاصة دون مطلق ما يوجب حصوله، و هذا الوجه مثل سابقه في الواقع.

و منها: أن المراد بالقطع في كلماتهم مطلق الاطمئنان لا القطع الاصطلاحي.

ص: 40

و كل هذه الوجوه يصلح لحمل كلماتهم عليها و إن كان بعضها خلاف ظاهرها في الجملة.

و منها: أن مرادهم من عدم اعتبار القطع الحاصل من العقليات عدم اعتبار قاعدة الملازمة، و الرد عليها لا عدم ترتب الأثر على القطع المستند إلى المقدمات العقلية مطلقا. و قد استظهر هذا الوجه من مجموع الكلمات بعد رد بعضها إلى بعض، فلا بد من بيان القاعدة أصلا و عكسا بنحو الأسد الأخصر، حتى يتبين مورد صحتها و فسادها، فنقول:

قد اشتهر أن كل ما حكم به العقل حكم به الشرع، و كل ما حكم به الشرع حكم به العقل. و المراد بحكم العقل في القضيتين أصلا و عكسا، جزمه بالشيء بعد الإحاطة بخصوصياته، و ليس المراد به البعث و الزجر المولوي لتقومهما بالثواب و العقاب، و هما مختصان بالشارع فقط و ليسا من شأن العقل في شيء أبدا.

كما أن المراد بالعقل ليس العقول الجزئية التي تكون مناط التكليف، و لا العقل الكلي - الذي أثبته الحكماء بأنه أول ما أفيض من المبدأ، و يظهر من جملة من الأخبار التي جمعها الكليني قدّس سرّه في باب العقل و الجهل من كتابه الشريف، كقولهم عليهم السّلام: «العقل أول خلق من الروحانيين عن يمين العرش». لأن درك أحكامه و شئونه يختص بمن خلقه أو من علمه، بل المراد حكم العقلاء الذي تطابقت عليه آراؤهم، كحسن الإحسان و قبح الظلم، و لزوم شكر المنعم، و نحو ذلك مما لم يتخلّف فيه عاقل، كما لا يحتمل الخلاف فيه من عاقل إلى الأبد.

فالمعنى حينئذ: أن ما تطابقت آراء العقلاء كافة على حسنه، فالشارع بعث إليه في الجملة، و ما تطابقت آراؤهم على قبحه زجر عنه كذلك.

و الظاهر أن هذا المعنى من البديهيات التي لا ينبغي الارتياب فيها من أحد، بل من أهم مقاصد الشرائع الإلهية دعوة الناس إلى فطرتهم السليمة و مرتكزاتهم العقلائية الصحيحة المتفق عليها عند جميعهم، و إثارة دفائن

ص: 41

عقولهم، كما صرّح به علي عليه السّلام.

و تنحصر كبريات مورد الملازمة بالمعنى الذي قلناه في الامور الثلاثة و إن كانت صغرياتها غير محصورة.

إن قلت: إن الملازمة و لو بالمعنى الذي ذكر مبنية على التحسين و التقبيح العقليين، و قد أنكرهما الأشاعرة. أما في فعله تعالى، فلعموم مثل قوله تعالى:

اَللّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ ، و لأنه مالك، و للمالك أن يفعل في ملكه ما شاء و أراد.

فلو عاقب المطيع و أثاب العاصي لم يرتكب قبيحا. و أما في أفعال العباد فلكونها غير اختيارية، و الحسن و القبح من شئون الأفعال الاختيارية.

قلت: أما عدم الحسن و القبح في أفعال العباد و عدم اختياريتها فمخالف للوجدان، و قد مرّ في بحث اتحاد الطلب و الإرادة بعض ما يتعلق به.

و أما عدم القبح في أفعاله تعالى فهو مسلّم عند الكل، و دلت عليه الأدلة العقلية المضبوطة في الكتب الحكمية و الكلامية من عدم صدور القبيح منه تعالى، بل عدم صحة تجويزه عليه جلّ و علا.

و أما عدم اتصاف أفعاله بالحسن، و أن له تعالى أن يرجح المرجوح على الراجح، فهو أيضا باطل بإجماع الأنبياء و المعصومين عليهم السّلام بل الموحدين كافة بل العقلاء، إذ لا يرضى عاقل أن ينسب إلى الحكيم المطلق ما لا يكون حسنا و يكون لغوا، و المراد بقوله تعالى: يَفْعَلُ ما يَشاءُ أي على حسب المصالح الواقعية التي تعجز العقول عن دركها، و للمالك أن يفعل في ملكه ما يشاء إذا لم يكن سفها و عبثا و إلا فالعقلاء يلومونه مطلقا.

إن قلت: تصح الملازمة بالمعنى الذي قلت، و لكن الأخبار الدالة على أنه لا بد من الرجوع إلى الحجة تبطل هذه الملازمة.

قلت.. أولا: إن المراد بها أعم من الحجة الظاهرية و الباطنية.

و ثانيا: المفروض تحقق التقرير من الحجة الظاهرية، و إلاّ لردع عنها بالخصوص في مثل هذا الأمر العقلائي العام البلوى الثابت في كل عصر و زمان.

ص: 42

إن قلت: نعم، و لكن حكم الشرع في مورد حكم العقل يكون باطلا، لأنه لإيجاد الداعي و هو حاصل من حكم العقل فلا احتياج إليه.

قلت: الاحتياج إليه لتأكيد الداعي و إتمام الحجة و تصحيح الثواب و العقاب، فيصح أن يكون حكم الشارع في موارد حكم العقل مولويا لا إرشاديا.

ثم إنه يمكن أن يجعل النزاع في الملازمة لفظيا، فمن قال بها أي بالمعنى الذي قلناه، و من قال بعدمها أي في حكم العقل الجزئي الذي لا يحيط بشيء و لا يصدقه سائر العقلاء، هذا في أصل القضية.

و أما عكسها - و هو أن كل ما حكم به الشرع حكم به العقل - فان أريد به أن كل ما حكم به الشرع حكم العقلاء به كافة من حيث عقلهم على نحو الجملة و الإجمال، و أن حكم الشرع يكون عن مصلحة أو مفسدة تقتضيه، فهو حق لا ريب فيه. و إن اريد به أن في كل مورد من موارد حكم الشرع يحكم العقل به أيضا بالخصوص مثله، فهو ممنوع لعدم إحاطة العقول بمثل ذلك إلا من طريق الوحي و الإلهام، و هما مختصان بخاصة أولياء اللّه الذين لم تحجب العوائق و العلائق ذواتهم القدسية و نفوسهم النورية عن وصول الإفاضات الغيبية عليهم.

و يمكن أن يجعل هذا النزاع لفظيا أيضا، فمن أثبت الملازمة أي بين حكم العقل بنحو الجملة و الإجمال و حكم الشرع، و من نفاها أي بينهما بنحو التفصيل.

و ما اشتهر من أن الواجبات الشرعية ألطاف في الواجبات العقلية، فإن اريد منه ما ذكرناه فهو حق، و إلا فإثبات كليته يحتاج إلى دليل و هو مفقود، و يحتمل أن يكون المراد به معنى آخر لا ربط له بالمقام أصلا. و هو أن العبادات الواجبة شرعا توجب استعداد النفس لإفاضة المعارف الإلهية عليها التي هي الواجبات العقلية، و يشير إليه قوله تعالى: وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا .

ص: 43

الأمر السابع العلم الإجمالي و بعض ما يتعلق به

اشارة

المقصود بالبحث عن العلم الإجمالي في المقام: أنه علة تامة للتنجز، أو أنه مقتض له فقط، و على الأخير هل يكون المانع عن الاقتضاء موجودا أو لا؟ فنقول:

لا فرق بين العلم الإجمالي و التفصيلي في نفس العلم من حيث هو علم، بل و لا في متعلّقه من حيث هو طرف إضافة العلم بالذات، و إنما الفرق بينهما في المعلوم بالعرض المتحقق في الخارج، من جهة سراية الجهل إليه في العلم الإجمالي دون التفصيلي، فيكون محل البحث هو أن هذا الجهل الساري إلى الأطراف هل يصلح للمانعية أو لا؟ فعلى الأول يبقى العلم الإجمالي على مجرد الاقتضاء فقط مطلقا، و على الثاني يكون علة تامة للتنجز؛ كالتفصيلي كذلك من غير فرق بينهما أبدا.

و الحق هو الأخير، إذ المناط كله في كون العلم التفصيلي علة تامة للتنجز ليس إلا أن مخالفته عدم مبالاة بإلزام المولى و هتك بالنسبة إليه، و أما تحقق المعصية الحقيقية، فهو شيء قد يكون و قد لا يكون، إذ لا يجب أن يكون كل علم تفضيلي مطابقا للواقع، و لا ريب في تحقق هذا المناط في المخالفة لبعض أطراف العلم الإجمالي أيضا.

إن قلت: نعم، و لكن بينهما فرقا شدة و ضعفا، و من الممكن اختصاص العلية بالمرتبة الشديدة، فتختص بالعلم التفصيلي حينئذ.

قلت: هتك المولى و عدم المبالاة بإلزاماته و التهاون بالنسبة إليها

ص: 44

و الاستخفاف بها، قبيح بجميع المراتب، لا سيما بالنسبة إلى اللّه جلّ شأنه، فيشترط في جواز الارتكاب إحراز الترخيص، و هو إما عقلي أو شرعي.

و الأول منحصر بقاعدة قبح العقاب بلا بيان، و لا ريب في عدم انطباقها على مورد العلم لتمامية البيان و وصوله من طرف المولى، و عدم خلل فيه من جهته، و تردد الأطراف خارج عما هو وظيفته، مع أن ارتكاب بعض الأطراف تساهل و تسامح في الدين و عدم مبالاة بإلزامات المولى و هو نحو هتك بالنسبة إليه، و ليس للعقل و العقلاء تجويز ذلك أبدا.

و الثاني عبارة عن العمومات المثبتة للأحكام الظاهرية، مثل «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» و «كل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر» و «كل شيء حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه».

و يرد على مثل هذه العمومات..

أولا: أن الشك في شمولها لمورد العلم الإجمالي كاف في عدم الشمول، لما مرّ من عدم صحة التمسك بالعمومات في الشبهات المصداقية.

و ثانيا: أن ارتكاب بعض الأطراف مع العلم بكونه طرفا للنهي الإلزامي، أو ترك بعض أطرافه مع العلم بكونه طرفا للأمر الإلزامي، عدم مبالاة بشأن المولى لدى المتشرعة، بل العقلاء، و لا ريب في قبح ذلك في الجملة، و ليس للشارع الحكيم أن يأذن في ذلك.

و بالجملة: أن المحتملات في مثل هذه الأخبار ثلاثة:

الأول: أن الشارع رفع اليد عن الحكم الواقعي في موارد العلم الإجمالي رأسا، و هو خلف الفرض.

الثاني: أنه أذن في الترخيص في جميع الأطراف، و هو ترخيص في المعصية قبيح بالنسبة إليه.

الثالث: أنه رخّص في بعض الأطراف دون بعض، و هو ترخيص في عدم

ص: 45

المبالاة في الدين، و إذن في التجري في الجملة، و هو أيضا قبيح للشارع مع اهتمامه بأحكامه و المحافظة عليها مهما أمكنه ذلك.

نعم، لو ثبت رفعه للحكم في مورد العلم الإجمالي، أو جعله بعض الأطراف بدلا عن الحكم الواقعي، أو ثبت التخيير شرعا أو عقلا، لجاز ارتكاب الكل في الأول و أحد الأطراف في البقية.

و لكن الجميع باطل.

أما الأول: فلما مرّ من أنه خلف الفرض، و لا دليل على جعل البدل أو التخيير الشرعي، كما لا وجه للتخيير العقلي، لأنه إنما يتحقق في ما إذا كان المناط في الطرفين أو الأطراف واحدا، و ليس كذلك في المقام.

و ثالثا: أنه مناف لقاعدة المقدمية المرتكزة في الأذهان، و ما أحسن قول صاحب الجواهر قدّس سرّه حيث قال: «إنا لم نسمع أحدا تأمل في هذه القاعدة من أصحابنا، بل يقررونها و يذكرون الأخبار الخاصة حيث تكون مؤيدة لها و إن وقع لهم كلام في كيفية تقريرها، و لكنهم مشتركون في الإضراب عن هذه العمومات في الطهارة و الحل و الحرمة، بل عن بعضهم الالتجاء إلى أخبار القرعة دونها مع كونها بمرأى منهم و مسمع...» راجع كلامه عند قول المحقق: (و لو اشتبه الإناءان).

و قد طبق الإمام عليه السّلام هذه الأخبار على الشبهة غير المحصورة، فيعلم من ذلك عدم انطباقها على المحصورة، فراجع و تأمل.

و رابعا: أن المحتملات في قوله عليه السّلام: «إنه حرام بعينه» ثلاثة:

الأول: إرجاع الضمير إلى نفس الحرام من حيث هو حرام، فكأنه قال عليه السّلام: «كل شيء حلال حتى تعلم عين الحرمة»، و لا ريب في العلم بالحرمة في مورد العلم الإجمالي، بل لا تجري هذه العمومات و الإطلاقات بناء على هذا الاحتمال في أطراف الشبهة غير المحصورة أيضا، و يظهر من بعض الأخبار أن

ص: 46

الإمام عليه السّلام أجراها في الشبهة غير المحصورة، فيعلم منه سقوط هذا الاحتمال فيها فقط.

الثاني: أن يرجع الضمير في «بعينه» إلى أن ما هو مورد ابتلاء المكلف حلال حتى يعلم الحرام بعين ما يكون مورد الابتلاء، و لا ريب في تحققه أيضا في مورد العلم الإجمالي، لفرض أن الأطراف مورد الابتلاء.

الثالث: أن يكون المراد بالعين، الشخص الموجود في الخارج من حيث كونه قابلا للإشارة الحسية، و بهذا المعنى لا يصح انطباقه على أطراف المعلوم بالإجمال، لفرض عدم إمكان الإشارة الحسية إلى شخص الحرام فيها، و لكن تعين هذا الاحتمال من بين المحتملات بلا معين.

و الظاهر هو الثاني، و إلا لقال عليه السّلام: (شخص الحرام) لأن التشخّص ينافي التردد، بخلاف العينية فإنها تشمل كل ما تحقق في الخارج و يكون مورد ابتلاء المكلف، فإن التحقق الخارجي لا ينافي التردد عند المكلف، مع أنه يوهن هذا الاحتمال أن تشخيص الموضوع خارجا ليس من وظيفة الشارع حتى يلزم عليه بيانه. و على فرض كون المراد به المعنى الثالث، فقد مرّ قبح ترخيص الشارع فيه.

و خلاصة القول: أن الجهل الذي هو مورد تشريع الأحكام الظاهرية مطلقا، ليس مطلق الجهل، بل خصوص الجهل الذي ليس موردا لاحتمال انطباق تكليف فعلي منجز بالاحتمال العقلائي، و ما كان كذلك فهو خارج عنه تخصصا، و كذا الشك الذي يكون موردا للأصول العملية مطلقا، إنما هو الشك الثابت المستقر الذي لا يكون موردا لاحتمال انطباق تكليف فعلي منجز بالاحتمال العقلائي، و إلا فهو خارج عنه تخصصا، و هذا هو القول الأسد الأخصر الذي لا بد منه، و سيأتي في مقدمات الانسداد عند بطلان الرجوع إلى الاصول ما ينفع المقام.

ص: 47

شرائط تنجز العلم الإجمالي:
اشارة

و هي شرائط عقلائية حاصلة من مرتكزاتهم التي هي المدار في تنجز التكاليف مطلقا في ما لم يرد فيه تحديد شرعي.

الأول: أن يحدث بالعلم الإجمالي تكليف فعلي غير مسبوق بالوجود على كل تقدير

، بأن يكون كل طرف من أطرافه من حيث الطرفية للعلم الإجمالي موردا للتكليف المعلوم في البين، و بصحة انطباقه عليه حدث تكليف مسبوق بالعدم، فلو كان بعض أطرافه المعين محكوما بحكم تفصيلي، مثل الحكم المعلوم بالإجمال، فحدث العلم الإجمالي بعد ذلك، لا أثر لمثل هذا العلم الإجمالي في التنجز، كما إذا كان هناك إناءان أحدهما المعين نجس، ثم وقعت قطرة بول لا يدري أنها وقعت في أيهما، فلا يحدث بالنسبة إلى الإناء المعلوم النجاسة تكليف زائد، و يكون الشك في نجاسة الإناء غير المعلوم نجاسته من الشك البدوي، فيرجع فيه إلى البراءة، كما في جميع موارد الشكوك البدوية، فإن تنجز التكليف سابقا في الطرف المعلوم بالتفصيل بجعل الطرف الآخر من الشك البدوي المحض، بلا فرق في ذلك بين كون العلم الإجمالي علة تامة للتنجز، أو مقتضيا لسقوط العلية و عدم تمامية الاقتضاء مع فقد الشرط، فيشمله دليل البراءة العقلية و النقلية.

ثم إن العلم التفصيلي بالتكليف..

تارة: يكون سابقا على حدوث العلم الإجمالي.

و اخرى: يكون متأخرا عنه.

و ثالثة: يكونان متقارنين. و كذا المعلوم بذلك العلم التفصيلي، قد يكون متقدّما على المعلوم بالعلم الإجمالي، و قد يكون متأخرا عنه، و قد يكونان متقارنين.

ص: 48

و المحصل من ضرب الثلاثة في مثلها يصير تسعة، يكون العلم الإجمالي منجزا في ثلاثة منها، و هي: ما إذا تقدم المعلوم بالإجمال و علمه على المعلوم التفصيلي و علمه، و ما إذا تقدّم المعلوم بالإجمال فقط على العلم التفصيلي و معلومه و تأخر نفس العلم الإجمالي عنه، و ما إذا تقدّم المعلوم بالإجمال مع تقارن العلمين، و لا تنجز له في ستة منها و هي:

1 - تقدّم المعلوم التفصيلي على المعلوم الإجمالي مع تقارن العلمين.

2 - تقدّم العلم و المعلوم التفصيلي على المعلوم الإجمالي.

3 - تقدّم المعلوم التفصيلي على المعلوم الإجمالي فقط.

4 - تقارن المعلومين مع تقدّم العلم التفصيلي.

5 - تقارن المعلومين مع العلم الإجمالي.

6 - تقارن المعلومين مع تقارن العلمين، و أمثلة الكل واضحة بعد التأمل.

و في جميع هذه الصور الست يكون غير المعلوم بالتفصيل من مجاري البراءة، لكونه من الشبهات البدوية.

ثم إن الاصول الجارية في أطراف العلم الإجمالي..

تارة: تكون مثبتة للتكليف.

و اخرى: تكون الجميع نافية.

و ثالثة: تكون بعضها مثبتة و بعضها نافية. و لا ريب في تنجز العلم في الأولين. و أما الأخير فلا يبعد سقوطه عن التنجز، كما إذا علم إجمالا بأنه إما زاد في صلاته ركوعا أو نقص سجدة واحدة، فتجري أصالة عدم زيادة الركوع، و عدم الإتيان بالسجدة، فتصح صلاته و يجب عليه قضاء سجدة واحدة.

الثاني: \أن يصلح للداعوية نحو التكليف، خروج موارد ثلاثة
اشارة

الثاني: من شرائط تنجز العلم الإجمالي: أن يصلح للداعوية و البعث نحو التكليف في عرف العقلاء، و مع عدم صلاحيته لذلك لا تنجز له، إذ لا معنى للمنجزية عندهم إلا الصلوح لذلك، و هذا مما يختلف اختلافا فاحشا بحسب

ص: 49

الموارد و الأشخاص، فقد يكون مورد واحد صالحا للداعوية لبعض، و غير صالح لها لآخر في محل واحد و زمان واحد. و يترتب على هذا الشرط خروج موارد ثلاثة عن تنجز العلم الإجمالي.

منها: ما إذا لم يكن بعض الأطراف مورد الابتلاء

، و بيانه أن للقدرة مراتب ثلاث..

الاولى: القدرة العقلية المحضة، بمعنى إمكان المقدور بالنسبة إلى القادر بالإمكان الذاتي، و لا ريب في عدم كون هذه المرتبة منها شرطا في التكاليف الشرعية، لكون جميعها مبنية على القدرة العرفية السمحة السهلة.

الثانية: القدرة العرفية العقلائية، التي هي أخص من الاولى، و تدخل فيها القدرة الشرعية أيضا.

الثالثة: قدرة خاصة هي أخصّ منهما، و هي كون المقدور مورد عمل القادر عرفا مع وجود المقتضي و فقد المانع، بحيث تكون القدرة بالنسبة إلى تمام الأطراف على حدّ سواء من حيث وجود المقتضي و فقد المانع، فلو كان في أحد الأطراف مانع عن إعمال القدرة فهو خارج عن محل الابتلاء، فلا تنجز للعلم الإجمالي المتعلّق به و بغيره.

و المانع إما عقلي، كما إذا علم إجمالا إما بنجاسة هذا الإناء الموجود، أو ما صار معدوما، فلا أثر لهذا العلم الإجمالي أبدا.

أو شرعي، كما إذا كان هناك إناءان أحدهما للغير و الآخر للمكلف نفسه و علم بنجاسة أحدهما، و حيث أنه لا يجوز له التصرف في إناء الآخر فهو خارج عن مورد ابتلائه، فليس هذا العلم الإجمالي منجزا أيضا، لمانع شرعي.

أو عرفي، كما إذا علم إجمالا بنجاسة إنائه أو إناء جاره الذي ليس بينهما تردد، فإن العرف بمرتكزاتهم لا يرون مثل هذا العلم منجزا، إذ المفروض أنه ليس إناء الجار مورد الحاجة و العمل عرفا.

ص: 50

أو عادي شخصي، كما إذا كان شخص لا يشرب الدخان - مثلا - مطلقا، ثم علم إجمالا بأن الدكان الذي يشتري منه حوائجه إما دهنه مغصوب أو سجائره مثلا، فيصح له شراء الدهن، لخروج أحد طرفي العلم الإجمالي بالنسبة إلى هذا الشخص عن مورد الابتلاء، فلا تنجز له، و لهذا القسم أمثلة كثيرة، كما لا يخفى.

ثم الظاهر أن الابتلاء و عدمه من الوجدانيات لمن يلتفت إليه في الجملة، فلا وجه للشك فيه، و مع ذلك لو شك، فسيأتي حكمه في مباحث الاشتغال إن شاء اللّه تعالى.

و يترتب على ذلك ثمرات:
أولها: أنه لو اعتقد عدم كون بعض الأطراف مورد الابتلاء فارتكب بعضها و بان الخلاف،

فالظاهر تنجز العلم بالنسبة إلى ما بقي لكشف ظهور الخلاف عن كونه منجزا حين حدوثه، غاية الأمر أنه كان معذورا في الارتكاب إن لم يكن عن تقصير، و الابتلاء من الشروط الواقعية لا الإحرازية.

ثانيها: لو كانت الأطراف مورد الابتلاء و أثّر العلم الإجمالي أثره

، فخرج بعض الأطرف عن مورد الابتلاء، لا يضر ذلك بتنجز العلم الإجمالي و بقاء أثره في ما بقي تحت الابتلاء، للأصل.

ثالثها: لو علم إجمالا بغصبية إناء مردد بين الإناءين
اشارة

و نجاسة إناء مردد بين إناءين أحدهما المعين ما كان طرفا للغصبية أيضا، فإن كان المجمع خارجا عن مورد الابتلاء، فلا أثر للعلمين الإجماليين، و إن كان الطرف المختص بكل واحد من العلمين خارجا عنه، لا أثر له بالخصوص، و هذا مبني إما على عروض العلمين الإجماليين دفعة واحدة معا، أو مترتبا. و لكن بناء على أن مجرد وجوب الاجتناب - و لو مقدمة في أحد الأطراف - لا يوجب سقوط العلم الإجمالي اللاحق عن التنجز، و إلا فلا أثر للعلم الإجمالي اللاحق.

ص: 51

و منها: موارد دوران الأمر بين المحذورين مع وحدة القضية من كل جهة زمانا و مكانا

، و من سائر الجهات، كما إذا علم إما بوجوب الحركة عليه في الآن الخاص أو بوجوب السكون فيه بعينه، و مثل هذا العلم الإجمالي لا يصلح للداعوية، فإنه لا يقدر المكلف على الجمع بينهما و لا يخلو تكوينا عن أحدهما، فلا يقدر على الموافقة القطعية و لا على المخالفة كذلك، و ما كان هكذا لا يصلح للداعوية.

ثم إنه يعتبر في دوران الأمر بين المحذورين الذي لا يصلح العلم للداعوية فيه أمور ثلاثة:

الأول: كونهما توصّليين، إذ لو كانا - أو أحدهما المعين - تعبديا، يمكن المخالفة القطعية بترك قصد التعبد فيهما أو في المعين منهما.

الثاني: وحدة القضية من كل جهة، إذ مع التعدد يمكن المخالفة القطعية، كما إذا علم إما بوجوب القيام عليه في ساعة خاصة أو بوجوب القعود عليه فيها، فإنه لو قام في نصف ساعة و قعد في نصفها تحققت المخالفة القطعية.

الثالث: عدم وجوب الالتزام بالأحكام الواقعية على ما هي عليها، إذ لو وجب ذلك و لم يلتزم تحققت المخالفة القطعية بالنسبة إلى وجوب الالتزام، و يأتي ما له نفع في المقام في محله إن شاء اللّه تعالى.

و منها: الشبهة غير المحصورة

التي هي أيضا من مصاديق خروج بعض الأطراف عن مورد الابتلاء، إذ لا موضوعية لعدم الحصر من حيث هو، بل لا بد من انطباق عنوان عدم الابتلاء أو الحرج أو نحو ذلك عليها حتى يسقط العلم عن التنجز، و لعل تعبيرهم بغير المحصورة لأجل أنه ملازم غالبا لعدم الابتلاء أو للحرج، فعبر به اختصارا.

الثالث: من شرائط تنجز العلم الإجمالي: أن لا يكون العلم التفصيلي بخصوصه معتبرا في التكليف، و إلا فلا موضوع لتنجز العلم الإجمالي.

الرابع: من شرائط تنجزه: أن لا يكون في البين ما يدل على رفع الحكم

ص: 52

الواقعي و تبدّله في تمام أطراف العلم الإجمالي أو بعضها من اضطرار، أو إكراه، أو تقية، أو حكم الحاكم الجامع للشرائط، أو إقرار كذلك، فإنه مع وجود أحد منها يسقط الواقع و يتبدل الحكم. و بعد تحقق هذه الشرائط يتنجز العلم الإجمالي و لا اختصاص لها به، بل هي شرائط للتنجز مطلقا، سواء كان في العلم التفصيلي أو الإجمالي، أو سائر الحجج و الأمارات.

نعم، الشرط الثالث لا يجري في العلم التفصيلي، كما لا يخفى.

و أما اشتراط أن تكون أطراف العلم الإجمالي متعلّقة بشخص العالم لا بشخصين، فمرجعه إلى ما مرّ من شرطية الابتلاء، فلا وجه لذكره مستقلا.

تنبيه:

قد ذكر المحقق الأنصاري قدّس سرّه موارد ربما يوهم فيها الترخيص في مخالفة العلم التفصيلي.

منها: ما إذا حكم الحاكم بتنصيف عين تداعاها اثنان بحيث يعلم صدق أحدهما و كذب الآخر، و حينئذ فإن اشتراها ثالث، يعلم تفصيلا بعدم انتقال تمام المال إليه من مالكه الواقعي، مع أنهم حكموا بجواز الشراء منهما تمام المال.

و منها: ما إذا كان لأحد درهم و لآخر درهمان و كان المجموع عند الودعي فتلف عنده درهم، فحكموا بأن لصاحب الاثنين درهما و نصف و لصاحب الواحد نصف درهم فقط، و حينئذ فإن أخذ ثالث الدرهم المشترك بينهما، يعلم تفصيلا بعدم انتقال تمامه إليه من مالكه الواقعي.

و يمكن الجواب عنهما بأن لازم حكم الشارع بالتنصيف فيهما، و ثبوت ولايته لقطع التخاصم على نحو العدل و الإنصاف، هو تبديل الموضوع بالنسبة إلى الثالث، و لكنه يبقى بالنسبة إلى المحكوم له على ما هو عليه لو كان كاذبا، و مع تبدل الموضوع بالنسبة إلى الثالث ينتقل جميع المال من المالك الشرعي إليه، و لا محذور فيه حينئذ.

ص: 53

الأمر الثامن الامتثال الإجمالي

لا ريب في صحة الامتثال الإجمالي مع عدم التمكن من التفصيلي منه، كما ارتكز في أذهان العقلاء. و أما مع التمكن فنسب إلى المشهور بين القدماء عدم جوازه. لأنه مناف للجزم بالنية.

و يرد: بأنه لم يدل دليل من عقل أو نقل على اعتبار الجزم في النية، فمقتضى الأصل عدمه، كما ثبت في محله.

و لأنه خلاف المتعارف. و يرد: بأنه ليس كل ما هو خلاف المتعارف خلاف المشروع.

و لأنه لعب و عبث بأمر المولى. و يرد: بأن اللعب و العبث قصدي اختياري. و المفروض عدمه، و على فرض أن يكونا قهريين انطباقيين فلا يحكم العقلاء بانطباقه على كل تكرار. نعم، لو انطبقا عليه لكان لغوا، بل قد يكون قبيحا، كما إذا كان موجبا للوسواس أو جهة اخرى مما يقبحه الناس.

مع ما هو المتسالم بين الكل أن العلم مطلقا طريق إلى إتيان الواقع، و أن المناط كله إتيانه بأي وجه اتفق، و لذا تصح عبادة تارك طريقي الاجتهاد و التقليد فالحق جواز الاكتفاء بالامتثال الإجمالي مع التمكن من التفصيلي منه و لو استلزم التكرار.

ثم إنه لا فرق في ما مرّ مما يتعلّق بالعلم الإجمالي بين أن يكون المعلوم عنوانا واحدا، كما إذا علم بنجاسة أحد الإناءين. أو مرددا بين عنوانين، كما إذا

ص: 54

علم إجمالا إما بنجاسة أحد الإناءين أو بغصبيته، فيتنجز العلم مطلقا في كليهما.

نعم، لو نسي و توضأ بأحدهما يصح وضوءه، لصحته من المغصوب مع النسيان، و تكون النجاسة حينئذ من الشبهة البدوية، فتجري فيها قاعدة الطهارة، بخلاف القسم الأول فيبطل الوضوء منه حتى مع النسيان، لأن طهارة الطهور شرط واقعي.

ص: 55

ص: 56

المقصد الثاني ما يصح الاعتذار به من جهة الكشف و فيه مباحث:

اشارة

ص: 57

ص: 58

تمهيد:

:

للاطمئنان مراتب متفاوتة شدة و ضعفا، و أعلى مراتبه القطع الذي مضى بعض القول فيه. و أما سائر مراتبه - شخصيا كان أو نوعيا - فلا ريب في اقتضاء الاعتبار و صحة الاعتذار فيه لدى العقلاء كافة، فلو لم يرد ردع شرعي كفى ذلك في اعتباره و صحة الاعتذار به، لأنه من أهم الامور النظامية العقلائية، و يكفي في اعتبارها عدم ثبوت الردع فقط و لا نحتاج إلى التقرير، فاللازم في المقام هو البحث عن أنه هل ورد ردع من الشارع عن الاعتماد عليها أو لا؟ و لا نحتاج إلى تكلّف الاستدلال على الاعتبار و صحة الاعتذار، لأنهما من المرتكزات العقلائية بعد عدم ثبوت الردع، كما لا يخفى. إلاّ أن متابعة المشهور أولى، فنقول:

البحث في غير العلم من جهات..

فتارة: يبحث عن إمكان التعبّد به.

و اخرى: عن تأسيس الأصل في الاعتبار و عدمه.

و ثالثة: عن الأمارات الخاصة.

و رابعة: عن مطلق الظن.

كما أن وجه الاعتبار يمكن أن يكون جعل الحجية، أو جعل وجوب العمل على طبق ما اعتبر، أو جعل المؤدى منزلة الواقع، أو جعل الطريقية فقط، أو جعل تتميم الكشف - إن قيل إنه في مقابل ما ذكر - و بين كل واحد منها

ص: 59

و الباقي ملازمة عرفية و إن اختلفت العبارات أو تعددت المفاهيم، كما لا يخفى.

ثم إن أصالة عدم الحجية في ما هو معتبر من جهة الكشف لا يصح جريانها بالنسبة إلى مرتبة الاقتضاء، لفرض اقتضاء الحجية فيها بوجدان كل عاقل، و إنما تصح بالنسبة إلى التقرير لو اعتبرنا تقرير الاقتضاء في الحجية، و بالنسبة إلى الانتساب إلى الشارع أو اكتفينا بعدم ثبوت الردع، فلا يصح الانتساب إليه قبل استقرار عدم الردع، و مع استقراره لا جعل و لا مجعول في البين رأسا حتى نحتاج إلى إبداء هذه الاحتمالات و الأقوال، لابتناء جميعها على أن ما ثبت من الشارع إنما هو أمر وجودي، و المفروض كفاية الأمر العدمي و هو عدم ثبوت الردع، فهذه التطويلات من التطويل بلا طائل تحتها، و فرض في فرض، إلاّ أنه لا بد من سلوك ما سلكه القوم، فنقول على طريق الشكل الأول البديهي الإنتاج: الظنون مطلقا فيها جهة الكشف. و كل ما كان فيه جهة الكشف يكون فيه اقتضاء الحجية، فالظنون مطلقا فيها اقتضاء الحجية. ثم نقول: الظنون فيها اقتضاء الحجية، و كل ما فيه اقتضاء الحجية تتم حجيته مع عدم ثبوت الردع، فالظنون مطلقا تتم حجيتها مع عدم ثبوت الردع، و سنثبت عدم ثبوت الردع إن شاء اللّه تعالى.

ص: 60

المبحث الأول امكان التعبّد بغير العلم

اشارة

و هو مما يعترف به ذوو الفطرة السليمة و العقول المستقيمة، و الشبهات الواردة من قبيل الشبهة في مقابل البديهة، كما هو معلوم لذوي البصيرة. و ليس المراد به الإمكان الذاتي، إذ ليس البحث عنه من شأن الاصولي، و إنما هو من مباحث فن الحكمة، مع أنه لم يدع أحد أن التعبّد بغير العلم عين اجتماع المثلين أو الضدين حتى يكون ممتنعا ذاتيا في مقابل الإمكان الذاتي.

كما أنه ليس المراد به الإمكان الاحتمالي أيضا، لأنه بمعنى احتمال إمكان الشيء فى مقابل احتمال امتناعه و وجوبه، فيجتمع مع الامتناع الذاتي أيضا.

المراد من الإمكان

اشارة

بل المراد الإمكان الوقوعي، أي ما لا يلزم من وقوعه في الخارج محذور عقلي، كما يقال: المعراج و المعاد الجسمانيان ممكنان، و حينئذ فيكون نفس الوقوع في الخارج من أقوى أدلة وقوعه و إثباته من دون احتياج إلى التماس دليل آخر، و تكفي السيرة المستمرة العقلائية قديما و حديثا في الامور المعاشية و المعادية على ذلك، و لا نحتاج إلى التمسك بأن الأصل في الأشياء هو الإمكان، لأنه لا أصل له أصلا إن كان المراد به الإمكان الذاتي أو الوقوعي.

نعم احتمال الإمكان جار في كل شيء، و لكنه من مجرد الاحتمال العقلي و لا ينفع لشيء أبدا، و هذا معنى ما اشتهر أن: «كل ما قرع سمعك فذره في بقعة الإمكان ما لم يردك عنه قائم البرهان» يعني: أن كل ما سمعت من الغرائب و العجائب لا تبادر إلى الحكم بامتناعه، بل احتمل إمكانه أيضا في مقابل احتمال

ص: 61

امتناعه و احتمال وقوعه خارجا.

ثم إنه قد استدل على امتناعه الوقوعي، أي أن التعبّد بغير العلم مستلزم للمحذور بامور، و بعضها من الشبهات المشهورة في الجمع بين الحكم الظاهري و الواقعي:

الأول: القياس على الإخبار عن اللّه تعالى و الجواب عنه

الأول: أنه لو جاز ذلك في الإخبار عن المعصوم لجاز في الإخبار عن اللّه تعالى أيضا، و التالي باطل فالمقدم مثله.

و يرد: بوضوح بطلان القياس، لأن الإخبار عنه تعالى لا يصح عادة إلا بالنسبة إلى النفوس القدسية المتحلّية بالنبوة، و الإخبار عن المعصوم يصح بالنسبة إلى كل عامي.

نعم يعتبر في قبوله أن يكون ثقة، فلا ريب في بطلان القياس.

الثاني: النقض للغرض المناقشة فيه

الثاني: أنه نقض للغرض، لأن الغرض من جعل التكاليف الواقعية كونها داعية للامتثال و باعثة لإتيانها، و التعبّد بغير العلم ليس بدائم الإصابة، بل قد يخطئ، و حينئذ يحصل نقض الغرض.

و يرد.. أولا: بأن العلم أيضا ليس بدائم الإصابة، فكل ما يقال في العلم يقال في غيره أيضا.

و ثانيا: أن المناط كله في داعوية الامتثال، الداعوية على نحو الاقتضاء و الشأنية، لا الإصابة الفعلية من كل جهة، كما هو الشأن في داعوية العلم فضلا عن غيره من الطرق غير العلمية، و إلاّ لوجب على الشارع إيجاب الاحتياط مطلقا، و هو خلاف سهولة الشريعة، و خلاف الطريقة العقلانية المنزلة عليها الطرق الشرعية، بل و لا طريق إلا الطرق العقلائية التي يكفي في اعتبارها شرعا عدم ثبوت الردع، كما قلناه.

الثالث: تفويت المصلحة و الإلقاء في المفسدة و الجواب عنه

الثالث: من شروط تنجز العلم الإجمالي: أن لا يكون العلم التفصيلي الثالث: تفويت المصلحة إن أدى إلى غير الوجوب و كان في الواقع واجبا، و الإلقاء في المفسدة إن أدى إلى غير الحرمة و كان في الواقع حراما.

ص: 62

و فيه.. أولا: ما مرّ من لزوم ذلك في العلم أيضا عند المخالفة مع الواقع، و ما هو الجواب فيه يكون جوابا في المقام أيضا.

و ثانيا: كما أن الثواب و العقاب بالنسبة إلى الواقعيات يدوران مدار إحرازها و إطاعتها أو مخالفتها. فكذا المصالح و المفاسد أيضا، فلا مصلحة و لا مفسدة فعليّة من كل جهة مع عدم الإحراز، و إن كانت فهي من مجرد الاقتضاء الذي لا بأس بتفويت الاولى و الإلقاء في الثانية، لأن مجرد الاقتضائيات و الاستعدادات المحضة لا يعتنى بها لدى العقلاء ما لم تبلغ مرتبة الفعلية، و لا دليل على كون المصالح و المفاسد في التكاليف من قبيل لوازم الماهية غير القابلة للانفكاك عنها مطلقا، إن لم يكن على عدمه، بل لنا أن نقول:

إن المصالح و المفاسد في التكاليف ليست إلا الثواب و العقاب بعرضهما العريض الأعم من الدنيوي و الاخروي، كما يصح أن نقول: إن ذلك كله من حكم الجعل بنحو الاقتضاء، لا علة المجعول على نحو العلة التامة المنحصرة الفعلية، و هذا الاحتمال هو المتيقن و إثبات غيره يحتاج إلى دليل، و هو مفقود كما هو معلوم.

و ثالثا: بأن تفويت المصلحة أحيانا و الإلقاء في المفسدة كذلك مع التدارك بما هو أهم و أعم لا قبح فيه، لأنه من الشر القليل المتدارك بالخير الكثير، بل يكون العكس قبيحا، لأنه من قبيل ترك الخير الكثير للاحتراز عن الشر القليل، و العقلاء لا يقدمون عليه عند الدوران، و المصلحة الأهم الأعم في المقام هي ما تترتب على اعتبار غير العلم من التسهيل و التيسير النوعي الذي جبلت الطباع على الحكم بحسنه، بل لزومه، و الشريعة المقدسة تهتم به أيضا كمال الاهتمام في جميع تكاليفها.

و بعبارة اخرى: فوت المصلحة أو الإلقاء إما دائمي أو أغلبي أو نادر؛

ص: 63

و الأولان قبيحان بلا إشكال، و الأخير متدارك بالمصلحة، بل قد يكون تركه قبيحا.

هذا بناء على كون الاعتبار من الطريقية المحضة، و أما بناء على الموضوعية و السببية، فإن كان المراد بها خلو الواقع رأسا عن الملاك و الحكم، بحيث كانت الأمارة موجدة للمصلحة واقعا بعد أن لم يكن في البين مصلحة أصلا، أو منقلبة عما في الواقع إلى مفادها، بحيث ينعدم الواقع بعد ما كانت ثابتة، فكلاهما خلاف مرتكزات العقلاء في الأمارات الدائرة بينهم، بل يستنكرونها بمقتضى فطرتهم، فلا نحتاج في رده إلى التمسك بالإجماع، و دعوى تواتر الأخبار على الخلاف، و لا ريب أن الشارع لم يخترع طريقة مستقلة في التعبد بغير العلم في مقابل مرتكزات العقلاء.

نعم، اعتبر امورا، كالتعدد و العدالة في بعض الموارد، و ردع عن امور كالقياس و الاستحسان و نحوهما، و في ما لم يثبت الردع و لم يعتبر شيء يكون المتبع هو الطريقة العقلائية، فهذا المعنى من السببية لا وجه له لدى العقلاء، بل مستنكر لديهم، مضافا إلى دعوى الإجماع و تواتر الأخبار على خلافهما.

و إن كان المراد بها حدوث المصلحة في موردها في طول الواقع - مصلحة تفضلية تداركية للواقع مع اتفاق فوته - فلا بأس به، بل هو حسن و واقع عند العرف و العقلاء، و يقتضيه سماحة الشرع الأقدس و رأفته بامته. و حينئذ فإن وافقت الأمارة مع الواقع فنعم الوفاق، و إن خالفت و كان في الواقع واجبا و أدت إلى خلافه، فمصلحة الواقع و إن فاتت عن المكلف لكن يتفضل الشارع عليه بما يتداركها، و إن كان في الواقع حراما و أدت إلى خلافه فقط ظفر المكلف بالمصلحة التفضلية.

و إنما الكلام في وقوعه في المفسدة الواقعية. و الحق أنه لا يقع فيها لأنها إن كانت العقاب فلا عقاب في صورة الجهل، و إن كانت شيئا آخر غيره فلا نسلم

ص: 64

ثبوته في صورة الجهل أيضا، و على فرض الثبوت فهي مغلوبة بالمصلحة التفضلية، و لا أثر للمفسدة المغلوبة لدى العرف و العقلاء.

إن قلت: هل تحدث المفسدة في الأمارات القائمة على الحرمة بناء على السببية الصحيحة؟

قلت: نعم، و لكن مفسدة طريقية، فإن أصابت الواقع فهو المنجز، و إن أخطأت فلا مفسدة على المكلف في الواقع، و لكنه محكوم بها ظاهرا لغلبة إصابة الأمارات للواقع.

ثم إن غاية ما يمكن الالتزام به من حدوث المصلحة إنما هو في ما لم ينكشف الخلاف، و أما معه فمقتضى الارتكازات عدمه، كما لا يخفى.

و هنا احتمال آخر، و هو إسقاط الشارع للواقع خطابا و ملاكا لمصالح شتى، كما في موارد التقية على ما احتمله جمع، و موارد الضرر و الاضطرار التي يعبّر عنها بالواقعية الثانوية، فاستشكلوا في إجزاء الإتيان بالواقع في هذه الموارد، فتكون موارد الاضطرار و الاختيار - كالسفر و الحضر بالنسبة إلى صوم شهر رمضان - من تبدل الموضوع الموجب لتبدل الحكم.

و من ذلك كله ظهر أنه لا وجه لتوهم التخيير بين مورد الأمارات و الواقع بناء على الموضوعية و وجود المصلحة فيه، لأن التخيير إنما هو في ما إذا كانت المصلحة في كل واحد من الطرفين أو الأطراف واقعية دائمية، و المقام ليس كذلك، مع أنه إنما يتحقق فيما إذا كان الطرفان أو الأطراف عرضية لا طولية.

الرابع: اجتماع المثلين أو الضدين الجواب عنه
اشارة

الرابع: مما استدل به على امتناع التعبّد بغير العلم: اجتماع المثلين إن كان مفادها مثل الواقع، و الضدين إن كان ضده.

و فيه: أنه لا وجه لهذا الإشكال بناء على جعل الطريقية المحضة، إذ لا حكم حينئذ في مورد الأمارات، بل هو منحصر بالواقع فقط، فمع الإصابة يكون الحكم واحدا، و هو الحكم الواقعي، فلا موضوع لاجتماع المثلين مع الإصابة،

ص: 65

لأن موضوعه الاثنينية و هي مفقودة في البين، و كذا مع الخطأ، إذ لم يجعل الحكم في مورد الأمارة بناء على جعل الطريقية المحضة، و ما يستفاد من موردها في صورة الخطأ إنما هو توهم الحكم لا حقيقية، و لا مضادة بين حقيقة شيء و توهم الخلاف فيه مع الجهل بواقعه، كما إذا كان لون شيء أسودا مثلا، و توهم الشخص أنه أبيض، أو أخبر شخص أنه أبيض، و ليس لأحد أن يتوهم أن هذه الموارد من اجتماع الضدين، هذا إذا لم يصدر حكم الضد عن المعصوم عليه السّلام.

و أما إذا صدر منه عليه السّلام فإما أن يكون لأجل التقية أو لأجل مصلحة اخرى، فلا ضدية في البين لاختلاف الموضوع، لأن موضوع الحكم الواقعي إنما هو الواقع بما هو واقع، و موضوع ما قاله المعصوم عليه السّلام إنما هو ملاحظة المصالح الظاهرية، و هما موضوعان متغايران فينتفي موضوع التضاد، لاشتراط التضاد المحال بوحدة الموضوع كما برهن في محله، و قد تقدم احتمال سقوط الواقع بتبدل الموضوع في هذه الموارد، فلا اثنينية في البين حتى يتحقق اجتماع المثلين أو الضدين، بل لا ريب في تغاير الحكم الواقعي و الظاهري مطلقا تغايرا يكفي في دفع المحذور، لأن الأول إنما هو فعل الشارع و قائم بذاته الأقدس، و هو البعث بداعي الانبعاث و الزجر بداعي الانزجار و إتمام الحجة من قبل الشارع. و الثاني إنما هو التسهيل على الناس و التيسير عليهم، و هما موضوعان متغايران يكفي تغايرهما في دفع المحذور على فرض جعل الحكم في مورد الأمارات، هذا مع أن المثلين و الضدين على ما عرّفا في محله: أمران وجوديان لا يجتمعان في محل واحد، و الأحكام اعتباريات عقلائية و ليست من الموجودات الخارجية فلا وجه لاجتماع المثلين أو الضدين بالنسبة إليها أصلا، فتكون مثليّتها اعتبارية بضم اعتبار خاص إلى آخر فيفيد التأكيد لا محالة.

كما لا وجه لاجتماع الضدين، لأن موردهما الوجوديات لا الأمور الاعتبارية التي لا وجود لها.

ص: 66

نعم، إن رجعا إلى الإرادة و الكراهة يكونا من الضدين حينئذ. و يجاب باختلاف الجهة، كما تقدم.

ذكر أجوبة الاصوليين عن الدليل الرابع و المناقشة فيها

إن قلت: لا إشكال في تضاد الأحكام عرفا.

قلت: نعم، و لكن بالضدية الاعتبارية التي يكفي في رفعها مجرد تعدد الجهة و لو اعتبارا.

و جملة القول: أن في الأمارات المتعارفة لدى العقلاء إن صادفت الواقع فلا يرون في ذلك محذور اجتماع المثلين، بل لا يخطر ذلك في خاطرهم أبدا، بل يستهجنون هذا الاحتمال بفطرتهم إن تحقق الفحص عن المعارض و المنافي و حصل اليأس عن الظفر بهما، ثم اتفقت المخالفة مع الواقع واقعا و لم ينكشف ذلك، يحكم العقلاء كافة بالمعذورية، و سقوط الواقع عن الفعلية عند اتفاق المخالفة، و لا يتوهمون بمجعول في موردها سوى الواقع، و الشارع لم يخترع طريقة غير هذه، بل ترك العقلاء و مرتكزاتهم و لم يردعهم عنها. و إن انكشف الخلاف و الخطأ ظاهرا، فالواقع باق على ثبوته إلاّ أن يدل دليل على سقوطه.

ثم إنه قد يجاب عن الإشكال الرابع بوجوه:

الأول: أن المجعول في الواقعيات نفس الأحكام الواقعية، و في الأمارات نفس الحجية، فيتعدد مورد الجعلين، فلا يلزم اجتماع المثلين أو الضدين.

و يرد عليه: أن جعل الحجية إما بمعنى جعل نفسها من حيث هي، أو بمعنى جعل العقاب، أو بمعنى جعل المؤدي.

و الأول: لغو لكفاية اعتبارها لدى العقلاء، إلاّ أن يراد به الأعم من التأسيسي و عدم الردع، فيرجع إلى ما قلناه أولا، و لا يكون وجها مستقلا.

و الثاني: مستلزم للدور، لأن تحقق العقاب متوقف على الحجية، و لو توقفت عليه لدار، إلا أن يراد أن جعل العقاب على المخالفة عين جعل الحجية

ص: 67

لا أن يكونا متغايرين، و هو دعوى بلا دليل.

و الثالث: في مقابل جعل الحجية، لا أن يكون عينها، و لا يقول به أحد.

الثاني: أن الواقعيات إنشائيات محضة، و مفاد الأمارات فعليات صرفة، فتختلفان بالمرتبة، فينتفي موضوع شبهة جمع المثلية و الضدية.

و يرد عليه: أن الإنشاء إن كان بلا داع فهو قبيح بالنسبة إلى الشارع، و إن كان بداع آخر غير الفعلية فلا يصير فعليا و إن وافقه مفاد الأمارة. و إن كان بداعي أن يصير فعليا، فهو عين الفعلية، فلا يتصور معنى معقول للإنشائية، فلا يكون الحكم إلا فعليا من طرف الشارع، و هو الجعل بداعي أن يصير فعليا عند تحقق الشرائط و فقد الموانع في المكلف. و إن أراد بالإنشائية الفعلية من طرف الشارع، و بالفعلية: الفعلية من طرف المكلف فله وجه، و لكنه خلاف ظاهر كلامه، فراجع.

الثالث: أن المجعول في مورد الأمارات جعل في ظرف الجهل بالواقعيات، فتتأخر رتبته عنها، فتدفع الشبهة باختلاف الرتبة.

و يرد عليه: أن مفاد الأمارات و إن كان في ظرف الجهل بالواقع فيتأخر رتبة عنه، لكن الواقعيات غير مقيدة بالعلم و الجهل، فتعم مورد مفاد الأمارات و غيرها، فيجيء المحذور حينئذ.

الرابع: أن المجعول في مورد الأمارات عنوان الحكم المجعول بداعي الطريقية المحضة إلى الواقع، لا أن يكون حكما حقيقيا في عرض الواقع بحيث يكون له موافقة و مخالفة مستقلة في مقابل الواقع.

و يرد عليه: أنه حسن ثبوتا، و لكنه لا دليل عليه إثباتا مع إمكان دفع الإشكال بوجه أحسن آخر، كما مرّ.

و من ذلك كله يظهر الأمر في الاصول العملية، إذ الاستصحاب ليس إلا متمم دلالة الدليل و إسراء حكم اليقين إلى ظرف الشك، فلا استقلال فيه بوجه

ص: 68

أصلا، فمع الموافقة يكون المتيقن السابق منجزا، و مع المخالفة و عدم انكشاف الخلاف يكون عذرا، و مع انكشافه لا وجه للإجزاء أصلا إلا أن يدل دليل تعبّدي عليه.

و أما الاحتياط عقليا كان أو شرعيا فليس إلا من آثار منجزية نفس الواقع، و لا اثنينية في البين حتى يتحقق موضوع اجتماع المثلين أو الضدين، بل و لا جعل فيه أصلا غير الواقع المجعول، و لو قيل بوجوب الاحتياط شرعا فهو وجوب طريقي إلى الواقع، لا أن يكون وجوبا مستقلا في عرضه.

و أما البراءة - عقلية كانت أو شرعية - فليست إلا سقوط العقاب عن الواقع المجهول، و يستلزم ذلك الترخيص و الإباحة الظاهرية، و هو غير جعل الحكم في عرض الواقع المجهول.

و كذا التخيير لا اثنينية فيه مع الواقع المجعول حتى يتحقق موضوع اجتماع المثلين أو الضدين، إذ ليس مفاده إلا المعذورية في ما لو كان المختار غير الواقع.

ص: 69

المبحث الثاني أصالة عدم الاعتبار و عدم صحة الاعتذار

اشارة

تقدم أن موردها في مقام الانتساب إلى الشرع لا مرحلة الاقتضاء، إذ لا معنى لجريان الأصل في ما فيه الاقتضاء.

و استدل على عدم الحجية و الاعتبار بالأدلة الأربعة..

فمن الكتاب: بآية الافتراء و هي قوله تعالى: آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ .

و فيه: أن الافتراء هو الكذب العظيم أو العجيب، و مجرد ما لم يعلم أنه صدق أو كذب ليس افتراء، و لكن الظاهر أنه لا بد في استناد شيء إلى الشارع من التصديق بالصدور، و مع عدمه يكون افتراء بالنسبة إليه، و حينئذ تتم دلالة الآية.

و من السنة: بمرفوعة محمد بن خالد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «القضاة أربعة:

ثلاثة في النار و واحد في الجنّة - إلى أن قال - و رجل قضى بالحق و هو لا يعلم فهو في النار، و رجل قضى بالحقّ و هو يعلم فهو في الجنة».

و فيه: مضافا إلى قصور سنده، أن التأمل في مساق الأخبار الواردة في القضاء يدل على أنه عليه السّلام فى مقام بيان التفصيل بين قضاة الجور و قضاة العدل، فقوله عليه السّلام: «و رجل قضى بالحق و هو لا يعلم - أي لا يعتقد بالحق - و قوله عليه السّلام:

رجل قضى بالحق و هو يعلم - أي يعتقد بالحقّ» و لا ربط له بالمقام.

و لكن قصور السند منجبر بالعمل، و انطباقه على قضاة الجور من باب أحد المصاديق لا الخصوصية، فلا قصور فيه دلالة و لا سندا.

ص: 70

و من الإجماع: بما عن الوحيد البهبهاني من أن حرمة العمل بما لا يعلم من البديهيات بين العوام فضلا عن الخواص.

و فيه: أنه على فرض تحقق الإجماع به فالظاهر عدم كونه إجماعا تعبديا بل هو حاصل عن مرتكزاتهم العقلائية الدائرة في ما بينهم.

و من العقل: بما ارتكز في أذهان العقلاء من أن الاحتجاج بشيء و اعتباره و صحة الاعتذار به و انتسابه إلى شخص لا بد و أن تكون بحجة معتبرة؛ و أن الشك في الحجية و الاعتذار يكفي في عدمها، كما أن الشك في صحة الانتساب يكفي في عدمها لدى العقلاء، فتكون أصالة عدم الحجية و أصالة عدم صحة الانتساب و الاعتذار من الاصول العقلائية مطلقا، و يكفي فيها عدم الردع من الشارع، فكيف بما ورد من التقرير.

و بالجملة: أصالة عدم الحجية من الاصول المعتبرة النظامية الدائرة عندهم في جميع علومهم، بل في امور معاشهم أيضا، إذ لو كان بناؤهم على ترتيب الأثر على كل ما قيل أو يقال لاختل النظام، فينبغي أن يستدل بها لا عليها، و مع الإغماض عن ذلك نقول: إن نفس الحجية و ترتب الأثر من الامور الحادثة، فيستصحب عدمها ما لم يثبت الدليل عليها.

و ما يتوهم: من أنه لا أثر للاستصحاب، لكفاية نفس الشك في الحجية في عدم ترتيب أثرها.

مخدوش: بأن ما هو المعتبر في الاصول العملية من الأثر هو إمكانه لا فعليته من كل حيثية وجهة، و لذا يجري استصحاب اشتغال الذمة في موارد جريان قاعدة الاشتغال أيضا. و في المقام لو قيل بأن أصالة عدم الحجية ليست من الاصول المستقلة العقلائية فتمسك فيها باستصحابها.

و قد يقرر الأصل في المقام بوجوه اخرى:

الأول: أصالة إباحة العمل بغير العلم.

ص: 71

و يرد: بأنها إن اريد الاعتماد في تفريغ الذمة فلا وجه له، لأن الشك في فراغ الذمة عما علم اشتغالها به - و إن اريد بها إباحة العمل بكل رطب و يابس و غث و سمين - فهو معلوم البطلان لدى العوام فضلا عن الأعلام.

الثاني: أن المقام من صغريات دوران الأمر بين المحذورين، لدوران الأمر في غير العلم بين وجوب العمل به و حرمته، و الحكم فيه هو التخيير.

و يرد: بأن ما هو المرتكز في الأذهان من التثبت و التأمل في العمل بغير العلم إلا مع دليل يدل عليه، يخرج المقام عن الدوران بينهما، كما لا يخفى.

الثالث: أن المقام من موارد دوران الأمر بين التعيين و التخيير، لاحتمال تعين العمل بخصوص العلم، أو التخيير بينه و بين العمل بغيره.

و يرد: بما مرّ من بطلان العمل بغير العلم مطلقا إلا مع دليل يدل عليه، فكيف يمكن أن يجعل عدلا للعلم و يحكم بينهما بالتخيير، مع أن مسألة دوران الأمر بين التعيين و التخيير محل خلاف و إشكال، فذهب جمع إلى التخيير، كما يأتي في محله إن شاء اللّه تعالى.

و ينبغي التنبيه على امور:

الأول: الاستدلال على حرمة التشريع، أنحاء ما يضاف إلى الشارع، أقسام التشريع

الأول: لا ريب في حرمة التشريع شرعا، بل الظاهر كونه من المقبّحات العقلائية أيضا، لكونه نحو تصرف في سلطان المولى، لانتساب ما لم يعلم صدوره منه إليه، و ذلك نحو ظلم عليه، و يدل عليه قوله تعالى: لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَ رَسُولِهِ فإن أجلى مصاديق الآية الكريمة التشريع، فلا بد و أن تكون الإرادة التشريعية لإرادة اللّه عزّ و جل، كتبعية الإرادة التكوينية لها، و قوله تعالى:

وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ و غيرهما من الآيات الشريفة.

ص: 72

ثم إن ما يضاف إلى الشارع..

تارة: يعلم بصدوره منه.

و اخرى: يعلم بعدم الصدور.

و ثالثة: لا يعلم بالصدور و لا بعدمه، و على كل منها..

تارة: صدر منه في الواقع ما اضيف إليه.

و اخرى: لم يصدر.

و لا ريب في عدم تحقق التشريع في القسمين الأولين، لتقوّم موضوعه بعدم حجة معتبرة في البين و العلم بالصدور حجة معتبرة، كما لا ريب في تحققه في الثالث - و هو ما علم بعدم الصدور و لم يصدر واقعا أيضا - بل و كذا يتحقق في الثلاثة الباقية أيضا، لأن موضوعه عند الفقهاء قدس سرّهم ما إذا لم يكن الاستناد إلى الشارع عن حجة معتبرة في مقام الإثبات، كما لا يخفى على من راجع الكلمات.

و التشريع قد يتحقق بمجرد القول بأن ينسب إلى الشارع قولا لم يقله، و قد يتحقق بالعمل أيضا، و المحرم منه هو الإتيان بما ليس من الدين بعنوان أنه دين، عن قصد جزمي بذلك، فما يؤتى به برجاء المطلوبية لدى الشارع، أو يترك برجاء المبغوضية لديه ليس من التشريع في شيء.

الثاني: حرمة الفعل المشرع فيه

الثاني: الظاهر حرمة الفعل المشرّع به، لكونه مظهر التشريع، بل لا معنى للتشريع عند العرف و العقلاء إلا ذلك، كما لا يخفى.

الثالث: عدم الفرق بين البدعة و التشريع

الثالث: لا فرق بين البدعة و التشريع شرعا. و هما مساويان، و كلاهما أعم من أن يفعل الشخص بنفسه ما ليس في الدين بعنوان أنه دين، أو أن يتسبب لأن يفعل غيره ذلك بهذا العنوان.

الرابع: الرد على صاحب الكفاية في قوله إن حجية شيء في الدين غير مساوق لصحة انتسابها إلى الشارع

الرابع: حجية شيء في الدين مساوقة لصحة انتسابها إلى الشارع، و كذا العكس، فما عن صاحب الكفاية من أن الظن الانسدادي - بناء على الحكومة - حجة مع عدم صحة انتسابه إلى الشارع.

ص: 73

مردود.. أولا: بأن المراد بالحجية في المقام الأعم من التأسيس و التقرير الذي يكفي فيه عدم الردع فقط.

و ثانيا: بأن البحث في المقام عن حجة تقع في طريق إثبات الحكم لا إسقاطه، و الظن الانسدادي من الثاني دون الأول، فراجع و تأمل.

هذه نخبة الكلام في أصالة عدم الحجية و عدم صحة الاعتذار في ما شك في حجيته، و قد خرج عن هذا الأصل امور:

اشارة

ص: 74

الأمر الأول الظواهر

اشارة

قد استقرت السيرة العقلائية على الاعتماد على الظواهر في المحاورات و المخاصمات و الاحتجاجات، و يستنكرون على من تخلف عن ذلك، و هذا من أهم الاصول النظامية المحاورية بحيث يستدل به لا عليه، و قد جرت عادة الشرائع الإلهية عليه أيضا، فبها يكون تبليغ الأحكام، و عليها يدور نظام المعاش و المعاد، و لو اختل ذلك لاختل النظامان، فحق عنوان البحث أن يكون هكذا:

يمتنع عادة عدم اعتبار الظواهر، فحجية الظواهر كحجية الخبر الموثوق به التي هي من الاصول العقلائية أيضا.

اعتبار الظواهر من الاصول النظامية، البحث فيها صغروي و كبروي

ثم إن البحث عن الظواهر..

تارة: صغروي، كالبحث عن موجبات الظهور و مناشئه، و هي بحسب الأفراد غير محصورة لا تضبطها ضابطة كلية.

و اخرى: كبروي، كالبحث عن حجية أصل الظاهر. و لا ريب في أنه بقسميه من مباحث الاصول بناء على ما قدمناه من أنه ما يبحث فيه عما يصح أن يقع في طريق الاعتذار بلا واسطة أو معها.

استدلال الأخباريين على عدم حجية ظواهر القرآن و الجواب عنه

أما الكلام في القسم الثاني:

فقد نسب إلى بعض الأخباريين عدم حجية ظواهر القرآن، و استدل عليه..

تارة: بما ورد من اختصاص فهم القرآن بمن خوطب به، و هم المعصومون عليهم السّلام فلا يفهمه غيرهم.

ص: 75

و يرد.. أولا: بأن المراد بمن خوطب به أهل الحق و مطلق من يريد اتباعه في مقابل من يتبع الهوى، فهذه الأخبار نظير قوله تعالى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ .

و ثانيا: أن المراد بها ما يختص بالمعصوم من القرآن، كالبطون السبعة أو السبعين التي قصرت العقول عن دركها، و لا بد فيه من تأييد إلهي، لأن القرآن كمظهر للّوح المحفوظ و ام الكتاب، و الكتاب المبين الذي قال اللّه تعالى فيه:

وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ و الإحاطة بالقرآن من حيث كونه مظهرا لام الكتاب تختص بنفوس قدسية خاصة، و ليس ذلك من شأن كل أحد و إن بلغ من العلم ما بلغ، و ليس المراد به الظواهر التي يشترك في فهمها العالم و السوقي، مثل قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ، و قوله تعالى: وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ .

و ثالثا: إنا نتمسك بظاهر القرآن بعد المراجعة إلى السنن المعصومية الواردة في بيانه و تفسيره، فقد أخذنا الظاهر عمن خوطب به.

و رابعا: أنها معارضة بالآيات الكريمة الدالة على الترغيب في التدبر في القرآن و التفكّر فيه، و بالأخبار الكثيرة الواردة بمضامين مختلفة في مقام التمسك بالقرآن، و الاحتجاج به على الخصام، و معرفة الأحكام منه، و عرض الأخبار المتعارضة عليه، و غير ذلك مما يستفاد منه استفادة قطعية أن حجية ظواهره كانت مسلّمة لدى الشرع الأقدس.

و اخرى: بأن العلم الإجمالي بورود مخصصات و مقيدات عليه، يمنع عن التمسك بظاهره.

و يرد: بأن من شرط التمسك بالظاهر هو الفحص و اليأس عن الظفر بما يخالفه، فينحل العلم الإجمالي قهرا بهذا التفحّص التام و يصير من الشك البدوي بلا كلام.

ص: 76

و ثالثة: بأنه من التفسير بالرأي المنهي عنه.

و يرد: بأن الأخذ بالظاهر ليس من التفسير، و على فرض كونه منه فمن شرط الأخذ به عندنا هو الرجوع إلى السنن المعصومية و استفادة تفسيره منها، فلا يكون من التفسير بالرأي حينئذ قطعا.

و رابعة: بأنه من المتشابه، و قد نهي عن اتباعه كتابا، مثل قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ . و سنة ذكرناها في التفسير.

و يرد: بأن النص و الظاهر و الأظهر و المتشابه من الامور العرفية المتعارفة، و لا يطلق أحدها على الآخر لا عرفا و لا لغة و لا شرعا، و قد مرّ أن حجية ظواهره كانت مسلّمة لدى الشرع في جميع الطبقات، فراجع و تأمل. مع أنه لم يبق متشابه في القرآن بعد ما ورد من الشرع في بيان متشابهات القرآن.

و يمكن أن يحمل كلامهم على عدم حجية ظواهر القرآن قبل الفحص عن المعارض و المنافي و اليأس عن الظفر به، فلا نزاع في البين حينئذ لاتفاق الكل عليه.

لا بد من ذكر امور:
الأول: النص و الظواهر و الأظهر من أوصاف اللفظ

الأول: النص و الظاهر و الأظهر، كالفصاحة و البلاغة من أوصاف اللفظ، فكلما تحقق الظهور يتبع لدى العقلاء مطلقا، بلا فرق بين المخاطب و من قصد إفهامه و غيرهما، كما أنه كلما تحققت الفصاحة و البلاغة يمدح الكلام بذلك من غير فرق بين المخاطب و غيره.

مع أن الألفاظ الظاهرة في الأحكام الكلية توجهت إلى جميع من يمكن

ص: 77

أن ينطبق عليه الحكم، و يكون الجميع مقصودين بالإفهام، و الموجود حين الخطاب مرآة للجميع، لا أن يكون ملحوظا على نحو الموضوعية، هذا في الأحكام الكلية، فكيف بالأحكام الأبدية في الشريعة الختمية.

و احتمال وجود قرينة في البين أو جهة اختصاص مخصوصة بخصوص قوم دون آخر.

مدفوع بالأصل العقلائي، و قد تقدّم بعض القول في العام و الخاص، فراجع.

الثاني: عدم دوران حجية الظهور مدار حصول الظن الشخصي

الثاني: مقتضى المرتكزات العرفية أن حجية الظهور لا تدور مدار حصول الظن الشخصي، بل هو حجة و إن كان الظن الشخصي على خلافه.

نعم، لا يبعد أن يكون تحقق الاطمئنان النوعي في مورده حكمة الاعتبار، لا أن يكون علة له يدور مدارها وجودا و عدما.

الثالث: للظهور مراتب متفاوتة

الثالث: للظهور مراتب متفاوتة في المحاورات العرفية، فكل ما لا يصدق عليه المجمل يكون ظاهرا إلى أن يبلغ إلى مرتبة النصوصية، و جميع تلك المراتب حجة لدى العقلاء ما دام يصدق عليها الظاهر عرفا.

الرابع: في اختلاف قراءة القرآن
اشارة

الرابع: لا ريب في أن الاختلاف في قراءة آية مثل: يَطْهُرْنَ بالتخفيف و التشديد، يوجب إجمالها و سقوط ظهورها و عدم جواز الاستدلال بها، سواء ثبت تواتر القراءات السبع أو لا - كما هو الحق - لأن المنساق منها على فرض ثبوت التواتر إنما هو مجرد جواز القراءة لا الاستدلال بها على أحكام متضادة متناقضة، و حينئذ فلا بد من الرجوع إلى أدلة اخرى.

نعم، لو كان الترجيح عند التعارض موافقا للمرتكزات العقلائية و سيرتهم، يصح إعمال المرجحات حينئذ، لأن القراءات إما أن تكون من قراءة النبي صلّى اللّه عليه و آله إن ثبت تواترها، أو تكون من أهل الخبرة إن لم يثبت، و تقدم في التعارض ما ينفع المقام.

ص: 78

مناشئ الظهور

أما الكلام في القسم الأول - و هو مناشئ الظهور - فهي كثيرة جدا كما مرّ و هي بحسب الجزئيات لا تعد و لا تحصى و لا تضبطها ضابطة كلية.

نعم، من كلياتها مقدمات الحكمة، و وقوع الأمر بعد الحظر، و قد مرّ ما يتعلّق بهما.

و منها: قول اللغوي، و استدل على اعتباره..

تارة: بالإجماع.

و يرد: بأنه ليس من الإجماع التعبّدي في شيء مع تحقق الخلاف قديما و حديثا.

و اخرى: بالسيرة العملية مع كونها من أهل الخبرة.

و يرد: بأن المتيقن منها ما إذا حصل الوثوق و الاطمئنان من قوله، و لا ريب في الاعتبار حينئذ إن لم يكن من باب الشهادة، فيعتبر فيه العدد و العدالة.

و ثالثة: بإجراء مقدمات الانسداد.

و يرد: بعدم تماميتها أصلا، كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى.

و رابعة: بأن ما يدل على حجية خبر الواحد يدل على حجية ما يتعلّق به بالملازمة من قول اللغوي و الرجالي و المفسّر و الهيوي و نحوهم مما له دخل في الأحكام في الجملة.

و يرد: بأن أدلة الخبر تدل على التصديق في الحس، و لا تدل على التصديق في الحدس، و قول اللغوي و نظائره مما له دخل في الأحكام من الثاني لا الأول، هذا.

و لكن قد يحصل الاطمئنان العقلائي من كلماتهم فيصح الاعتماد عليه حينئذ من هذه الجهة.

و الظاهر أن اعتبار أقوالهم إنما هو من جهة أنهم من أهل الخبرة، لا الشهادة حتى يعتبر فيه التعدد و العدالة.

ص: 79

و يمكن أن يجعل النزاع لفظيا، فمن أثبت اعتبار قولهم، أي بشرط حصول الاطمئنان، و من نفاه أي بشرط عدم حصوله.

ثم إنه قد شاع في المحاورات أصالة الحقيقة، و أصالة عدم القرينة، و أصالة الظهور، و الظاهر كون كل واحد منها أصلا مستقلا في مقابل الآخر و يتمسك به في المحاورات مع الغفلة عن غيره، فلا وجه لإرجاع بعضها إلى بعض، كما عن الشيخ قدّس سرّه.

و كيف كان، فهذه الاصول لا موضوعية لها بوجه، بل طريق لإثبات الظهور، مع أنه لا ثمرة عملية فيه، لأن المدار كله على الظهور فقط، أرجع البعض إلى البعض أو لا، و يصح أن يكون كل واحد منها مما يعتمد عليه العقلاء في الاستناد الظهوري إذا كانت لظهور لفظ في معنى قرائن متعددة، فيعتمد على الجميع و إن كان البعض كافيا فيه، فالظاهر حجة و لو لم يكن من الحقيقة، و ما ليس بظاهر لا اعتبار به و لو كان حقيقة.

ص: 80

الأمر الثاني الاجماع

اشارة

و هو إما محصل أو منقول بالخبر الواحد.

و البحث عن الثاني من فروع بحث حجية الخبر الواحد، فلا بد و إن يذكر في تنبيهاته، و أنه لا فرق فيه بين أن يكون مفاده قول المعصوم أو فعله أو تقريره، أو الإجماع القائم على شيء من ذلك.

و لعلهم أفردوه بالبحث مقدما على بحث حجية الخبر، لأجل أن الإجماع أيضا من أدلة اعتبار الخبر في الجملة، فأرادوا الإشارة إلى اعتباره إجمالا مقدمة لذلك.

و الإجماع من الامور العرفية العقلائية في كل عصر و زمان، و لا يختص بقوم دون آخرين و لا بملة دون اخرى، ففي كل علم و صنعة اتفاق على امور و اختلاف في اخرى من غير اختصاص بملة الإسلام و فقهاء المسلمين.

فهو عبارة: عن اتفاق آراء من يعتبر رأيه عند العقلاء على شيء في ما يعتبر رأيهم فيه.

و لكن لا موضوعية له في الفقه بما هو إجماع في مقابل الكتاب و السنّة بحيث يكون اعتباره في عرضهما، بل الظاهر أن اعتبار الإجماع لدى العقلاء أيضا ليس لموضوعية فيه، بل لأجل كشفه عن حجة وثيقة لديهم في الجملة.

كما أن دليل العقل في الأحكام لا موضوعية فيه، و لا بد من إضافة اعتباره إلى الشرع و لو بنحو عدم الردع.

ص: 81

فمدرك الأحكام - كما مرّ - الكتاب المفسّر بالسنة المعصومية، أو السنّة المفسرة للكتاب.

طرق استكشاف رأي المعصوم عليه السّلام
اشارة

و على أي حال: لا بد في اعتبار الإجماع من كشفه عن قول المعصوم أو فعله أو تقريره عليه السّلام، و لهم في طريق استكشاف ذلك أقوال:

الأول: دخول شخص المعصوم عليه السّلام في جملة المجمعين

و فيه: أنه في الإجماعات الحاصلة بعد الغيبة الكبرى التي يدور عليها مدار الإجماعات الفقهية! ممتنع عادة و إن أمكن ذاتا.

نعم، لو تحقق إجماع من زمان ظهور المعصوم عليه السّلام إلى ما بعد الغيبة الكبرى لكان له وجه.

و يمكن أن يكون من الإجماع الدخولي، و لكن كلام الأعلام في المقام في غيره، و لو تشرّف أحد بلقائه عليه السّلام بعد الغيبة الكبرى و أخذ حكما منه عليه السّلام و نقله بعنوان الإجماع، فاعتبار قوله مع ما ورد من التشديد في تكذيب ذلك مشكل، و على فرضه فكونه من الإجماع الاصطلاحي أشكل.

نعم، يمكن أن يراد بدخول شخصه دخول رأيه المبارك و لو تقريرا، و لا بأس به و هو صحيح، كما أن ما دلّ على تكذيب مدعي الرؤية إنما هو فيما إذا ترتبت عليها المفسدة، لا ما إذا كان المدعي ثقة من كل جهة و لم يكن في البين مفسدة.

الثاني: قاعدة اللطف. و اللطف:

عبارة عن عناية اللّه تعالى و لطفه بخلقه و تدبير موجبات كمالهم الذي أعده لهم في علمه الأزلي. و هو إما تكويني، أو تشريعي، و الأول إيصال الممكنات إلى الغايات المعدّة لها، و الثاني إيصال خصوص الإنسان إلى كماله المعنوي ببعث الرسل و إنزال الكتب و إتمام الحجة عليه و الوعد و الوعيد، و قد حصل ذلك منه تعالى بأكمل وجه و أتم طريق.

و قد يطلق اللطف على أنه يجب عليه تعالى تقريب العباد إلى الطاعة و تبعيدهم عن المعصية بما لا ينافي الاختيار، فإذا حصل إجماع على ما لا

ص: 82

يرتضيه اللّه، يجب عليه تعالى صرفهم عنه، أو إلهام ما هو الواقع إليهم.

و فيه: أن الواجب على اللّه تعالى إنما هو اللطف بما هو المتعارف بين الناس، و قد حصل ببعث الرسل و إنزال الكتب، و لا دليل على وجوب شيء زائد عنه عليه تعالى، لا بدليل عقلي و لا نقلي. و حينئذ فيكون احتمال الخطأ في إجماع المجمعين كاحتماله في فتوى فقيه يكون مرجعا للتقليد.

الثالث: الحدس

من آراء الرعايا و المرءوسين أن آراء الرئيس معهم.

و اشكل عليه: بأن له وجها إن كان باب المراجعة و المشاورة مع الرئيس مفتوحا و الرعية تشاوره و هو يراجعهم، و أما إذا كان الباب مسدودا بالمرة و حالت بينهما أستار الغيبة، فلا وجه لهذا الحدس أصلا، و لا يعتبر لدى العرف و العقلاء رأسا.

و يرد عليه: بأنه إذا كان باب معظم الأحكام الصادرة منهم عليهم السّلام مفتوحا و كان ذلك في متناولنا و جرت العادة إلى الرجوع إليها في زمان الحضور و الغيبة، يكون ذلك من انفتاح باب المراجعة إليهم عليهم السّلام، و العادة تقضي برضائهم بما اجتمع عليه علماء شيعتهم و رواة أحاديثهم.

و بالجملة: الملازمة العادية بين إجماع الإمامية و رضاء المعصوم عليه السّلام بما أجمعوا عليه ثابتة، و هذه الملازمة معتبرة عرفا، و على هذا لا وجه للفرق بين إجماع القدماء و سائر الأعصار، فلا بأس بهذا الوجه.

الرابع: تراكم الظنون من آراء الأعلام

يوجب القطع بموافقة الإمام عليه السّلام.

و اشكل عليه: بأنه إحالة إلى المجهول مع اختلاف المسائل و الآراء و الأشخاص.

و فيه: أن المدار على حصول الاطمئنان النوعي و هو مختلف بحسب المراتب، و يكفي حصول أول مرتبة منه كما في سائر الموارد، و هذا الوجه أيضا لا بأس به.

الخامس: لأجل كشفه عن دليل معتبر وصل إليهم

و لم يصل إلينا، لأن بناء

ص: 83

الأئمة عليهم السّلام كان على إيداع جملة من الأحكام الواقعية عند خواص الأصحاب، و هم أودعوها عند الطبقة اللاحقة لهم فوصلت إلى طبقة الغيبة الكبرى فصارت مجمعا عليها من دون ذكر نفس المدرك بالخصوص، و هذا وجه حسن متين يصلح أن يكون مدركا لاعتبار الشهرة أيضا، لكنه يختص بما إذا لم يكن في البين مدرك يصح الاستناد إليه، و هو قليل جدا، كما لا يخفى.

السادس: لأجل كونه كاشفا عن قاعدة معتبرة عقلائية أو شرعية،

قال صاحب الجواهر قدّس سرّه في صلاة القضاء من كتابه: «و الذي يقوى في ظني أن كثيرا من إجماعات القدماء بمعنى الاتفاق على القواعد الكلية التي تكون مدركا لبعض الأحكام الجزئية»، و قال في كتاب الكفارات: «و إجماع السيدين كغيره من إجماعات القدماء، لا وثوق بالمراد منها على وجه تريح النفس في الفتوى بها بالوجوب و الحرمة، و إن قلنا بحجية الإجماع المنقول لكن في الغالب ينقلونه على مقتضى العمومات و نحوها...» و كلامه في المقامين حسن متين جدا، كما لا يخفى على أهله.

السابع: أن يتفرد فقيه في عصر و لم يكن فقيه آخر في طبقته

و لا الطبقة اللاحقة إلا أن يكون تلميذا له أو تلميذا لتلاميذه، و حيث أن مثل هذا الفقيه لا يرى في الخارج رأيا إلا رأيه يصح له دعوى الإجماع، و هذا كثير في دعوى الإجماع من مثل السيد المرتضى و الشيخ قدّس سرّهما بل و العلامة، و لا اعتبار بمثل هذا الإجماع.

الثامن: الإجماع القهري الانطباقي بعد استقرار رأي فقيه بين الناس
اشارة

و من يتبعه قرنا أو أكثر، يتحقق الإجماع قهرا لعدم ظهور الخلاف، و ينقل في القرون اللاحقة عين ما تحقق في القرن السابق، و هذا أيضا كثير، كما لا يخفى على الخبير، و لا وجه لاعتباره أيضا.

و لو تردد إجماع بين ما هو معتبر و غير معتبر، لا وجه للاعتماد عليه كما هو معلوم إلا إذا عينت القرائن ما هو المعتبر منه.

ص: 84

تحقيق الكلام في الإجماع عند الإمامية

ثم إنه قد يكون الإجماع تقليديا و تشبيها، و ذلك لأن الإجماع كان شائعا بين العامة، و كانت الخاصة جامدين على نصوص الأئمة، و لذا سموا بالمقلّدة لدى العامة في أوائل الغيبة الكبرى، فادعى الإجماع أعلام تلك العصور حتى في المسائل التي تكون النصوص فيها كثيرة، لمصلحة التشابه مع العامة، و إزالة مثل هذه الأسماء عن أنفسهم، و هذا الوجه كثير في الإجماعات التي ادعاها الشيخ رحمه اللّه.

و يمكن زيادة قسم آخر من الإجماع، و هو (الإجماع الاحتفاظي) حيث أن العامة تشتت إلى مذاهب كثيرة بما تجاوز التسعين، كما لا يخفى على من راجع التواريخ، ثم استقرت مذاهبهم على الأربعة المعروفة بأمر من خليفة ذاك الوقت و كان أعلام فقهائنا قدس سرّهم متوجهين إلى هذه الجهات، فادعوا الإجماع في كل المسائل مع وجود الدليل، اهتماما ببقاء وحدة المذهب و عدم تشتته، ثم لما رأوا أن هذا الأمر يضرّ بهم من جهة اخرى، كما قال أبو عبد اللّه عليه السّلام في خبر أبي خديجة: «أنا ألقيت الخلاف بينهم لئلا يعرفوا فيؤخذ برقابهم» ادعوا الإجماعات المعارضة لإلقاء الخلاف حفظا لدماء الشيعة، و ليسمّ الأول (الإجماع الاحتفاظي)، و الأخير (الإجماع الاختلافي) أي لأجل إيجاد الخلاف لمصالح شتى كما لا يخفى، و يأتي في بحث الشهرة بعض ما ينفع المقام أيضا.

ثم إنه لو علم أحد الوجوه الماضية بالقرائن فهو، و إلا فالظاهر تردده بين الخامس و السادس، و لا بد في تعيين أحدهما من ملاحظة القرائن و هي مختلفة بحسب الموارد.

نقل الإجماع:
اشارة

نقل الإجماع.. تارة: يكون من نقل السبب فقط، كما إذا سرد أقوال الفقهاء تفصيلا أو نقلها إجمالا بألفاظ مختلفة.

ص: 85

و اخرى: يكون من نقل المسبب - و هو رأي المعصوم عليه السّلام حدسا - كما هو الغالب في الإجماعات المنقولة، أو حسا و هو النادر.

فإن كان من نقل السبب فيشمله دليل حجية الخبر إن كان ما نقله عند المنقول إليه سببا تاما للأثر، و أما إذا لم يكن سببا تاما ففي الكفاية و غيرها اعتباره أيضا بمقدار دلالته لشمول دليل اعتبار الخبر لمطلق الأخبار عن حس بما كان منشأ لأثر شرعي و لو بنحو جزء السبب، كما هو المنساق في ما ورد في السؤال عن حال الرواة و موضوعات الأحكام، كالكر، و الصاع، و السفر و نحوها مما هو كثير جدا، مع أن هذا مقتضى حجية الأمارة في جميع لوازم مدلولها و ملزوماته التضمنية و الالتزامية، فيتم المنقول إليه سببيته بالتفحص عن أقوال أخر، فيتحقق لديه حينئذ الإجماع المعتبر.

و يمكن الإشكال عليه: بأن موضوعات الأحكام و ما يتعلّق بحال الرواة دخيلة في ما يتعلّق بالحكم، بخلاف أقوال الفقهاء فإنها أجنبية عن حكم اللّه تعالى حقيقة، إلا أن يتمسك بذيل المسامحة العرفية، و يقال بأنه إذا كان مجموع الأقوال من حيث المجموع منشأ لاستفادة حكم اللّه تعالى لا يعدّ البعض منها أجنبيا محضا، كما لا يخفى، فيشمله دليل الاعتبار بالملازمة العرفية.

و كذا إن كان من نقل السبب و المسبب معا عن حس لو فرض تحققه، أو كان من نقل المسبب كذلك. و أما إذا كان عن حدس فلا تشمله أدلة اعتبار الخبر، إذ المنساق منها عرفا هو تصديق المخبر في سمعه و بصره، لا تصويبه في حدسه و نظره إلا بقرائن خارجية تدل على تصديق التصويب أيضا، فيعتبر حينئذ من جهة القرائن لا من حيث الإخبار به، كما هو مورد البحث في المقام، و هي نادرة في الإجماعات المنقولة، كما لا يخفى.

و لكن يمكن أن يقال: إن مناط الاعتبار مطلقا في نقل الحجج المعتبرة حصول الوثوق النوعي حسيا كان المخبر به أو حدسيا، فمع تحقق هذا المناط يعتبر المخبر به مطلقا، و قد استقرت السيرة على الاعتماد على تصديق الأطباء

ص: 86

و المهندسين و الخبراء الذين يخبرون عن حدسهم في جميع الفنون و الصنائع و الحرف، و كون الغالب هو الحسيات لا يوجب التقييد لأجل المناط بعد تحققه.

فتلخّص من ذلك كله: أن الإجماع المنقول معتبر، للملازمة العرفية بين اتفاق رواة أحاديث الأئمة على شيء بعد الفحص و التثبت و الدقة و بين رضاء المعصوم عليه السّلام به، بلا فرق فيه بين عصر الحضور و عصر الغيبة و سائر الأعصار المتأخرة.

نعم، يزيد القدماء على ذلك بإمكان وصولهم على حديث منهم عليهم السّلام لم يصل ذلك إلينا. و يمكن الاستدلال على اعتباره بكل ما دلّ على اعتبار حكاية فعل المعصوم و قوله و تقريره.

هذا كله إذا كان الإجماع المنقول معتبرا لدى المنقول إليه بعين وجه اعتباره لدى الناقل.

أما لو لم يكن معتبرا لديه أو كان نظره في وجه الاعتبار مخالفا لنظر الناقل، فلا يعتبر من حيث نقل المسبب حينئذ، و إنما يعتبر من حيث نقل السبب بمقدار ما يكشف عنه لفظ الناقل بناء على شمول دليل اعتبار الخبر الواحد لمثله أيضا، كما قلناه.

و ينبغي التنبيه على أمور:
الأول: الإجماع إنما يكون معتبرا إذا حصل الاطمئنان منه

الأول: اعتبار الإجماع محصله و منقوله منحصر بما إذا اطمأن المحصل له أو المنقول إليه أن ما كان معتبرا لدى المجمعين معتبر لديه أيضا، و لو كان حصول الاطمئنان من القرائن الخارجة. و أما مع عدم حصول الاطمئنان بذلك فلا وجه للاعتبار مطلقا، لأن حجية شيء عند طائفة لا يستلزم حجيته عند اخرى، سواء كان منشأ عدم حصول الاطمئنان من القرائن الداخلية أو الخارجية أو جهات اخرى.

ص: 87

الثاني: يعرض على الإجماع ما يعرض على الخبر الواحد

الثاني: يعرض الإجماع المنقول بالخبر الواحد ما يعرض على الخبر الواحد من الأقسام، كالصحيح، و الموثق، و الحسن، و الضعيف و نحوها، كما يعرض عليه أحكامه من التعارض و الترجيح و نحوهما مما مضى في محله، لأنه حينئذ من أقسامه، فيتصف بلوازمه و أحكامه.

الثالث: معنى قول الفقهاء «نقل الإجماع عليه مستفيض بل متواتر»

الثالث: قد شاع في الكتب الفقهية - خصوصا في الجواهر - هذا التعبير (نقل الإجماع عليه مستفيض بل متواتر). و هذا التعبير إنما يخرجه عن نقل الإجماع بالخبر الواحد إذا كانت الاستفاضة أو التواتر في كل طبقته، و كان حصولها عرضيا من أول حدوث الاستفاضة و التواتر. و أما إذا حصلا في الطبقات اللاحقة، أو شك في ذلك فيكون من الإجماع المنقول بالخبر الواحد.

الرابع: إذا شك في أن ناقل الإجماع استند إلى الحس أو الحدس.

الرابع: لو شك في أن ناقل الإجماع استند فيه إلى الحس أو الحدس، فلا تشمله الأدلة اللفظية الدالة على اعتبار الخبر الواحد، كآية النبأ و هي قوله تعالى:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ و نحوها، لأن المنساق منها عرفا تصديق المخبر الصادق في خبره لا تصويبه في نظره، مع الشك أن يكون التمسك بها تمسكا بالعام في الشبهة الموضوعية، إلا إذا قلنا بما تقدّم منا من أنها تشمل عند المتعارف تصويب النظر أيضا، و هو وجه حسن لا بأس به، فتشملها السيرة العقلائية له، لعدم بناء منهم على التفحص في إخبار المخبر الصادق أنه حسي أو حدسي، بل الظاهر جريان بنائهم في الجملة على تصويب الحدسي أيضا، لكنه في ما لم يحرز الخلاف فلا يجري ذلك مع إثبات بطلان مبنى الحدس رأسا، كما مرّ.

الخامس: معنى الإجماع المحصل

الخامس: الإجماع المحصل عبارة عن أن يطّلع الشخص.. على أقوال الفقهاء في المسألة بحيث يكشف منها رأي المعصوم عليه السّلام، و لا يعتبر فيه مباشرة الشخص بنفسه، بل يكفي الاستنابة فيه ممن يثق به، بل يكفي فيه أيضا أن يكون بعضه منقولا و بعضه الآخر محصّلا، كما لا يخفى.

ص: 88

السادس: نقل كلام المحقق البحراني في الحدائق ختام في الشياع و الاستفاضة و التواتر

السادس: قال صاحب الحدائق في كتاب الطهارة في أحكام النجاسات:

«قد كان عندي رسالة لشيخنا الشهيد الثاني قد تصدّى فيها لنقل جملة من المسائل، التي ناقض الشيخ فيها نفسه بدعوى الإجماع على الحكم في موضع ثم يدعيه على خلافه في آخر، و فيها ما ينيف على سبعين مسألة»، و قال في أحكام الأموات في حق الشيخ قدّس سرّه: «و أي مسألة من مسائل الفقه من أوله إلى آخره لم تختلف أقواله فيها و لا فتاويه حتى يستغرب في هذا المقام، كيف لا و أن الشهيد قد صنّف رسالة جمع فيها المسائل التي ادعى الشيخ فيها الإجماع في موضع و ادعى الإجماع على عكسه في موضع آخر، و هي تبلغ سبعين مسألة، و كانت الرسالة عندي فتلفت في بعض الوقائع التي مرت بي»، و قال قدّس سرّه في كتاب النكاح عند البحث عن إسلام زوجة الكافر: «من يعرف حال الشيخ و طريقته في دعوى الإجماع و اختلاف أقواله و فتاواه في كتبه، لا يتعجب منه، فإنه في بعض كتبه، كالخلاف و المبسوط من رءوس المجتهدين، و في بعض آخر كالنهاية و كتابي الأخبار من رءوس الأخباريين و شتان ما بينهما».

أقول: فلا بد للفقيه في الاعتماد على مثل هذه الإجماعات من التثبت و الفحص.

ختام:

الشياع، و الاستفاضة، و التواتر. و الأولان بمعنى واحد، و الأخير إما لفظي، أو معنوي، أو إجمالي، و الجميع معتبر لدى العرف و العقلاء من حيث حصول الاطمئنان بل العلم منها، و الظاهر كفاية النوعي منه و إن لم يحصل الشخصي، كما أن الظاهر شمول دليل حجية الخبر الواحد لنقلها أيضا إن كان في البين أثر شرعي.

ص: 89

الأمر الثالث الشهرة

أقسام الشهرة

و هي إما في الرواية، أو في العمل بها و الاستناد إليها، أو في مجرد الفتوى فقط.

و الاولى عبارة عن اشتهار الرواية بين الرواة و المحدّثين و الاهتمام بضبطها و الاعتناء بها، و تكون النسبة بينها و بين الشهرة العملية العموم من وجه، إذ رب رواية مشهورة لم يعمل بها. و رب غير مشهورة عمل بها، و هناك روايات كثيرة مشهورة معمول بها كما لا يخفى، و لا أثر لهذه الشهرة ما لم يوجب الوثوق بالصدور، فتكون من المرجحات في باب التعارض فقط، و قد تقدم في بحث التعارض ما ينفع المقام، فراجع.

و الثانية عبارة عن عمل فقهاء المتقدمين من عصر الغيبة الصغرى و أوائل الكبرى برواية على وجه الاستناد إليها و الاستدلال بها.

و المعروف بين الإمامية أن مثل هذه الشهرة جابرة لضعف السند، كما أن ترك عملهم لخبر صحيح موهن له، و قد استقرت سيرتهم على العمل بما عمل به المشهور و إن كان ضعيفا، و ترك العمل بما لم يعملوا به و إن كان صحيحا إذا لم يثبت خلافهم بدليل صحيح، قال صاحب الجواهر قدّس سرّه: «لو أراد الإنسان أن يلفق فقها من غير نظر إلى كلام الأصحاب بل من محض الأخبار، يظهر له فقه خارج عن ربقة جميع المسلمين بل سائر المتدينين».

أقول: و هو حق كما هو معلوم على أهله.

ص: 90

الإشكال على اعتبار الشهرة الاستنادية صغرى و كبرى و الجواب عنه

و قد اشكل على اعتبارها صغرى و كبرى. أما الأول: فلأن جميع هذه الشهرات منتهية إلى شخص واحد من علمائنا، كعلم الهدى أو الشيخ الطوسي أو غيرهما فاعتمدوا على سند الرواية بحسب أنظارهم الشريفة و اعتمدت عليهم الطبقة اللاحقة وثوقا بهم، فحصلت الشهرة التقليدية في الطبقات اللاحقة، و المعتبر من الشهرة ما لم تنته إلى شخص واحد. و فى العيان ما يغني عن البيان، إذ نرى بالوجدان أنه كثيرا ما ينقل شخص واحد شيئا في مجلس مثلا و يصير ذلك مشهورا بعد أيام و يترتب عليه آثار و خصوصيات، و الشهرات الفقهية أيضا كذلك، و قد نبّه على هذا الإشكال شيخنا الشهيد الثاني قدّس سرّه.

و يرد عليه.. أولا: أن من راجع سيرة أصحاب الأئمة و فقهاء أوائل الغيبة، يعلم أنهم كانوا مواظبين و مهتمين غاية الاهتمام على ضبط الروايات، جامدين على الاحتفاظ بعين ما وصل إليهم من الإمام عليه السّلام، فكانت تلك الطبقات طبقة الضبط فقط و العمل بما ضبطوه، فلا يعملون إلا بما يضبطون و لا يضبطون و لا يستندون إلا بما يعملون، و كانت نسبة الأحاديث المضبوطة في تلك الأعصار نسبة الرسالة العملية في هذه الأعصار إذا كانت من مرجع منحصر واحد فقط، و لذا عاب العامة عليهم و قالوا إنهم مقلدة، و ليسوا من أهل الاجتهاد في شيء، و نسبوا فقه الإمامية إلى قلة الفروع، قال ابن إدريس مشيرا إلى الخلاف و المبسوط: «و هذان الكتابان معظمهما فروع المخالفين»، راجع حدّ المحارب من حدود الجواهر. و من راجع الكتب المؤلفة في تلك الطبقات يجدها متون الأحاديث و الروايات، فراجع المقنع و المقنعة، و المراسم و النهاية و غيرها، بل قد ينسب المتفرع في الفقه إلى القياس و الاستحسان، لكثرة الجمود على متون الأحاديث، و أول من فتح هذا السد القديمين قدّس سرّهما - و هما ابنا جنيد و أبي عقيل - ثم الشيخ الطوسي قدّس سرّه، فكل حديث كان معمولا به و كل عمل كان مستندا إلى حديث إلا في موارد ظهر الخلاف فيها، فليست الشهرات العملية الاستنادية

ص: 91

منتهية إلى شخص واحد، كعلم الهدى و الشيخ قدّس سرّهما، بل هما و غيرهما في العمل بالأحاديث و الاستناد إليها على حدّ سواء، فتحققت الشهرة العملية المعتبرة.

إن قلت: نعم، و لكن لا تتحقق الشهرة العملية المعتبرة مع ذلك أيضا، لأن في تلك الطبقة كان بعض ممن لا يعمل بالخبر الواحد، فكيف تثبت الشهرة العملية الاستنادية.

قلت: لا يعمل بالخبر الواحد من حيث هو مع قطع النظر عن القرائن الموجبة للاطمئنان بالصدور، و أما معها فليس فيها من لا يعمل به، و قد كانت جل الأحاديث، بل كلها في تلك الطبقات مقرونة بها، كما لا يخفى، و المفروض أنه لم ينقل خلاف أحد في الاستناد إليه من أهل تلك الطبقة.

و تلخّص مما ذكر: استقرار الشهرة العملية الاستنادية بجميع ما ضبطه المشهور من الأحاديث المتضمنة للأحكام إلا ما خرج بالدليل.

و ثانيا: على فرض انتهاء الشهرات الفقهية إلى شخص واحد مثل الشيخ قدّس سرّه فهي معتبرة أيضا إلا مع ظهور الخلاف، لأن مثل الشيخ و من تبعه من الثقات المتوجهين إلى خصوصيات الخبر ضعفا و صحة، الملتفتين إلى القرائن مع توفرها في تلك الأعصار، و إنه لم يكن لهم شغل إلا تمييز الصحيح عن السقيم، فإذا عمل هؤلاء بحديث غير صحيح و تركوا العمل بحديث صحيح يوجب ذلك الوثوق بصدور الأول و الخلل في الثاني، و ليست للشهرة موضوعية من حيث هي، بل تكون طريقا إلى حصول الوثوق بالصدور أو الخلل في جهة من جهاته، هذا بعض ما يتعلق بالإشكال في الصغرى.

و المظنون قويا أن أصل هذا الإشكال من العامة، و تلقاه شيخنا الشهيد قدّس سرّه من بيان بعض مشايخه من العامة، و تبعه غيره في هذه الشبهة، و مثل هذا كثير في الاصول و الفقه، كما لا يخفى على أهله.

و أما الإشكال في أصل الكبرى فهو أنه لا وجه لاعتبار الشهرة العملية

ص: 92

أصلا، لأصالة عدم الحجية.

الاستدلال على اعتبار الشهرة الفتوائية، الإشكال عليه

و فيه: أن اعتبار الشهرة العملية الاستنادية الاحتجاجية توجب الاطمئنان بالواقع، و الظاهر من بناء العقلاء على الاعتماد عليها. و ما ورد في المقبولة، و قول الكاظم عليه السّلام لأبي يوسف: «و الأخبار المجمع عليها و هو الغاية المعروض عليها كل شبهة و المستنبط منها كل حادثة - الحديث -» تقرير للطريقة العقلائية.

فيكون اعتبارها إنما هو لأجل كشفها عن ظفر الكل بما يوجب الوثوق بالصدور، فيكون موجبا للوثوق النوعي العقلائي بالصدور قهرا، بل قد يوجبه استناد مثل الشيخ قدّس سرّه و من تبعه، كما مرّ.

فتلخّص أن الشهرة الاستنادية العملية من أقوى موجبات حصول الوثوق بالصدور، و أن شهرة هجران العمل من أهم ما يوجب الوهن و الخلل.

و يمكن أن يجعل هذا النزاع لفظيا، فمن قال باعتبار الشهرة أي: في ظرف حصول الوثوق و الاطمئنان بالصدور، و من قال بعدم الاعتبار أي: في ظرف عدم الحصول، و من ذلك يظهر إمكان القول باعتبار الشهرة بين المتأخرين من الفقهاء أيضا إن حصل منها الوثوق و الاطمئنان بالصدور، فيصير النزاع في اعتبارها أيضا لفظيا، كما لا يخفى. هذا بعض الكلام في الشهرة العملية الاستنادية.

و أما الشهرة الفتوائية: فهي عبارة عن مجرد اشتهار الفتوى بين القدماء من دون الاستناد إلى دليل أصلا، سواء كان في البين دليل أو لا.

و قد استدل على اعتبارها..

تارة: بإطلاق قوله عليه السّلام: «خذ بما اشتهر بين أصحابك» على نحو ما مر، و لا بأس به.

و اخرى: بأنه مما يوجب الوثوق بالحكم و الاطمئنان، و هو حجة ما لم يدلّ دليل على الخلاف، و لا دليل عليه.

ص: 93

و ثالثة: بأن الظن الحاصل منها أقوى مما يحصل من الخبر الواحد فيشملها دليل اعتباره بالأولى.

و يرد: بأن اعتبار الخبر لا يدور مدار حصول الظن الشخصي.

نعم، لا يبعد أن يكون حصول النوعي منه حكمة الاعتبار لا علة له بحيث يدور مداره.

و رابعة: بأن فتاوى القدماء عبارة عن متون الأخبار، ليس فيها شيء وراءها، فيشملها ما دلّ على اعتبار الشهرة العملية الاستنادية، ففتاواهم توجب الوثوق و الاطمئنان بوجود حجة معتبرة في البين، و عن بعض المتتبعين: «و لقد عثرنا أثناء التتبع على مواضع كثيرة يستكشف من فتاوي الأصحاب وجود نص واصل إليهم، مع أنه لا يكون من ذلك النص في المجامع و الجوامع عين و لا أثر».

و هذا بخلاف الطبقات المتأخرة فإنها كانت مثل زماننا هذا طبقة التفريع و استفراغ الوسع في ردّ الفروع إلى الاصول الواصلة إليهم من المعصومين عليهم السّلام، و إن شئت فقسّم الطبقات إلى ثلاث: طبقة الأخذ و التلقي، و طبقة الضبط فقط، و طبقة التفريع، و الأخير أوسع الطبقات أفرادا و زمانا. و قال صاحب الجواهر قدّس سرّه في بحث غسل الآنية التي يشرب فيها الخمر: «إن المحقق قدّس سرّه يروي غالبا عن اصول ليست عندنا منها إلا أسماؤها».

التمسك بالمقبولة على اعتبار الشهرة مطلقا، الإشكال عليه و الجواب عنه

و كيف كان، يمكن أن يتمسك لاعتبار الشهرة بأقسامها الثلاثة بقوله عليه السّلام في المقبولة: «المجمع عليه بين أصحابك فيؤخذ به و يترك الشاذ النادر الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإن المجمع عليه لا ريب فيه»، و قوله عليه السّلام: «خذ بما اشتهر بين أصحابك»: بدعوى أنه عليه السّلام في مقام بيان القاعدة الكلية لاعتبار الشهرات الثلاث، لكونها موجبة للوثوق بصدور الحكم عن المعصوم عليه السّلام، و تطبيقها على الشهرة الروائية من باب تطبيق القاعدة على موردها، لا لأجل الاختصاص به.

ص: 94

إن قلت: إن ظاهر السؤال يدل على الاختصاص، فهو مثل ما إذا قيل: أي المسجدين أحب لك، فقلت: ما كان الاجتماع فيه أكثر. و أي الرمانتين أحب إليك، فقلت: ما كان أكبر، فلا يستفاد من الأول محبوبية كل ما كان الاجتماع فيه أكثر، مثل السوق و الخان و نحوهما، و لا يستفاد من الثاني كل ما كان أكبر مثل الحجارة و نحوها.

قلت: هذا و إن ذكره الشيخ قدّس سرّه لكنه ليس بوارد، للفرق بين المثال و ما نحن فيه، و ذلك لأن اعتبار الشهرات الثلاث إنما هو لأجل كون كل واحدة منها منشأ للوثوق بالصدور، و هي الجهة الجامعة القريبة بين الثلاثة، فتوجب الانتقال من إحداها إلى الاخرى لهذه الجهة القريبة، بخلاف المثالين و نحوهما، إذ ليس بين كثرة الاجتماع في المسجد للعبادية و في السوق لأمر آخر جامع قريب، فلا ينتقل العرف من إحداها إلى الاخرى، و كذا الأكبرية في الرمان لأجل كثرة الاستفادة بخلاف المثال، فليس بين كثرة الاجتماع في المسجد و كثرة الاجتماع في السوق و نحوه جهة جامعة قريبة، إذ الاجتماع في المسجد للعبادة و في السوق لأمر آخر، فلا ينتقل العرف من إحداها إلى الاخرى، و كذا الأكبرية في الرمان لأجل كثرة الاستفادة بخلاف الأكبرية في غيره، فقياس المقام بالمثالين باطل جدا.

إشكال المحقق النائيني على الاستدلال و الجواب عنه

و قد أورد شيخنا المحقق النائيني قدّس سرّه على المقام بأن قوله عليه السّلام: «فإن المجمع عليه لا ريب فيه»، يعني أن المشهور لا ريب فيه بالنسبة إلى الشاذ، فيكون المقصود به عدم الريب بالإضافة، لا عدم الريب الحقيقي، و لو تعدينا عن الشهرة الروايتية إلى غيرها يلزم التعدي إلى اعتبار كل ما لا ريب فيه بالإضافة إلى غيره، كما إذا كان قول المحققين و الشهيدين قدّس سرّه مما لا ريب فيه بالنسبة إلى أقوال سائر الفقهاء مثلا، فيلزم حينئذ حجية قولهم في مقابل أقوال سائر الفقهاء و هو بمكان من الفساد.

ص: 95

و يمكن الجواب عن ذلك: بأنه لا يلزم أن تكون كل علة أعم من المعلول خصوصا إذا لزم من التعميم المحذور، و في المقام تكون العلة مساوية مع المعلول، فكأنه عليه السّلام قال: «خذ بالشهرات الثلاث فإنها لا ريب فيها بالنسبة إلى الشاذ الذي يكون في مقابل كل واحدة منها».

و لنا أن ندعي السيرة العقلائية على اعتبارها، لأن أهل كل علم و صنعة من العلماء و العقلاء يعتمدون على ما اشتهر بينهم بهذا المعنى، و يستدلون بها لا عليها، و حينئذ يكفي عدم ثبوت الردع و لا نحتاج إلى إثبات الحجية.

و بعبارة اخرى: الشهرة بهذا المعنى من أحد طرق الاطمئنانات المتعارفة العقلائية الدائرة بينهم التي يعتمدون عليها في امور معاشهم و معادهم. و عليه فلا موضوعية للشهرة من حيث هي، بل تكون طريقا للوثوق بالحجة المعتبرة، كما أن شهرة الهجران توجب الاطمئنان بالخلل في الصدور.

و المراد بالاطمئنان و الوثوق فيهما النوعي منهما، كما في سائر ما هو معتبر شرعا أو عند العقلاء، فيكون الاطمئنان و الوثوق حكمة الاعتبار، لا أن يكون علة يدور مداره وجودا و عدما. و تتصف الشهرة - كالإجماع - بالمحصلة، و المحققة، و المنقولة، و يجري عليها ما يجري في الإجماع.

ختام فيه امور:
الأول: عدم الفرق في الشهرة مطلقا بين أن يكون موردها نفس الأحكام أو ما يتعلق بها

الأول: لا فرق في الشهرة بأقسامها الثلاثة بين أن تكون موردها نفس الأحكام أو ما يتعلّق بها من موضوعاتها و ما يتعلّق بها، لشمول الدليل للجميع.

الثاني: المراد من الواجب في كلمات قدماء الأصحاب

الثاني: حيث أنه غلب على القدماء قدس سرّهم التعبير بمتن الخبر، فلفظ الواجب في كلماتهم أعم من الوجوب الاصطلاحي، كما في الأخبار. و كذا «لا ينبغي» أعم من الحرمة، فلا بد من ملاحظة القرائن الخارجية و الداخلية في استفادة

ص: 96

الوجوب و الحرمة من كلماتهم.

الثالث: إطلاق الشهرة القدمائية يقتضي الاتصال إلى المعصوم

الثالث: إطلاق الشهرة القدمائية يقتضي أن تكون متصلة بزمان المعصوم عليه السّلام، إذ لو كانت حادثة بعده لعرف زمان حدوثها عادة.

الرابع: لا أثر للشهرة الاستنادية في غير الوجوب و الحرمة

الرابع: لا أثر للشهرة الاستنادية في غير الوجوب و الحرمة و ما يتعلّق بهما، لأن المندوبات و المكروهات و نحوهما يشملهما دليل التسامح في أدلة السنن، كانت في البين شهرة استنادية أم لم تكن.

نعم للشهرة الفتوائية أثر فيهما أيضا لبناء الفقهاء على اتباعهما بهما و الفتوى بمفادها، و لا يبعد شمول دليل التسامح لها أيضا بناء على أن فتوى القدماء متون الأخبار.

الخامس: لا اختصاص للشهرة الاستنادية بخصوص مسائل الفقه

الخامس: لا اختصاص بشهرة الاستناد و الإعراض بخصوص مسائل الفقه، بل هي ثابتة في جميع العلوم و الفنون، بل و العرفيات أيضا، و قد ارتكز في الأذهان متابعة المشهور و عدم متابعة ما أعرض عنه المشهور، كما لا يخفى على من راجع العلوم و العرفيات.

السادس: نقل كلام صاحب الجواهر في اختلاف القدماء

السادس: قال صاحب الجواهر قدّس سرّه في كتاب الصلاة في حكم القران بين السورتين و نعم ما قال: «إن القدماء إنما وقع ما وقع منهم في كثير من المقامات من المذاهب الفاسدة لعدم اجتماع تمام الاصول عند كل واحد منهم، و عدم تأليف ما يتعلّق بكل باب منها على حدة، فربما خفي على كل واحد منهم كثير من النصوص فيفتي بما عنده من غير علم بالباقي، كما لا يخفى على الخبير الممارس المتصفح لما تضمنت تلك الآثار».

و يظهر من كلامه أن استنادهم على شيء يكشف عن حجة معتبرة لديهم، و أن اختلافهم في شيء لعدم الظفر بالحجة المعتبرة، لا لأجل الظفر و الاختلاف في فهم المراد منهما، كما هو الغالب بين المتأخرين، و لا بد في تمييز ذلك من القرائن.

ص: 97

السابع: تفسير قول الفقهاء «على الأشهر، عليه الأكثر، عليه المعظم».

السابع: قد شاع في الكتب الفقهية قول الفقهاء: «على الأشهر» و قولهم:

«و عليه الأكثر» و قولهم: «و عليه المعظم»، و لا تكون هذه التعبيرات من الشهرة المعتبرة في شيء أبدا، فإن حصل للفقيه منها الاطمئنان بالحكم و لو بواسطة القرائن المحفوفة، و إلا فلا يعتمد عليها، و الأشهر في مقابل غير الأشهر لا المشهور، و لذا يقولون على الأشهر بل المشهور.

الثامن: طرق إحراز الشهرة

الثامن: طريق إحراز المشهور مراجعة كتب القدماء، و يمكن استفادة الشهرة من «اللمعة» التي هي آخر ما كتبه الشهيد الأول قدّس سرّه، و التزم أن لا يذكر فيه إلا المشهور و إن خالف التزامه في موارد تعرض لها الشهيد الثاني قدّس سرّه. و كذا يمكن استفادتها من «الشرائع» أيضا في الجملة مع مراجعة «الجواهر»، و لو كان حكم مسكوتا عنه في كتب القدماء لا تستفاد الشهرة من مجرد السكوت، كما هو واضح.

ص: 98

الأمر الرابع الخبر الواحد

اشارة

البحث فيه من أهم المباحث، لتوقف معرفة جلّ الأحكام لو لا كلها بين المسلمين على اعتباره، بل هو من الاصول النظامية العقلائية المتوقف عليها نظام معاش البشر و معاده.

تمهيد و فيه امور:
الأول: المناط في إثبات الحكم الشرعي بالخبر الواحد

الأول: إثبات الحكم الشرعي مطلقا بالخبر الواحد يتوقف على الوثوق بصدوره، و تحقق ظهوره، و الفراغ عن جهة صدوره، و بتمامية هذه الجهات الثلاثة تتم الحجة على الحكم عقلا و عرفا. و المتكفل لإثبات الجهة الاولى هذا المبحث الذي يأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى، و المتكفل للجهة الثانية ما مرّ في بحث حجية الظواهر، و المتكفل للجهة الثالثة الأصل العقلائي المحاوري المرتكز في الأذهان من أصالة صدور الكلام لبيان المراد الواقعي إلا إذا دلّ دليل على الخلاف.

الثاني: زمان حدوث البحث في الخبر الواحد

الثاني: لم يكن لبحث حجية الخبر الواحد في عصر المعصومين عليهم السّلام عين و لا أثر، كجملة كثيرة من المباحث.

نعم، كثرت الروايات في إرجاع الناس إلى ثقات الرواة، و السؤال عنهم عن أن فلانا ثقة - حتى تؤخذ عنه معالم الدين - أو لا؟ فراجع أوائل كتاب القضاء

ص: 99

من الوسائل، و لو أنهم بنوا الأمر على ما كان عليه في عصر المعصوم عليه السّلام لما احتاجوا إلى جملة كثيرة من التطويلات، كما هو واضح.

و على أي حال فلزوم العمل بالأخبار التي بني فقه الإمامية عليها من ضروريات المذهب، و النزاع بين من لا يعتبر الخبر الواحد و بين من يعتبره صغروي لا أن يكون كبرويا، لأن الأول يقول بأن لزوم العمل بها لأجل كونها محفوفة بقرائن قطعية دالة على الصدور، و الثاني يقول إن نفس الوثوق بالصدور مطلقا يكفي في صحة الاعتماد عليها، و لكن بعد ثبوت أن المراد بالقطع و العلم في اصطلاح الفقهاء - خصوصا القدماء كاصطلاح الكتاب و السنة - هو مطلق الوثوق و الاطمئنان العقلائي، يرتفع النزاع من البين رأسا، كما هو واضح.

ثم إنه لا يخفى على أهله أنه يكفينا في فقهنا - معاشر الإمامية - ما وصل إلينا عن الإمامين الهمامين الباقرين الصادقين عليهما السّلام، و باعتباره تتم الحجة لفقهنا، و هذا المقدار محفوف بالقرائن الخارجية أو الداخلية الموجبة للاطمئنان بالصدور، فيصير البحث من هذه الجهة بلا طائل أيضا.

الثالث: الكلام في أن البحث في حجية الخبر الواحد من مسائل الاصول

الثالث: هذا البحث من مسائل علم الاصول مطلقا بل من أهمها، سواء قلنا بأنه ليس له موضوع أبدا، أو أن موضوعه كل ما يصح أن يقع في طريق الاعتذار، أو أن موضوعه ذوات الأدلة الأربعة، أو بوصف الدليلية.

أما الأول: فواضح لا ريب فيه، و كذا الثاني، لأن الخبر الواحد من أهم ما يقع في طريق الاعتذار.

و أما الثالث: فاشكل عليه بأن الخبر الواحد حاك عن السنة لا أن يكون عينها، فتكون عوارضه عرضا غريبا لها لا عرضا ذاتيا، و قد مرّ أن مسائل العلم ما يكون البحث عنها بحثا عن العرض الذاتي لموضوع العلم، فما يكون البحث فيه عن العرض الغريب له خارج عن المسائل.

و يرد عليه: بأن الخبر الواحد متحد مع السنّة عند المتشرعة، فيكون

ص: 100

عوارض أحدهما عوارض الآخر عرفا إلا مع القرينة على الاختصاص، مع أن مرجع هذا البحث عرفا إلى أن قول المعصوم عليه السّلام و فعله و تقريره هل تختص حجيته بخصوص من سمعه و رآه، أو تعم المنقول إليه أيضا، فيصير البحث عن عوارض السنة على أي تقدير.

و أما الرابع: فأورد عليه - مضافا إلى ما مرّ في الثالث مع جوابه - بأنه إن كان الموضوع الأدلة الأربعة بوصف الحجية يكون إثبات الحجية، له من إثبات أصل الموضوع، فيصير البحث حينئذ من المبادئ لا المسائل.

و يرد: بأن من أخذها موضوعا بوصف الحجية أراد الحجية الاقتضائية لا الفعلية، و المقصود بالإثبات في المقام الثانية لا الاولى، فيصير من العوارض لا محالة.

الرابع: قد ادعي الإجماع على حجية ما في الكتب الأربعة، الإشكال عليه و الجواب عنه

الرابع: قد ادعي الإجماع على حجية ما في الكتب الأربعة من الأخبار و معه يكون البحث عن حجية خبر الواحد من التطويل بلا طائل، لكفاية ما فيها للأحكام الشرعية، و المفروض اعتبارها.

و اشكل عليه..

تارة: بأنه معلوم المدرك.

و اخرى: بوجود الاختلاف فيه، لأن بعض المجمعين يرونها مقطوعة الصدور، و بعضهم يعتبرونها من باب اعتبار مطلق الظن، و بعضهم يعتمدون عليها لاحتفافها بالقرائن المعتبرة. و لا اعتبار بما علم مدركه من الإجماع، فكيف بما اختلف فيه؟!.

و فيه: أنه يمكن إرجاع الجميع إلى ما يوجب الوثوق بالصدور، كما تقدم، فيكون الاختلاف في مجرد التعبير، كما أن الإشكال بأنه معلوم المدرك لا وجه له، لأن الظاهر من حال من يدعي الإجماع أنه يدعيه في مقابل سائر الأدلة، لا أنه نفسها، و لو فرض أنه معلوم المدرك لا بأس به لفرض تمامية المدرك، كما يأتي

ص: 101

في وجوب العمل به مطلقا.

و ثالثة: بأن الكتب الأربعة مشتملة على الأخبار الضعيفة فكيف يصح دعوى هذا الإجماع؟!.

و فيه: أن المتيقن منه ما احتفت بقرائن دالة على اعتبارها.

و رابعة: بأن هذا الإجماع إنما صدر لأجل كمال العناية و الاهتمام بالكتب الأربعة، لا وجوب العمل بها.

و فيه: ما لا يخفى، فالإجماع تام لا مناقشة فيه.

أدلة عدم اعتبار الخبر الواحد:

اعتبار الخبر الموثوق به مما يقوم به نظام المعاش و المعاد، و لا اختصاص له بمذهب دون آخر و لا بملة دون اخرى، بل استقرت سيرتهم على ترتيب الأثر عليه من سالف الأعصار، و ما كان كذلك يكفي في اعتباره شرعا عدم ثبوت الردع فقط، و لا يحتاج إلى إقامة الدليل على الحجية.

و لكن قد يستدل على عدم اعتبار الخبر الواحد بالأدلة الأربعة. فمن الكتاب: بالآيات الناهية عن اتباع الظن و غير العلم - بألسنة شتى و هي كثيرة - مثل قوله تعالى: وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً ، و كذا قوله تعالى: إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً .

و فيه.. أولا: أنها وردت في الاصول الاعتقادية و لا تشمل غيرها، فلا ربط لها بالمقام.

و ثانيا: أن المراد بالعلم في الكتاب و السنة ما يطمئن و تسكن إليه النفس لدى العقلاء، كما أن المراد بغير العلم الأراجيف و ما يخبر به الجهلة و الهمج

ص: 102

الرعاع، و الخبر الموثوق به من الأول دون الثاني باتفاق العلماء.

و ثالثا: أنها معارضة بالأدلة الأربعة الدالة على الاعتبار و الترجيح معها، كما لا يخفى.

و من السنة المستفيضة، بل المتواترة في الجملة، التي جمعها في قضاء الوسائل المشتملة على تعبيرات مختلفة من أن ما خالف قول ربنا لم نقله، و عدم قبول ما ليس موافقا للقرآن، و ما ليس عليه شاهد منه و نحو ذلك من التعبيرات..

و فيه.. أولا: أنها معارضة مع المتواترة التي جمعها في قضاء الوسائل، فراجع و تأمل فإن الترجيح معها من جهات.

و ثانيا: أن الأخبار المفسّرة لكتاب اللّه تعالى إما بتقييد إطلاقه، أو تخصيص عمومه، أو بيان لفظه و مفهومه، أو شرح مفاده و حدوده، و هذه كلها ليست من المخالفة عند أبناء المحاورة أصلا، بل لو لم يؤخذ بمثل هذه الأخبار لبقي كتاب اللّه تعالى معطلا في الأحكام، و هو ما لا يرضى به أحد من الأنام فضلا عن الأعلام.

و ثالثا: أن المنساق منها بعد ردّ بعضها إلى بعض أنها وردت لبيان علاج المعارضة و أن عند التعارض يؤخذ بالموافق للكتاب، و يطرح المخالف له بالمخالفة العرفية، بحيث يبقى العرف و العقلاء متحيرا في جمعه مع الكتاب، فلا ربط لها بالمقام.

و من الإجماع بما ادعاه بعض حتى جعل السيد قدّس سرّه العمل به كالعمل بالقياس في وضوح البطلان.

و فيه.. أولا: أن تحقق الإجماع في مثل هذه المسألة العامة البلوى على عدم الاعتبار بعيد جدا.

و ثانيا: أنه معارض بالأدلة الدالة على الاعتبار و الترجيح معها، كما يأتي.

ص: 103

و ثالثا: على فرض تحققه، المتيقن منه الأراجيف و الأخبار غير الموثوق بها فلا ربط له بالمقام.

و رابعا: أنه يمكن أن يكون مورده اصول المعارف دون الفروع الفقهية، مع أنه يمكن أن يكون المراد به الإجماع الاحتفاظي أي: احتفاظ كتب الشيعة عن التدخل فيها، فالمراد به أنه لا بد و أن لا يتدخل في الكتب المعتبرة كل ما لا يعتبر، لا أنه يعمل بما اعتبر منها، لأنه خلاف ضرورة المذهب، فكيف يصدر من مثل السيد؟!.

و من العقل بما مر من امتناع التعبّد بغير العلم.

و قد مرّ جوابه مفصلا، فراجع.

اعتبار الخبر الواحد بالأدلة الأربعة:
الاستدلال من الكتاب بآية النبأ بمفهوم الشرط تارة و مفهوم الوصف اخرى
اشارة

استدل على اعتباره من الكتاب بآيات منها: آية النبأ إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا .

فتارة: بمفهوم الشرط، فإن ترتب وجوب التبيّن على خبر الفاسق يدل على الانتفاء عند الانتفاء، فالمعنى حينئذ - بناء على ما هو المستفاد منها عرفا من كون وجوب التبيّن - غيريا و شرطا للعمل بخبر الفاسق -: أنه إن جاءكم فاسق بنبإ فلا تعملوا به إلاّ بعد التبيّن و إذا جاءكم عادل به فاعملوا به بلا تبيين، و لا معنى لحجية الخبر إلاّ هذا.

و إن كان وجوب التبين نفسيا فتدل على الحجية أيضا، لأنه بعد مجيء العادل بالخبر إما أن يجب التبيّن أيضا، أو يجب الرد، أو يجب القبول.

و الأول مخالف لظاهر سياق الآية عرفا، مع أنه خلاف مرتكزات العقلاء أيضا.

ص: 104

و الثاني مقطوع بفساده.

و الثالث هو المطلوب.

و لكن احتمال الوجوب النفسي للتبيّن ساقط أصلا، فلا وجه لهذه المقدمة المطوية رأسا.

و اخرى: بمفهوم الوصف، فإن تعليق التبيّن على وصف الفسق يدل على الانتفاء عند الانتفاء، و حينئذ يجري فيه عين ما مرّ آنفا في مفهوم الشرط، من غير فرق بينهما أبدا بين كون وجوب التبين شرطيا أو نفسيا، فكيفية الاستدلال بها متحدة فيهما.

و أشكل على الاستدلال بوجوه.

الأول: أن الشرط في الآية الكريمة سيق لبيان الموضوع، فانتفاء الحكم بانتفائه تكويني حينئذ. مثل: «إن رزقت ولدا فاختنه» فلا ربط له بالمفهوم أبدا، كما مرّ في بحث المفاهيم. و الوصف في المقام غير معتمد على الموصوف فلا يتحقق له مفهوم - على فرض أن يكون للوصف مفهوم - لاشتراطه بالاعتماد على الموصوف، مع أنه قد مرّ عدم المفهوم له أصلا اعتمد عليه أو لا.

و يرد عليه: أن سياق الآية يدل على أنها في مقام بيان القاعدة الكلية، و تقرير ما ارتكز في العقول من دوران الاعتماد على شيء مدار الوثوق و الاطمئنان به، و إن هذا هو العلة المنحصرة في ذلك، فما يكون موثوقا به يعتمد عليه دون غيره، و لا فرق في دلالتها على هذه الجهة بين كونها بنحو مفهوم الشرط أو الوصف، ذكر الموصوف أو لم يذكر، فإن نفس هذه الدلالة ظاهرة منها و هي معتبرة لدى العقلاء.

و دعوى: أنها سيقت لمجرد تحقق موضوع الحكم بلا شاهد، بل ظاهر سياقها على خلاف هذه الدعوى شاهد؛ و لعل نظر صاحب الكفاية قدّس سرّه حيث قال: «إن مفاد الآية أن الخبر الذي جيء به إن كان الجائي به فاسقا فتبينوا...» إلى

ص: 105

ما ذكرناه، و إلا فهو خلاف ظاهر الآية، كما لا يخفى.

الثاني: أن عموم العلة في ذيل الآية من قوله تعالى: أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ يشمل خبر العادل و الفاسق معا، لأن الجهالة بمعنى عدم العلم، و هو مشترك بينهما، فلا دلالة لها على اعتبار خبر العادل، لأن عموم العلة مقدم على ظهور القضية المعللة بها عند العرف و العقلاء، فلا وجه للاستدلال بها على اعتبار خبر العادل، لكونه مشتركا مع خبر الفاسق في الجهالة و عدم العلم.

و فيه.. أولا: أن الجهالة بمعنى: فعل ما لا ينبغي صدوره عن العاقل المتدين الملتفت إلى دينه و عقله، كما في قوله تعالى: هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ ، و قوله تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ - الآية - فإن التوبة إنما تكون عن المعصية و هي متقوّمة بالعلم بالتكليف ثم المخالفة عن علم و عمد، و لا ريب في أن ترتب الأثر على الخبر قبل التفحّص عن صدقه من فعل السفهاء و من لا يهتم بعقله و دينه.

و ثانيا: أن الجهالة بمعنى عدم العلم، لكنه أعم من العلم الحقيقي و مطلق الوثوق و الاطمئنان العرفي العقلائي، و لا ريب في تحقق الأخيرين في خبر العادل دون الفاسق و لو حصلا منه لقلنا به مطلقا. فيكون خلاصة المعنى حينئذ:

إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا حتى يحصل لكم الوثوق بصدقه، و يكون ذكر الفاسق حينئذ مع اشتراكه مع خبر العادل عند حصول الوثوق منه للتنبيه على فسق مورد نزول الآية، و لكون الفاسق مورد التبين غالبا.

الثالث: أن مورد الآية هو الإخبار بالارتداد الذي لا يثبت إلا بالبينة، فلو عمل بالمفهوم يلزم خروج المورد و هو مستهجن.

و فيه.. أولا: أن مورد الآية هو منطوقها، و الاستدلال بها إنما يكون بمفهومها، و لا ملازمة بين المنطوق و المفهوم من كل حيثية و جهة حتى في شأن النزول أيضا.

ص: 106

و ثانيا: أن المراد بالعادل في المفهوم هو طبيعي العادل الشامل للواحد و المتعدد، فلا يلزم خروج المورد المعتبر فيه التعدد لدليل خارجي.

مناقشات لا تختص بآية النبأ بل تعمها و غيرها وردها

ثم إن في المقام مناقشات اخرى لا تختص بالآية، بل تعمها و غيرها مما استدل به على اعتبار الخبر الواحد.

منها: معارضتها مع ما دلّ على عدم اعتبار غير العلم من الآيات الشريفة.

و يرد.. أولا: بأن الآيات الناهية عن العمل بغير العلم في المعارف و الاعتقاديات، و المقصود في المقام اعتبار الخبر في غير الاعتقاديات، فينتفي التعارض حينئذ لاختلاف الموضوع.

و ثانيا: أن ما دلّ على اعتبار خبر الواحد مفسّر و شارح و حاكم على تلك الآيات، و يبين أن المراد بالعلم فيها مطلق الاطمئنان و الوثوق العقلائي، و لا معارضة بين المفسّر (بالكسر) و المفسّر (بالفتح)، كما هو واضح لمن تأمل.

و منها: أنها تشمل الإجماع الذي أخبر به السيد قدّس سرّه على عدم اعتبار خبر الواحد.

و فيه: مضافا إلى ما مرّ - من أن هذا الإجماع ساقط عن أصله و معارض بالإجماع المدعي على اعتباره - أن الدليل لا يشمل ما ينافيه و يضاده، و إلا لبطل جلّ الاستدلالات في العلوم، بل لا بد من ملاحظة الترجيح بين الأدلة و الأخذ بالراجح و طرح المرجوح، و لا ريب في أن ما استدل به على عدم اعتبار خبر الواحد مرجوح بل ساقط رأسا.

إشكالات تختص بالاخبار مع الواسطة فقط

ثم إنهم ذكروا في المقام إشكالات تختص بالإخبار مع الواسطة فقط.

الأول: أنها على فرض تماميتها تختص بالإخبار بلا واسطة، و منصرفة عن الإخبار مع الواسطة.

و يرد: بمنع الانصراف، كما لا يخفى.

الثاني: أن الحكم المستفاد من أدلة الاعتبار هو وجوب تصديق العادل

ص: 107

و من يوثق بقوله، و موضوع هذا الحكم في الوسائط هو تصديق العادل و من يوثق بقوله أيضا، فكأنه قيل يجب على الشيخ تصديق المفيد في تصديق المفيد للصدوق مثلا قدس سرّهم، و هكذا إلى أن ينتهي إلى الخبر بلا واسطة، و المفروض أن هذا الموضوع بثبت بنفس هذا الحكم إذ لا أثر له قبله، فيلزم إثبات الموضوع بالحكم، لأن الموضوع لا بد و أن يكون محرزا إما بالوجدان أو بالتعبّد، و الأول منفي في الوسائط فيتعين الثاني، فيلزم المحذور غير المعقول، لأن الحكم عرض بالنسبة إلى الموضوع، فلا يمكن أن يكون موجدا له.

الثالث: أن تصديق العدول من الوسائط ليس علميا وجدانيا، بل هو تنزيل شرعي، و التنزيلات الشرعية لا بد و أن تكون بلحاظ الأثر الشرعي، و ليس في البين أثر شرعي في الوسائط إلاّ نفس وجوب تصديق العادل، فيلزم أن يكون التنزيل بلحاظ نفسه، و هو باطل.

نعم خبر أول الوسائط وجداني لا يحتاج إلى التنزيل، كما أن إخبار آخر الوسائط المنتهى إلى المعصوم عليه السّلام له أثر شرعي غير وجوب التصديق، و هو حكم الإمام عليه السّلام. و يمكن تقرير الإشكال بوجه آخر، كما لا يخفى على من راجع كلمات العلماء.

و الجواب عن الجميع:

أولا: أنه لا جعل من الشارع في البين رأسا، و الآيات و الروايات الواردة في المقام إرشاد إلى مرتكزات العقلاء من اعتبار الخبر الموثوق به، و لا يفرّق العقلاء بين الإخبار بلا واسطة أو معها مع وثوق الوسائط.

و ثانيا: على فرض الجعل ليس المجعول هو الحكم التكليفي أي وجوب التصديق، بل هو نفس الاعتبار و الطريقية المحضة، و هي شاملة لجميع الوسائط مطلقا و لو لم يكن لها بالفعل أثر شرعي.

نعم لا بد من انتهاء الجميع إلى الأثر الشرعي و لو بألف واسطة، و هو

ص: 108

حاصل قطعا في الأخبار المنتهية إلى المعصوم عليه السّلام بلا محذور أصلا في البين.

و ثالثا: على فرض كون المجعول هو الحكم التكليفي أي وجوب التصديق، ليس ذلك مجعولا بما أنه جزئي شخصي خارجي، بل بما هو طبيعي وجوب التصديق القابل للانحلال إلى جميع ما أمكن انطباقه عليه عقلا، فكأن الشارع جعل لكل واحد من الوسائط وجوب تصديق مستقل رأسا، و حيث أن الجميع تنتهي إلى قول المعصوم عليه السّلام يكفي ذلك في التنزيل الشرعي، إذ لا يلزم فيه أن يكون كل واحد من الوسائط علة تامة لثبوت الأثر، بل يكفي كونه من أجزاء العلة و لو بألف واسطة، و لا يلزم أن يكون الحكم مثبتا لموضوع شخص نفسه، بل الحكم في كل واحد من الوسائط من المعدات لثبوت الموضوع لحكم آخر و لا محذور فيه من عقل أو عرف، كما هو واضح.

و رابعا: على فرض أن يكون المجعول حكما تكليفيا جزئيا شخصيا خارجيا لخصوص الخبر بلا واسطة، نقطع قطعا وجدانيا بتحقق ملاك المجعول في الوسائط أيضا و إن قصر دليل الجعل عن شمولها، و لكن هذا الفرض أي كون المجعول جزئيا مع أنه باطل في نفسه باطل أيضا في الشريعة المبنية على الدوام إلى يوم القيام، كما فصّل القول فيه في غير المقام.

كيفية الاستدلال بآية النفر، الإشكال عليها ثم الجواب عنه

و من الآيات التي استدل بها آية النفر: فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ .

بدعوى: أن الحذر واجب و هو عبارة عن ترتيب الأثر على قول المنذرين (بالكسر)، و لا معنى لحجية الخبر إلا وجوب ترتيب الأثر.

و قيل في وجه وجوبه امور:

الأول: أنه مع تحقق المقتضي له واجب، و إلا فهو لغو، بل قد يكون قبيحا و اللّه تبارك و تعالى منزه عن الترغيب إليه.

و يرد: بأن التحذر نحو من الاحتياط و هو حسن إن لم يكن مانع عنه و لا

ص: 109

دليل على وجوب كل ما كان حسنا.

الثاني: أنه غاية للإنذار الواجب و غاية الواجب واجبة و إلا ألغي الواجب.

و يرد: بأنه كذلك في الغاية المنحصرة لا المتعددة، كما في المقام، لأن الغاية الأولى إتمام الحجة من اللّه تعالى، تحذر أحد بالإنذار أو لا، و التحذّر أيضا غاية اخرى، و مع عدم وجوب الأخير لا يلزم لغوية الإنذار لترتب إتمام الحجة عليه، فلا بد في إثبات وجوبه من إقامة دليل آخر حينئذ.

و أما الإشكال عليه: بأنه واجب لو ثبت الإطلاق في الإنذار و التحذّر، و لو لم يحصل العلم من قول المنذرين.

فمردود: بأن تقييد الإنذار و التحذّر بصورة تحقق العلم خلاف السيرة العقلائية في إنذاراتهم و تحذراتهم، فيكتفون فيها بمطلق الوثوق و الاطمئنان النوعي - كما لا يخفى - فيدخل الخبر الموثوق به الذي هو محل الكلام فيها.

الثالث: إنا لا نجد فائدة للإنذار إلا وجوب التحذر، فلو لم يجب يصير لغوا.

و يرد عليه: ما ورد على سابقه.

ثم إن المراد بالإنذار الأعم مما كان نفس الكلام دالا عليه بالمطابقة أو بالتضمن أو بالالتزام، فيشمل جميع أقوال الفقهاء و المبلغين مطلقا، لثبوت الحذر في مخالفتهم و لو بالملازمة العرفية.

الاستدلال بآيتي الكتمان و السؤال و آية الاذن

و منها: آيتا الكتمان و السؤال: بدعوى: أن حرمة الكتمان و وجوب السؤال يستلزمان وجوب القبول، و إلا يكونان لغوا.

و يرد عليه: بأنه كذلك مع انحصار الفائدة فيهما لا مع عدم الانحصار - كما مرّ - و من أهم فوائدهما تمامية الحجة و ظهور الحق، فلا بد في إثبات وجوب القبول من إقامة دليل آخر.

و يمكن أن يقال بالملازمة العرفية بين وجوب الإنذار و وجوب السؤال

ص: 110

و حرمة الكتمان و وجوب القبول، فتتم دلالة الآيات الثلاث على اعتبار خبر الواحد.

و بعبارة اخرى: العرف و أهل المحاورة يفهمون من الآيات الثلاث لزوم ترتيب الأثر على الخبر في مواردها.

و منها: آية الاذن حيث مدح اللّه تعالى نبيه على تصديق المؤمنين، و لو لا حسنه لما مدحه.

و يرد عليه.. أولا: أنه ليس كل حسن واجبا، كما هو المبحوث عنه في المقام.

و ثانيا: أن التصديق لأجل تأليف القلوب ظاهرا أمر، و التصديق بمعنى وجوب ترتيب الأثر أمر آخر، و الآية تبين الأول و مورد البحث هو الثاني، فلا ربط لأحدهما بالآخر، و يشهد لذلك اختلاف حرف التعدية في ذيل الآية: قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ .

الأخبار المتواترة إجمالا الدالة على اعتبار خبر الواحد:

قد صرح صاحب الوسائل في خاتمته بتواتر الأخبار في حجية خبر الثقة.

و هو حق لأن من راجع الباب السابع و الثامن و التاسع من كتاب قضاء الوسائل يعلم بتواتر الأخبار إجمالا، الدالة على اعتباره بطرق مختلفة و أنحاء شتى.

فتارة: بالإرجاع إلى الرواة و العلماء.

و اخرى: بإرجاع بعض أصحابهم عليهم السّلام إلى بعض آخر منهم.

و ثالثة: بالإرجاع إلى كتب بني فضال.

و رابعة: بالأخذ بما وافق الكتاب.

و خامسة: علاج المتعارضين بالأخبار العلاجية.

ص: 111

و سادسة: بالترغيب إلى الحديث و ضبطه إلى غير ذلك.

و من مجموعها يستفاد استفادة قطعية أن اعتبار خبر الموثوق به كان مفروغا عنه لدى المعصومين عليهم السّلام و أنهم يرغّبون الناس عليه و يقطع برضائهم بذلك، بل يستفاد منها نهاية اهتمام الأئمة بنشر أحاديثهم بأي وجه اتفق، و من أي شخص كان بعد ثبوت أصل الوثوق بالصدق.

الإجماع و السيرة على اعتباره:
اشارة

أما الأول فادعي القولي و العملي منه على اعتباره.

و يمكن الخدشة فيه: بأنه إما ناشئ عن مرتكزاتهم العقلائية، فيرجع إلى السيرة، أو مما وصل إلينا مما مرّ من طوائف الأخبار فيرجع إليها، فلا يكون دليلا مستقلا في مقابلها.

و لكنها مدفوعة: بأن الإجماع إجماع حقيقي حصل إتماما للحجة و تأكيدا لها، فلا وجه لهذه الخدشة.

و أما الأخيرة فلا ريب في ثبوتها من المسلمين بل العقلاء كافة في جميع الأعصار و الأمصار و المذاهب و الأديان، فيعملون بأخبار الثقات في معادهم و معاشهم فهي من الحجج العقلائية لدى الكل، فالحجية عندهم قسمان: ذاتية، كالقطع. و عقلائية، كخبر الثقة و نحوه و كان ذلك بمرأى من المعصومين عليهم السّلام و مسمع منهم و لم يثبت عنهم الردع، بل لا يمكنهم ذلك لاختلال إبلاغ الأحكام خصوصا في الشريعة الباقية إلى يوم القيام، فقد جبلت الطباع و العقول بتلقي خبر الموثوق به بالقبول و لو لم يكن مطلوبا لدى الشارع، لوجب التنصيص بالردع في مثل هذا الأمر العام البلوى، فيكفي عدم التنصيص بالردع في القبول، فكيف بدلالة أخبار متواترة إجمالا عليه؟!

ص: 112

فلا وجه لما يتوهم من كفاية الآيات الناهية عن اتباع غير العلم و العمل بالظن للرد كما مر سابقا، لأن الحجج العقلائية علم عقلائي فلا تشمله الآيات، مضافا إلى أنها وردت للنهي عن اتباع غير العلم في اصول الدين، مع أن إثبات الردع بها مستلزم للدور، لأن الردع بها متوقف على إطلاقها و شمولها لمورد هذه السيرة، و هو متوقف على عدم تخصيصها بالسيرة، و عدم التخصيص متوقف على كونها رادعة عن السيرة. و إلا لكانت مخصصة لها فيلزم توقف كونها رادعة على كونها رادعة، و هو دور ظاهر.

إن قلت: ظهورها في الإطلاق و الشمول مما لا ينكر فهي تامة الاقتضاء من هذه الجهة. و أما السيرة فاعتبارها معلقة على عدم الردع، فتكون لا اقتضاء بالنسبة إلى الحجية و الاعتبار.

الردّ على السيرة و الجواب عنه

و بعبارة اخرى: عموم الآيات فعلي منجز، و حجية السيرة اقتضائية و معلّقة، و لا ريب في تقديم الفعلي المنجز على الاقتضائي المعلّق.

قلت: مدرك اعتبار الإطلاق و الشمول ليس إلا بناء العقلاء، و لا بناء منهم على الإطلاق و الشمول في ما كانت سيرتهم على خلافهما، هذا مع أن القياس - الذي ليس مثل السيرة مورد الابتلاء - ورد النهي عنه، فلو كان خبر الموثوق به غير معتبر لدى الشارع، لزم عليه أن يؤكد النهي عنه بالخصوص بطرق شتى، لكونه من أهم موارد الابتلاء، و لا يكفي فيه مجرد العموم و الإطلاق الذي يشكل شمولها لها.

إن قلت: إن اعتبار خبر الثقة بالسيرة يكون دوريا أيضا لتوقّف اعتباره على اعتبار السيرة، و هو موقوف على عدم الردع، و هو موقوف على تخصيص العمومات الناهية عن العمل بغير العلم بالسيرة، و لا تكون تلك العمومات رادعة عنها قطعا، و التخصيص موقوف على عدم الردع، فيكون بالآخرة عدم الردع موقوفا على عدم الردع.

ص: 113

قلت: التوقف في المقام ليس بحسب مقام الواقع و الثبوت، بل في مقام الإثبات فقط، لأن اعتبار خبر الثقة موقوف على السيرة، و اعتبارها موقوف على عدم إحراز وصول الردع بعد الفحص، و قد احرز ذلك بالفحص اللازم و لم نطلع عليه.

الاستدلال على اعتبار الخبر الواحد بوجوه عقلية و الجواب عنها، الفرق بين الانسداد الصغير و الانسداد الكبير

ثم إنهم قد استدلوا على اعتبار خبر الواحد بوجوه عقلية يرجع بعضها إلى بعض، و جميعها إلى دليل الانسداد الصغير الذي يكون الفرق بينه و بين الانسداد الكبير - الآتي ذكره - أن الأخير يستدل به لحجية مطلق الظن، و بالنسبة إلى كلية أحكام الشريعة، و يستدل به لحجية بعض ما يتعلّق بها، كخبر الواحد، و قول اللغوي، أو المفسّر، أو اعتبار الظن بالقبلة و نحو ذلك مما يتعلّق بالأحكام الشرعية في الجملة.

منها: إنا نعلم بصدور أخبار مشتملة على الأحكام الشرعية، ابتلائية كانت أو غيرها، بحيث يكون احتمال التكليف في غير تلك الأخبار من الاحتمال غير المنجز، و حينئذ فمع عدم إمكان الاحتياط أو تعسره و بطلان الرجوع إلى الاصول - على ما سيأتي - وجب الأخذ بمظنون الصدور و هو الخبر الموثوق به.

و يرد: بأن وجوب العمل بشيء من جهة الاحتياط أمر، و حجية الشيء بحيث يصلح للتخصيص و التقييد و الاستناد إليه أمر آخر، و المقام من الثاني، و الدليل يثبت الأول و لا ربط لأحدهما بالآخر. و يمكن تقرير هذا الوجه بنحو آخر، لأن العلم بالأخبار من حيث هي لا موضوعية فيها، بل تكون طريقا إلى العلم بالأحكام الشرعية، فيرجع هذا الوجه إلى ما يأتي من الوجهين.

و منها: أن بقاء التكليف إلى يوم القيام مما يعرفه الخاص و العام، و الفراغ منه لا يحصل إلا بالعمل بالأخبار، و مع فقد العلم بالصدور وجب الأخذ بمظنونه.

و يرد عليه: ما ورد على الوجه السابق من أن الحجية شيء، و الأخذ من

ص: 114

باب الاحتياط شيء آخر، و المطلوب هو الأول، و الدليل على فرض تماميته يثبت الأخير.

و منها: إنا مكلفون بالرجوع إلى السنة الباقية التي هي عبارة عن الأخبار الآحاد، فمع عدم العلم بالصدور لا بد من الأخذ بمظنونه.

و فيه: أنه عين الوجه السابق، إذ لا موضوعية للأخبار من حيث هي، و المدار على الأحكام و الأخبار طرق إليها، فيرد عليه ما ورد عليه، فترجع الوجوه الثلاثة إلى وجه واحد.

مع أنه مضافا إلى ما مرّ أنه بعد فقد العلم لا تصل النوبة إلى الأخذ بالمظنون دفعة، بل لا بد من الأخذ بالمتيقن، و مع عدم الكفاية، فالمتيقن بالإضافة إلى أن تصل النوبة إلى الظن بالآخرة، و ربما يأتي ما ينفع المقام في بيان الانسداد الكبير، و الظاهر أن اعتبار خبر الثقة أوضح من أن يستدل عليه بمثل هذه الامور الواهية.

نتائج البحث:
الاولى: أن النزاع في اعتبار الخبر الواحد صغرويا لا أن يكون كبرويا

الاولى: النزاع في اعتبار خبر الواحد الموثوق به صغروي لا أن يكون كبرويا، إذ الوثوق و الاطمئنان النوعي العقلائي معتبر لدى الكل، و النزاع في أنه موجب لهما أو لا، و أن أي قسم من أقسام الخبر موجب لهما؟! فالمحققون يقولون: إن مجرد الوثوق بالصدور من أي جهة حصل يكفي، و الحق معهم.

و بعض القدماء يقول باعتبار العلم بالصدور، فإن كان مرادهم به العلم العادي الذي يشمل مطلق الوثوق و الاطمئنان أيضا، فلا نزاع في البين أصلا. و إلا فلا دليل لهم على مدعاهم، بل الدليل على الخلاف، كما مرّ.

و من ذلك يظهر أنه لا وجه لتقسيم الخبر إلى الأقسام الأربعة - الصحيح

ص: 115

و الموثق و الحسن و الضعيف - المعروفة.

ثم إن الظاهر اعتبار الخبر الموثوق به مطلقا - سواء كان مفاده الأحكام الفرعية أو غيرها من المعارف، أو الأخلاقيات، أو القصص و الحكايات و التكوينيات و نحوها - لشمول الدليل للجميع بلا مانع في البين.

الثانية: العدالة في الراوي طريقية لا أن تكون موضوعية

الثانية: العدالة المعتبرة في الراوي طريقية لإحراز صدقه في المقال، لا أن تكون لها موضوعية خاصة، كما في إمام الجماعة، و القاضي، و المفتي و نحوهم، فالمناط كله فيه صدقه في المقال، عادلا كان في سائر اموره أو لا، إماميا كان أو لا، و يشهد له مضافا إلى وضوحه، قوله عليه السّلام: «لحديث واحد تأخذه عن صادق خير من الدنيا و ما حملت من ذهب و فضة».

الثالثة: مراتب الوثوق و الاطمئنان

الثالثة: للوثوق و الاطمئنان مراتب متفاوتة، كما أن للعلم أيضا كذلك، و يكفي في الاعتبار حصول أول مرتبة منهما، لعدم الدليل على اعتبار أزيد منه، بل مقتضى سهولة الشريعة و الإطلاقات و العمومات المرغبة إلى أخذ الأخبار عدم الاعتبار، فأي إطلاق أوضح و أجلى من وصية الصادق عليه السّلام لشيعته: «أيتها العصابة عليكم بآثار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فإنه من أخذ بذلك فقد اهتدى»، و قوله عليه السّلام: «تزاوروا فإن في زيارتكم إحياء لقلوبكم و ذكرا لأحاديثنا»، و قول الرضا عليه السّلام: «إنما امروا بالحج لعلة الوفادة إلى اللّه.. إلى أن قال: و نقل أخبار الأئمة إلى كل صقع و ناحية» إلى غير ذلك من الأخبار الظاهرة في كفاية أول مرتبة الوثوق و الاطمئنان من أي وجه حصل، لأن سنخ هذه الأخبار في مقام التوسعة و التسهيل و بث الأحاديث بكل وجه أمكن.

الرابعة: الكلام في اعتبار تضعيفات بعض علماء الرجال

الرابعة: لا اعتبار على تضعيف من كان جامدا على الظواهر، و لا بتضعيف الزاهد المتقشف لاعتقاده أن كل من ليس كنفسه فهو ضعيف، و لا بمن سقط تضعيفه لكثرة اهتمامه به، كتضعيفات ابن الغضائري الذي قالوا فيه: إنه لا يسلم أحد من قدحه و لا ثقة عن جرحه، بل المناط فيه على تضعيف الفقيه الجامع

ص: 116

للشرائط المعتدل الفهم المتتبع في الفقه، المأنوس بمذاق الأئمة عليهم السّلام و بكيفية معاشرتهم مع العامة، و كثرة اهتمامهم بنشر الأحكام و لو بواسطة غير شيعتهم و ترى بالوجدان أنه ربما يكون الفاسق أسرع في نشر الخبر من العادل المتعبد المشغول بتزكية نفسه. و قد وثّق ابن عقدة، و المفيد، و ابن شهرآشوب و الطبرسي أربعة آلاف رجل من أصحاب الصادق عليه السّلام، و مع توثيقهم لهؤلاء و هم من أعاظم المتتبعين في تلك الطبقة فكيف ينبغي أن يؤخذ بتضعيف كل أحد؟! خصوصا من كان في أول مراجعته و تدوينه للرجال، و عن بعض المتتبعين دعوى أصالة الصدق في رواة الأحكام إلا ما خرج بالدليل، كأصالة الصحة في أفعال الأنام كذلك.

ثم إن التضعيف و الجرح لا بد و أن يرجعا إلى جهة الصدق فقط، إذ لا موضوعية للعدالة في الراوي، و إنما هي طريق لإحراز الصدق فقط، و الجرح و التضعيف من سائر الجهات إن رجعا إلى التكذيب بالملازمة العرفية أو الشرعية أو العقلية فهو، و إلا فلا أثر لها، و من ذلك تنسدّ أبواب كثير من التضعيفات و الجرح، كما لا يخفى.

الخامسة: تحقيق الكلام في أقوال الرجال بالنسبة إلى الرواة

الخامسة: من تتبع أقوال علماء الرجال قدس سرّهم يرى أن اهتمامهم بالتضعيف أكثر من اهتمامهم بالتوثيق، بل ربما يرى من بعضهم الحرص على ذلك، و لعله لما ارتكز في أذهانهم من أصالة عدم الحجية، و لم أر من الأئمة عليهم السّلام و لا من خواص أصحابهم بل و لا من جميع أصحابهم هذا النحو من الاهتمام بالنسبة إلى نقل الحديث في ما تفحصت عاجلا، بل مقتضى إطلاق قولهم عليهم السّلام:

«اعرفوا منازل الناس على قدر روايتهم عنا»، و إطلاق قولهم عليهم السّلام: «رحم اللّه امرءا أحيا أمرنا. قلت: و كيف يحيي أمركم؟ قال عليه السّلام: يتعلّم علومنا و يعلمها الناس، فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لا تبعونا»، و إطلاق موثق الحلال: «قلت لأبي الحسن الرضا عليه السّلام: الجل من أصحابنا يعطيني الكتاب و لا يقول: اروه عني

ص: 117

يجوز لي أن أرويه عنه؟ فقال عليه السّلام: إذا علمت أن الكتاب له فاروه عنه»، و قول الصادق عليه السّلام: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام: إذا حدثتم بحديث فأسندوه إلى الذي حدّثكم، فإن كان حقا فلكم، و إن كان كذبا فعليه». و قول أبي جعفر عليه السّلام في صحيح الحذاء: «و اللّه إن أحب أصحابي إليّ أورعهم و أفقههم، و أكتمهم لحديثنا، و إن أسوأهم عندي حالا و أمقتهم الذي إذا سمع الحديث ينسب إلينا و يروى عنا فلم يقبله اشمأز منه و جحده و كفر من دان به، و هو لا يدري لعل الحديث من عندنا خرج و إلينا اسند، فيكون بذلك خارجا عن ولايتنا»، و قول النبي صلّى اللّه عليه و آله في المستفيض نقله بين الفريقين: «نضّر اللّه عبدا سمع مقالتي فوعاها و حفظها، و بلّغها من لم يسمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، و رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» إلى غير ذلك مما لا يحصى. و مقتضى ذلك كله أن يكون الاهتمام بالتوثيق و العناية به أكثر بمراتب من التضعيف، فيحكم بالضعف في خصوص ما لم يكن للوثوق طريق إليه أصلا، فيكون مقتضى هذه الإطلاقات المتواترة إجمالا اعتبار كل خبر اسند إليهم عليهم السّلام إلا ما ثبت كذبه.

و عن بعض دعوى أصالة الصدق في أصحاب المعصومين عليهم السّلام نبيا كان أو إماما، بل أصالة الصدق في أتباع الشخص مطلقا، فالأصل العقلائي لجريان السيرة على استفادة آراء الشخص و آثاره و أقواله من أتباعه بلا شبهة فيه و لا ترديد مع ترتيب الأثر عليه.

السادسة: بيان المراد من الوثوق و الصدق المعتبرين في الراوي

السادسة: الوثوق و الصدق من الامور المشككة التي لها مراتب متفاوتة.

فأول مراتبها ظهور حال الراوي الذي يكون في مقام الاستناد مع التفاته - و لو ارتكازا - بأن قوله يصلح لأن يكون منشأ للأثر مع عدم أمارة على كذبه، و بذلك يثبت أول مرتبة الصدق و الوثوق، فيشمله إطلاق ما دلّ على اعتبار خبر الصادق و الموثق، مضافا إلى السيرة العقلائية على الاعتبار أيضا، إذ لم نر منهم التأمل في القبول بعد تحقق مثل هذا الظهور لهم.

ص: 118

إن قلت: فعلى هذا تقبل رواية مجهول الحال، فيرجع البحث إلى أن ظهور الكذب مانع عن القبول، لا أن يكون الصدق و الوثوق شرطا له، مع أنه لا تشمله الإطلاقات، لأنه من التمسك بالعام في الموضوع المشتبه، و المتيقن من السيرة العقلائية خلافه.

قلت: إن كان المراد بالمجهول - كما اصطلحوا عليه - من لم يعرف عقيدته و إن كان موثوقا به، فلا ريب في قبول خبره، لقبول خبر الموثوق به و إن كان فاسد العقيدة فضلا عما إذا لم تعلم عقيدته. و إن كان المراد به الجهل بوثاقته و صدقه في مقاله من جهة شيوع القدح فيه، فالظاهر سقوط ما مرّ من ظهور حال الراوي بالنسبة إليه، فلا وجه للقبول، و حينئذ فمقتضى إطلاق الأدلة اللفظية و السيرة ترتيب الأثر على خبر من أمكن تحقق أول مرتبة الوثوق بالنسبة إليه، و هذا هو مقتضى سهولة الشريعة أيضا، كما أن مقتضى الإطلاقات ترتيب آثار العدالة على من اتصف بأول مرتبتها، و لا يعتبر الاتصاف بما زاد عليها، كما هو أوضح من أن يخفى.

ثم إنه لو احرز الوثوق بالصدور من قرائن اخرى تأتي الإشارة إليها إن شاء اللّه تعالى، يقبل خبر من عرف بالكذب فكيف بمجهول الحال.

و من ذلك يظهر أن بعض مراتب الضعف لا تنافي بعض مراتب الوثوق و الصدق، فلا وجه لطرح كل ضعيف خصوصا بالنسبة إلى جملة كثيرة من التضعيفات، كما هو معلوم على الخبير.

السابعة: مورد اعتبار التوثيق

السابعة: عمدة ما نحتاج إلى التوثيق فيه إنما هو الواجب و الحرام نفسيا كان أو غيريا، لبناء العلماء في غيرهما على المسامحة في السند، و دواعي الكذب فيهما قليلة جدا، خصوصا مع بناء المعصومين عليهم السّلام و الثقات من الرواة على تفضيح من يشم منه رائحة الكذب فيها. و قد شاع من عصر النبي صلّى اللّه عليه و آله و في زمان المعصومين عليهم السّلام القول بوجود الكذابين، و لنفس هذه الإشاعة أثر مهم في

ص: 119

الاهتمام بالحديث نقلا و ضبطا و ناقلا و منقولا عنه و منقولا إليه، و إظهارا لكذب المفترين و الكاذبين مهما تيسر ذلك، بحيث يصح أن يقال: إن الكذب في الاستناد كان ملازما لظهور الكذب و فضيحة الكاذب. و يمكن تأسيس أصل معتبر، و هو أصالة عدم تعمد المسلم في الكذب على النبي صلّى اللّه عليه و آله و الإمام عليه السّلام، و لا وجه لذكر السند في غير الواجبات و المحرمات بعد فرض الاعتماد على المتن و تسامح العلماء فيه. و أما الواجبات و المحرمات فهما محفوفتان بقرائن معتبرة، يحصل منها الوثوق بالصدور خصوصا بين المتأخرين الذين بذلوا جهدهم في تهذيب الفقه عن الأخبار الضعيفة و الروايات النادرة، فلا ثمرة في تعيين طبقات الرجال بعد كون متن الحديث موثوقا به من سائر الجهات.

الثامنة: موجبات الوثوق بالصدور

الثامنة: موجبات الوثوق بالصدور كثيرة جدا خصوصا في زمان ظهور المعصومين عليهم السّلام و أوائل الغيبة الصغرى، و ليست منحصرة في الوثوق بالرواة فقط، و قد جمع جملة منها شيخنا المحدث العاملي قدّس سرّه في الفائدة الثانية من خاتمة الوسائل، و هناك موجبات اخرى يستخرجها الفقيه المتتبع.

التاسعة: كلام في حال الرواة

التاسعة: نسبة النبي صلّى اللّه عليه و آله و المعصومين عليهم السّلام إلى من يروي عنهم نسبة المعلم إلى المتعلم، و هكذا النسبة بين كل طبقة سابقة و الطبقة اللاحقة الذين يتلقون الأحاديث عنهم، و مقتضى العادة و السيرة أن المتعلم لا يكذب على المعلم فيما يتعلم منه و إن فعل ذلك لشاع و ظهر، كما أن مقتضى العادة أن لكل مذهب و ملة أقواما مخصوصين في كل عصر و زمان يهتمون بحفظ ما يتعلّق بذلك المذهب و يدافعون عمن يريد الدس و الافتراء فيه، و هذه العادة جارية في مذهب الإمامية، بل على نحو أشد و أمتن فإنهم المعروفون بالثقة و الصلاح و لا يدخل فيهم من كان خارجا عنهم إلا و يظهر حاله في مدة قليلة، كما لا يخفى على من راجع أحوال الرواة. هذا مع قطع النظر عن عناية اللّه تعالى بالشريعة الختمية و المذهب العدل، فإن المقطوع به من عناياته الخاصة، أنه تعالى يوفق

ص: 120

في كل عصر ثقات يحفظونها رواية و نقلا و اجتهادا و بحثا إلى غير ذلك مما له دخل في البقاء حتى يظهر الحق، و هذا الأمر المتعارف يكون من طرق إحراز الوثوق ما لم تكن قرينة على الخلاف.

العاشرة: وثوق الراوي على قسمين:

الأول: أنه موثوق به في مقاله.

الثاني: أنه مضافا إلى ذلك لا ينقل إلا عن الثقة، و هذا القسم كثير في رواياتنا. و لا يختص بخصوص الثمانية عشر نفرا الذين ادعي الإجماع على اعتبار مراسيلهم، كما ذكرناهم في مهذب الأحكام مع أن في اعتبار مثل هذا الإجماع بحثا، و يمكن أن يراد به اتفاق جمع من أهل الخبرة لا الإجماع المصطلح حتى يستشكل عليه.

الحادية عشر في الوثوق

الحادية عشرة: ما هو المعتبر في الوثوق إنما هو الوثوق من جهة - أي الصدق فقط - لا الوثوق من كل جهة، فلو كان الراوي غير موثوق به في نقل القصص - مثلا - و موثوقا به في نقل الأحكام الفرعية يقبل قوله في ما كان موثوقا به فيه.

الثانية عشرة: فى و التضعيف

يمكن أن تكون جملة كثيرة من التضعيفات من دسائس المعاندين، كما يصرحون في كتبهم القديمة و الحديثة من أن أحاديث الشيعة ضعيفة و مزورة. و التوجه إلى هذه الجهة يحتاج إلى فحص كامل في كتبهم. و مع ذلك توثيقنا لرجالنا لا ينفعهم كالعكس، و يا ليت العلماء بذلوا جهدهم في تطبيق أخبارنا مع أخبارهم النبوية، و الأخذ بالمتفق عليه بيننا و بينهم و هو كثير جدا مع اختلاف في العبارة، و بذلك ترتفع جملة من التفصيلات و الخلافات.

ثم إن جملة كثيرة من عبارات التضعيف لا ينبغي صدورها من العلماء، و قد كان المرجو منهم عدم التعرض لها إلا بعد الفحص و التثبت الأكيد.

ص: 121

الأمر الخامس الاجتهاد و التقليد

اشارة

من الحجج المعتبرة بين العقلاء كافة الاجتهاد و التقليد، و لا يختصان بفن دون فن، و لا بملة دون اخرى، بل يجريان في جميع الفنون و الصنائع و الملل، و هما من المبادئ لجميع العلوم، لأن كل علم يحتاج إلى الفكر و التأمل و هو إما اجتهادي أو تقليدي.

نعم لا يتصف علم الباري و ما أفاضه تعالى إلى أوليائه بهما، لأنه أجل من أن يتصف بالاجتهاد و التقليد، أما علم اللّه تعالى فلأنه عين ذاته و لا تدخل للفكر فيه، بل يستحيل ذلك عليه تعالى، لأنه ملازم للجهل. و أما علم الإمام عليه السّلام فلأنه إفاضي بلا ترتيب مقدمات الفكر، و عمله عليه السّلام صحيح و إن كان لا عن اجتهاد و لا تقليد و لا احتياط، بخلاف عمل غيره عليه السّلام فإنه لا بد و أن يكون عن واحد منها.

تعريف الاجتهاد و التقليد:
اشارة

لم يرد لفظ الاجتهاد - بما هو المعروف في الاصول و الفقه - في الكتاب الكريم و لا في نصوص المعصومين عليهم السّلام، بل و لا أثر له في كلمات القدماء قدس سرّهم و إنما حدث في الطبقات الأخيرة، فلا وجه للنقض و الإبرام على ما قيل في تعريفه. مع أنه من الشرح اللفظي فقط، و الإشكال على الشروح اللفظية ليس من دأب العلماء.

و المعروف أنه: استفراغ الوسع في تحصيل الظن بالحكم.

ص: 122

آراء العلماء في الاجتهاد. و ما يعتبر في الاجتهاد

و فيه: أنه إن كان المراد به الغالب فله وجه، و إلا فلا تنحصر الأحكام بخصوص المظنونات، بل تشمل اليقينيات و المسلّمات.

كما أن تعريفه بأنه: استفراغ الوسع في تحصيل الحجة على الحكم.

مخدوش: أيضا، إذ لا يشمل جميع موارد المعذورية في ترك الواقع، إذ ليس فيها حكم إلا أن يعمم الحكم إليها أيضا.

و لا بد و أن يفسر أصل الاجتهاد بتفسير كلي يشمل جميع العلوم، و يذكر فيه قيد خاص مختص بالعلم المطلوب فيه الاجتهاد، كما هو الشأن في كل تعريف له صغريات كثيرة.

و لعل الأولى تعريفه: بأنه بذل الطاقة في تحصيل الوظائف الدينية من الأخبار الشارحة للكتاب.

ثم إنه قد نسب إلى بعض تحريم الاجتهاد، فإن أراد به القياس و الاستحسان و الرأي في مقابل المعصوم عليهم السّلام، فلا يذهب أحد من الإمامية إلى جوازه، و إن أراد تحريم بذل الطاقة البشرية في تحصيل الوظائف الدينية من الأخبار المعصومية الشارحة للكتاب الكريم، فلا يتوهم أحد مرجوحيته فكيف بحرمته، لأن الاستفادة من الظواهر و ردّ متشابهات الأدلة الى محكماتها، و الجمع العرفي - المقبول لدى العقلاء بين مختلفاتها - من الفطريات البشرية غير المختصة بمذهب و ملة.

ثم إن مقتضى الأصل عدم حجية الرأي و نفوذ الحكم إلا في ما دلّ عليه الدليل بالخصوص، فيعتبر في الاجتهاد جميع ما يحتمل دخله فيه، و لكن مقتضى إطلاق مثل قوله عليه السّلام: «انظروا إلى رجل منكم نظر في حلالنا و حرامنا»، و قوله عليه السّلام: «و أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا»، كفاية ما له دخل في فهم المراد من الكلام و في الاستظهارات العرفية من الأدلة، كاللغة و العلوم الأدبية في الجملة، و ما له دخل في حصول الوثوق بصدور الأخبار، و لا

ص: 123

يعتبر فيها الاجتهاد، بل يكفي حصول الاطمئنان من الرجوع إلى أقوال خبراء الفن، كما استقرت عليه سيرة الفقهاء قديما و حديثا، و لو اعتبر الاجتهاد في مباديه لتعذّر حصوله عادة في هذه الأعمار المتعارفة، و قد جرت السيرة على الاهتمام بصناعة الاصول، لأنه مجمع مبادئ الاجتهاد و مؤلف متفرقاتها، و قد ذكرنا في الجزء الأول عند تعريفه أنه: بداية الاجتهاد و نهاية العلوم الدخيلة في الاستنباط و إن اشتملت على ما ليس فيه ثمرة عملية بل و لا علمية معتنى بها، كجلّ مباحث الوضع و الصحيح و الأعم، و المشتق، و اتحاد الطلب و الإرادة، و بحث الانسداد و نحوها مما هو كثير كما هو واضح على الخبير.

و يكفي في الاجتهاد من الاصول الإحاطة بالمسلّمات و المشهورات بين العقلاء و العلماء و ما هو المعتبر لدى الأذهان المستقيمة، و لا عبرة بالدقيات العقلية و الاحتمالات البعيدة لعدم ابتناء الفقه عليها، كما لا يعتبر إبداء الرأي المسبوق بالعدم في الاصول، لأن الآراء محصورة بين النفي و الإثبات، بل يكفي الإذعان الاعتقادي عن تأمل و اجتهاد بما هو المألوف بين أهل المحاورة في كيفية الاحتجاج و الاستظهار، و تأليفات الفقه الاستدلالي في هذه الأعصار و ما قاربها تشتمل على القدر اللازم من الاصول، و يمكن أن يعد الزائد عليه من الفضول. و من أهم المبادئ الفضائل النفسانية و العمل بما يوجب التقرب إلى الحضرة الربوبية و التجنب عما يسخطه، فإن جميع الإفاضات من حضرته و تمام العنايات من ناحيته، قال تعالى: وَ اتَّقُوا اللّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اللّهُ ، هذا بعض الكلام في أصل الاجتهاد.

ص: 124

التقليد
تعريف التقليد

التقليد هو جعل العامي وظائفه الدينية العملية في عنق المجتهد ليحتج على صحتها و فسادها، أو جعل المجتهد الوظائف العملية المجتهد فيها في عنق العامي ليعمل بها، أو هما معا و لا محذور في الجميع، و بحسب النتيجة عبارة عن مطابقة العمل لرأي من يصح الاعتماد عليه. و ما قيل: من أنه الالتزام بالعمل برأي المجتهد، أو هو العمل برأيه، كل ذلك من باب الغالب و المقدمية لمطابقة العمل مع رأي من يصح الاعتماد على رأيه، لا أن يكون لما ذكر موضوعية خاصة.

ثم إن دليل وجوب التقليد على الجاهل السيرة العقلائية، و إجماع الفقهاء، و الآيات مثل قوله تعالى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ، و الأخبار كما تقدم، و قد فصّلنا القول في ذلك في كتابنا (مهذب الأحكام) فراجع.

المطلق و المتجزّي:

و هما.. تارة: بالنسبة إلى الكيفية، أي: الاشتداد و الضعف في قوة الاجتهاد.

و اخرى: بالنسبة إلى الكمية، أي: الإحاطة بتمام أحكام الفقه كلها أو ببعضها. و لا اختصاص لهما بالفقه بل يجريان في جميع العلوم و الصنائع مطلقا.

أما المطلق في الكيفية و الكمية بحيث لم يمكن حصول قوة الاجتهاد فوقه كما و كيفية، فالظاهر امتناعه عادة، لعدم وقوف القوة و الاستعداد على حدّ خاص بالنسبة إلى شخص واحد فكيف بأشخاص متعددة، فكلما كثر بذل

ص: 125

الجهد و الطاقة تزداد تلك القوة كمالا فيهما، و لذا كثر الاختلاف في الفتوى حتى من فقيه واحد في مسألة واحدة، لاختلاف القوة في الشدة و الضعف و الإحاطة و عدمها.

نعم، لا ريب في وجود المطلق في الجملة في مقابل المتجزّي كذلك، كما لا ريب في حجية رأيه و نفوذ حكمه و جواز تقليده، لأنه القدر المتيقن من الأدلة، سواء كان من القائلين بانسداد باب العلم، أو قال بانفتاحه. أما على الأخير فواضح. و أما على الأول فلأن الانسداد لا ينافي صحة الاعتذار بالرأي و النظر، و هي تجتمع مع الجهل بالواقع و سدّ باب العلم عليه، كما في موارد الاصول العملية التي يصح الاعتذار بها شرعا و عقلا.

و أما المتجزّي: فالحق الموافق لوجدان كل عالم في كل علم إمكانه و تحققه خارجا، و مقتضى الإطلاقات و السيرة في الجملة نفوذ حكمه و حجية رأيه و صحة تقليده إلا إذا كان بحيث تنصرف الأدلة اللفظية عنه، و يشك في ثبوت السيرة فيه، فمقتضى الأصل عدم الاعتبار رأيه و نفوذ حكمه حينئذ.

ما يعتبر في مرجع التقليد:

منها: العلم على تفصيل تقدم.

و منها: الرجولية، و الحرية، و طهارة المولد إجماعا.

و منها: البلوغ و العقل، للإجماع على اعتبارهما، بل بناء العقلاء على اعتبار الثاني أيضا. و لو كان عاقلا فجنّ، فمقتضى الاستصحاب ببعض تقريراته الآتي في تقليد الميت، صحة البقاء على تقليده لو لا الإجماع على الخلاف، و عن صاحب الجواهر إرسال اعتبار جميع الشرائط حدوثا و بقاء إرسال المسلّمات، فراجع كتاب القضاء.

و منها: الإيمان، للقطع بعدم رضاء المعصومين عليهم السّلام برجوع شيعتهم إلى

ص: 126

غير فقهاء مذهبهم.

نعم، لو اجتهد في الفقه الجعفري في حال كونه مخالفا ثم استبصر، يصح تقليده إن كان واجدا لسائر الشرائط، و أما العكس فلا يجوز.

و منها: العدالة إجماعا.

و منها: مخالفة الهوى، لمرتكزات المتشرعة، و خبر الاحتجاج الدال عليها، و هي أخص من العدالة و يمكن الاستشهاد له بقوله تعالى: يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ لأن مقتضى المذهب عدم صدور الذنب منه، فيكون المراد بعدم اتباع الهوى الأهوية المباحة غير اللائقة بهذا المنصب، و لا ريب في سقوط مرتبة المتابع لها عن القلوب و عدم مناسبة متابعتها لمقام النبوة و الإمامة و فروعهما التي منها مرجعية الحكم و الفتوى.

و منها: الحياة على ما يأتي تفصيله.

و منها: حسن السليقة و العلم بمذاق الفقاهة على ما هو المتسالم عليه عند أهل الخبرة من الفقهاء، و أما النسيان و عدم الضبط فهما مانعان عن صحة التقليد، كما تعرضنا لجميع ذلك في مباحث الاجتهاد و التقليد و كتاب القضاء من (مهذب الأحكام)، فراجع.

ثم إنّه لا يخفى أن أصل التقليد فطري و ليس بتقليدي، و كذا شرائط صحته، فلو أفتى من فقد بعضها بعدم اعتبار ما فقده، لا يصح تقليده للشك في حجية قوله، و لا يجوز إثبات حجية قوله بقوله. بل لو أفتى الواجد بعدم الاعتبار يشكل اعتبار قوله إن شك العامي في الاعتبار، لأن المتيقن من مورد سقوط شك العامي خصوص الفرعيات المحضة فقط.

و أما شرائط صحة التقليد التي هي كالأصل و الأساس للفرعيات المحضة، فمقتضى الأصل عدم اعتبار قوله فيه مع الشك و التردد.

نعم، لو حصل اليقين من قوله بعدم الاعتبار يتبع لا محالة.

ص: 127

و بعبارة اخرى: هناك امور ثلاثة: الفرعيات المحضة، و الفطريات المحضة، و ما هو برزخ بينهما. و مورد التقليد هو الأول فقط، و شرائط صحة التقليد من الثالث.

ثم إن شئون الفقيه الجامع للشرائط ليست منحصرة في حجية الفتوى و نفوذ الحكم، بل له حجية وجودية أيضا و لو كان ساكتا، لأنه يصح أن يحتج به اللّه تعالى يوم القيامة، و يصح له أن يشتكي إلى اللّه تعالى من الجهال إن لم يرجعوا إليه في فهم الأحكام، و قد ورد في الحديث: «ثلاثة يشكون إلى ربهم يوم القيامة عالم لا يسأل عنه - الحديث -». كما أن له الولاية الانتظامية أي نظم دنيا البشر و سياساتهم نظما إليها، بشرط استيلائه على الكل في الكل و بسط يده على الحكم من كل حيثية و جهة. و قد ذكرنا القول في ذلك كله في المهذب.

التخطئة و التصويب:

لا ريب في أن بين المعلومات و الواقعيات مطلقا عموما من وجه، فرب معلوم مخالف للواقع، و رب واقع غير معلوم، و قد يتصادقان و لا اختصاص لذلك بعلم دون علم و فن دون آخر، فيجري في الفقه و غيره. و لازم ذلك هو صحة القول بالتخطئة في جميع العلوم - فقها كان أو غيره - و لا ينكره أحد، و إنما توهم التصويب في خصوص الأحكام الفقهية الظاهرية فقط، بدعوى: أن الإجزاء و صحة الاعتذار بها يستلزمان التصويب، و فساد هذه الدعوى أوضح من أن يخفى، لأن الإجزاء و صحة الاعتذار تسهيلا على الامة أعم من إصابة الواقع، كما في موارد جميع القواعد التسهيلية الامتنانية المجعولة في الشريعة، كقاعدة الصحة، و الفراغ و التجاوز، و الطهارة، و الإباحة و جميع الاصول التسهيلية.

نعم نفس أحكام الشريعة - سواء كانت في الكتاب أو في السنة - هي

ص: 128

أحكام واقعية بلا شبهة، و لكن الاجتهاد فيها أعم من إصابة الواقع و لو كان من الاجتهاد الصحيح، فضلا عما إذا كان من قياس أو استحسان أو نحوهما.

أقسام التصويب:

إن التصويب على أقسام:

الأول: انقلاب الوظيفة الظاهرية إلى الأنظار الاجتهادية في مقام الفعلية فقط لا في مقام الإنشاء الواقعي النفسي الأمري، فالوظيفة الفعلية الظاهرية كانت مطابقة للواقع لو تمت عليها الحجة و لم يكن الاجتهاد على خلافه، و إلا فتكون في مورد الاجتهاد و لو كان على خلاف الواقع و توجد حينئذ فيها المصلحة التداركية، و لا دليل على فساد هذا القسم من عقل أو نقل إلا ما يأتي مع بيان الإشكال فيه.

الثاني: تعدد الواقع المنشأ حسب تعدد الآراء الاجتهادية المختلفة.

و اشكل عليه.. أولا: بالإجماع على وحدة الحكم الواقعي الذي يشترك فيه العالم و الجاهل و عدم تعدده.

و فيه: أن المتيقن منه الأحكام الكلية التي تدور عليها الشريعة، مثل وجوب أصل الصلاة و الزكاة و الحج و نحوها في الجملة. و أما الجزئيات الاختلافية التي تختلف حسب اختلاف الآراء فلا دليل على وحدتها في الواقع، بل مقتضى السيرة تعددها من مجتهد واحد في أوقات مختلفة، فكيف بالمتعددين من أهل الاجتهاد، فكل من هذه الآراء واقعيات اعتبارية في حدّ نفسها تشملها إطلاقات أدلة الحجج و عموماتها.

فالأحكام الواقعية..

تارة: واقعيات أولية حقيقية بني عليها أصل الشريعة المقدسة.

و اخرى: امتنانية تسهيلية ثانوية، كالأحكام الاضطرارية التي يطلق عليها

ص: 129

الواقعيات الثانوية، و هي مجعولة شرعا، فهي من الأحكام الإلهية بالاتفاق، فلتكن الاجتهاديات أيضا كذلك، أي أنها أحكام إلهية اقتضاها التسهيل و الامتنان على الامة و الرأفة بهم، و ليس ذلك مختصا بالأحكام الشرعية فقط، بل يجري في أنظار العلماء في جميع العلوم، سواء كان متعلّقها من الاعتباريات أو من الماديات، فكلما يقال فيها يقال في الاجتهاد في الأحكام أيضا.

و ثانيا: بتواتر الأخبار على وحدة الحكم الواقعي.

و فيه: إنه لم يظفر على خبر أو خبرين من تلك الأخبار فضلا عن المتواتر منها، و إن أريد بها أخبار الاحتياط فهي و إن كنت متواترة في الجملة لكنها أعم من المدعى، كما لا يخفى.

الثالث: أنه لا واقع أصلا إلا ما يراه المجتهد، فيكون رأيه موجبا لحدوث الواقع و تحققه مطلقا.

و اورد عليه.. أولا: بما أورد على الثاني من الإجماع و الأخبار المتواترة، و تقدم الإشكال عليه.

و ثانيا: بأنه لو لم يكن شيء موجود في الواقع لما صدق التفحص عنه و الاجتهاد فيه، و الاستنباط متقوم بالتفحص في الأدلة للظفر على الواقع.

و فيه: أن الاجتهاد و التفحص في المباني لأجل إحداث الرأي، كما في ذوي الرأي في جميع العلوم و الفنون، سواء كان الرأي تأسيسيا أو إمضائيا، و لا محذور فيه.

ثم إن القول بالتصويب مخالف لما رواه البخاري في صحيحه في الجزء التاسع باب الاعتصام بالكتاب و السنة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، و ان اجتهد و اخطأ فله أجر واحد»، إذ لا فرق بين الحاكم و المفتي عندهم، إلا أن يقال: إن الحديث مختص بخصوص الموضوعات التخاصمية دون الأحكام، و لكنه تخصيص بلا وجه.

ص: 130

الأعلمية
اشارة

حق العنوان أن يعنون بالأفقهية تبعا للنصوص، كقول أبي عبد اللّه عليه السّلام:

«أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلماتنا»، و قوله عليه السّلام: «أفقههما في دين اللّه» إلى غير ذلك مما ورد فيه لفظ الأفقه، فراجع قضاء الوسائل. كما أن الحق أن يعنون هكذا: (أن مخالفة فتوى العالم لفتوى الأعلم منه و للاحتياط هل تكون مانعة عن تقليده؟)، إذ لا كلام لأحد في صحة التقليد في مورد التوافق في الفتوى أو الاختلاف مع كون فتوى العالم موافقة للاحتياط. و إنما الكلام في صورة واحدة و هي كون فتوى العالم مخالفة للاحتياط و مخالفة لفتوى الأعلم منه.

فنسب إلى جمع تعيين تقليد الأعلم حينئذ، و استدل..

تارة: بالإجماع المدعى عن المرتضى رحمه اللّه.

و فيه: أن مورده مسألة الخلافة العظمى دون التقليد و الفتوى، فراجع كتاب القضاء من (جواهر الكلام).

و اخرى: بالسيرة على الرجوع إلى الأعلم.

و فيه: أن دعوى ثبوتها على نحو الكلية غير معلومة إن لم تكن معلومة العدم.

و ثالثة: بقاعدة الاشتغال بعد كون المقام من التعيين و التخيير.

و فيه: أن التعيين كلفة زائدة يكون من الشك في أصل التكليف فيرجع فيه إلى البراءة، لأن المسألة خلافية، كما تقدم. و لكن الأحوط تعيين تقليد

ص: 131

الأعلم إن لم يكن مخالفا للاحتياط من جهة اخرى، كما أثبتناه في الفقه في كتاب (مهذب الأحكام).

الاستدلال على اعتبارها في المرجع و المناقشة فيه

و أما الاستدلال عليه: بأن رأي الأعلم أقرب إلى الواقع فهو من مجرد الدعوى، كما أن ما ورد في الأخذ بالأفقه عند تعارض الحكمين إنما هو في مورد الرجوع إلى الحكمين، فلا يشمل ما قبل الرجوع، فكيف بالتقليد، إلا أن يدعى العلم بعدم الفرق، و إثباته مشكل، مع أن المراد بالأفقه في تلك الأعصار المتأمل في الأحاديث في مقابل من يكتفي منها بمجرد الحفظ فقط، و كون المراد بها الأعلمية الاصطلاحية محل إشكال. و لعله لذلك لم يعبر العلماء بها، بل عبروا بالأعلمية.

و بعبارة اخرى: المراد بالأفقه فيها مطلق المجتهد، و المراد بغيره مطلق الحافظ للأحاديث.

أدلة عدم اعتبار الأعلمية و الردّ عليها

ثم إنه قد استدل على عدم اعتبار الأعلمية بوجوه مخدوشة، منها:

الإطلاقات و العمومات الدالة على الرجوع إلى العالم.

و فيه: أنها ليست في مقام البيان من هذه الجهة.

و منها: أن تشخيص الأعلم متعذر.

و فيه: أنه ليس بأصعب من تشخيص أصل الاجتهاد و العدالة المعتبرة في إمام الجماعة و الشهود و نحو ذلك، فكل ما يقال فيهما يقال في تشخيص الأعلم أيضا.

و منها: جريان السيرة على الرجوع إلى العالم مع وجود الأعلم.

و فيه: أنه لم يحرز ذلك مع الاختلاف في الامور المهمة، و أي أمر أهمّ من الدين.

و منها: رجوع الشيعة إلى الرواة مع وجود الإمام عليه السّلام.

و فيه: أنه لم يكن من الرجوع التقليدي، بل كان مثل رجوع العوام إلى من

ص: 132

يعرف رسالة المجتهد مع وجود المجتهد بينهم. إلى غير ذلك من الوجوه التي هي ظاهرة الخدشة فراجع (مهذب الأحكام).

و يمكن جعل النزاع لفظيا، فمن منع عن الرجوع إلى المفضول مع وجود الأفضل، أي في صورة إحراز الاختلاف في الرأي مع عدم موافقة رأي المفضول للاحتياط، و من جوّز أراد غير هذه الصورة.

فوائد:
الاولى: بيان المراد من الأعلم

الاولى: المراد من الأعلم من كان أجود فهما في تطبيق الفروع على مداركها، و أجود استنباطا للوظائف الشرعية عن مبانيها، و ليس المراد به الأعلمية المطلقة من كل جهة لانحصاره بالمعصوم عليه السّلام، بل المراد بها الأعلمية الإضافية.

الثانية: كيفية تحقق موضوع الأعلم

الثانية: لا ريب في تحقق موضوع تقليد الأعلم مع العلم باختلاف الفتوى تفصيلا! و أما مع العلم الإجمالي فيجب الفحص، لكونه منجزا و مع اليأس لا يتحقق موضوعه، لأن موضوعه إحراز الاختلاف في ما هو مورد الابتلاء، و المفروض عدم تحققه.

الثالثة: لو شك في اختلاف الأعلم مع غيره

الثالثة: لو شك في الاختلاف، فالظاهر صحة جريان أصالة عدم المخالفة، فيتحقق موضوع صحة تقليد العالم، لأن موضوعه عدم إحراز المخالفة و لو بالأصل، و لا موضوع لوجوب تقليد الأعلم، لأن موضوعه إحراز المخالفة و هو غير حاصل. و هنا فروع كثيرة تعرضنا لها في الفقه، فراجع.

ص: 133

تبدل الرأي:

و هو إما بالقطع على الخلاف، أو بغيره مما يكون معتبرا. و على كل منهما إما أن يكون الاجتهاد السابق قطعيا، أو ظنيا، أو بالاختلاف. و على الجميع إما أن يكون متعلّق الاجتهاد نفس الحكم، أو موضوعه، أو قيدا من قيوده. و على الجميع إما أن نقول بالطريقية المحضة، أو السببية الانقلابية، أو المصلحة السلوكية. و مقتضى الأصل في الجميع عدم الإجزاء إلا مع الدليل على الخلاف من إجماع أو غيره.

و يمكن أن يقال: إن من لوازم جعل اعتبار الاجتهاد و وجوب الرجوع إلى المجتهدين هو الإجزاء، لأن اعتبار قول المجتهد و الرجوع إليه جعل في مورد يلزمه التبدل غالبا بل دائما في الجملة، مع أنه لم يشر إلى حكم هذه المسألة العامة البلوى في خبر من الأخبار مع كثرة الابتلاء بها في جميع الأزمنة، و يقتضي الإجزاء سهولة الشريعة المقدسة أيضا.

تقليد الميت:
اشارة

قد ادعي الإجماع على بطلان الابتدائي منه، فإن تم و إلا فيشمله ما يدل على صحة البقاء عليه. و موضوع البحث في ما إذا خالفت فتوى الميت لفتوى الحي، و في مورد الموافقة لا ثمرة لهذا البحث أصلا، لتحقق مطابقة عمل العامي لرأي من يصح الاعتماد على رأيه و يصح عمله لا محالة، سواء قلنا بجواز تقليد الميت ابتداء و بقاء، أو لم نقل به.

و خلاصة الكلام أنه لا بد و أن يبحث من وجهين:

الأول: من جهة وجود المقتضي لتقليد الميت.

ص: 134

و الآخر: من جهة وجود المانع عنه.

أما الوجه الأول: فمقتضى الاصول الموضوعية - من أصالة حجية الرأي في حدّ نفسه، و صحة الاعتذار به، و أصالة بقاء الوظيفة الظاهرية التي استفادها من الأدلة، و أصالة بقاء حكمة الاعتبار من غلبة الإصابة أو تسهيل الأمر على الأنام - صحة تقليد الميت ابتداء و البقاء عليه استمرارا، مضافا إلى الإطلاقات و العمومات كما تقدم من الآيات و الأخبار، و تقتضيه السيرة في الجملة أيضا، لاستقرارها على الرجوع إلى آراء الأموات ابتداء و بقاء في كل علم و فن و صنعة.

و اشكل عليه.. تارة: بأصالة عدم الحجية في مشكوكها.

و فيه: أنها من الأصل الحكمي، و الأصل الموضوعي مقدّم عليه. كما ستعرف، مع أنها محكومة بالسيرة و الإطلاقات و العمومات.

و اخرى: بزوال الرأي بالموت.

و فيه: أن الحياة منشأ حدوث الراي لا بقائه، و لا يدور مدار بقاء الحياة أبدا، لوجود آراء الأموات من العلماء عندنا خلفا عن سلف و يحتجون بها في جميع العلوم و الفنون، كوجود كلماتهم عندنا. فما الفرق بين حجية ظواهر كلماتهم و حجية آرائهم حتى تصح الاولى دون الثانية؟

و ثالثة: باحتمال كشف الخلاف بالموت.

و فيه: مضافا إلى أنه من مجرد الاحتمال الذي لا يمنع عن جريان الأصل إن كشف الخلاف، و إنما يضر إذا كان بالطرق المألوفة الاجتهادية لا بغيرها.

و رابعة: بأنه لا يقين بالحكم السابق حتى يستصحب.

و فيه: أنه لا يحتاج اليقين بالحكم في مجرى الاستصحاب، بل يكفي اليقين بالوظيفة الظاهرية و صحة الاعتذار.

و أما الوجه الثاني - و هو وجود المانع - فالظاهر أنه منحصر بدعوى الإجماع..

ص: 135

تارة: على عدم الجواز مطلقا.

و اخرى: بأن الإجماع الدال على عدم الجواز لعروض الهرم و النسيان يدل على عدم الجواز لعروض الموت بالأولى.

و فيه: مضافا إلى أن هذه الإجماعات من الإجماعات الاجتهادية التي لا اعتبار لها أن المتيقن من الأول خصوص الابتدائي منه، لكثرة الاختلاف في الاستمراري، و لم تثبت الأولوية في الثاني لا عقلا و لا عرفا و لا شرعا، فلا بد من الاقتصار على مورده هذا، مع أن لنا أن نقول إنه حيث لا يجوز تقليد الميت ابتداء و لا بقاء إلا بالرجوع إلى الحي، يكون هذا التقليد تقليدا للحي فلا يبقى موضوع للإشكال أصلا.

ثم إنه يجري في تقليد الميت جميع ما يجري في الحي من تعينه إن كان أعلم، و التخيير بينه و بين غيره مع التساوي. و في هذه المباحث فروع كثيرة تعرضنا لها في الفقه فراجع.

اعتبار مطلق الظن:
الاستدلال على اعتباره و الجواب عنه
اشارة

تقدم الكلام في الظنون الخاصة، و أما مطلق الظن فقد استدلوا على اعتباره بأمور..

أحدها: أن مخالفة الحكم الإلزامي المظنون مظنة للضرر
اشارة

، و دفع الضرر المحتمل واجب فكيف بالمظنون، فيكون العمل بالظن القائم على الحكم الإلزامي واجبا، و هو المطلوب.

و يرد عليه: أن الكبرى ممنوعة، لأنه إن اريد بالضرر فيه العقاب الاخروي، فالضرر العقابي الذي يجب دفعه منحصر بما إذا كان في أطراف العلم الإجمالي أو في الشبهات البدوية قبل الفحص، و في غيرهما تجري قاعدة قبح

ص: 136

العقاب بلا بيان عقلا و البراءة شرعا، و ليس المقام منهما، و مع فرض كونه من أحدهما فصحة النتيجة متوقفة على تمامية باقي مقدمات الانسداد، لأنه حينئذ يصير من إحدى مقدماتها كما لا يخفى. و يأتي عدم تمامية دليل الانسداد.

و إن كان المراد به الضرر الدنيوي. فيرد عليه.
أولا: أن تبعية الأحكام مطلقا للمصالح و المفاسد الدنيوية تحتاج إلى دليل

و هو مفقود على نحو الإطلاق و العموم، و إن كان مما لا ينكر إجمالا.

و ثانيا: كل ضرر دنيوي ليس بواجب الدفع مطلقا،

بل السيرة العقلانية على الخلاف، فإن بناءهم على ملاحظة الجهات المرجحة، فربما يتحمّلون الضرر لما يترتب عليه من المقاصد الصحيحة العقلائية التي يكون الضرر المتحمل بالنسبة إليها بحكم العدم.

نعم، لو كان الضرر على نحو لا يغلبه شيء من الأغراض العقلائية و يكون غالبا على جميعها، فلا ريب في وجوب دفعه حينئذ، و لا دليل على كون المقام منها إن لم يكن على عدمه.

و ثالثا: على فرض تحققه،

فما لم يدل دليل على أن الحكم الذي في مورده من الكبائر فهو مكفّر بالحسنات، كما في الآيات مثل قوله تعالى: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ و الروايات، و هذا يجري في ما إذا كان الضرر المحتمل عقابا أيضا، فلا يبقى موضوع لقاعدة دفع الضرر المحتمل في المقام أصلا.

ثانيها: أنه من البديهي وجود أحكام إلزامية في الشريعة المقدسة

و مع عدم العلم بها تفصيلا وجب الاحتياط، و مع تعسّره وجب الأخذ بالمظنون.

ثالثها: إنه بعد لزوم الأخذ بها في الجملة لو لم يؤخذ بالمظنون

، لزم ترجيح المرجوح على الراجح، و هو قبيح، فوجب الأخذ بالمظنون.

و يرد عليهما: أن كل واحد منهما مقدمة من مقدمات الانسداد الآتية، و لا

ص: 137

ينتج إلا بعد ضم سائر مقدماتها، فلا وجه لذكرها مستقلة.

رابعها: دليل الانسداد
مقدمات دليل الانسداد و المناقشة فيها
اشارة

و هو مركب من مقدمات أغلبها قابلة للمناقشة، و لم يكن لهذا الدليل رسم في كتب المتقدمين و إنما حدث بين متأخر المتأخرين.

المقدمة الاولى:

العلم بتشريع أحكام في الشريعة، بل يكفي الاحتمال العقلائي لذلك.

المقدمة الثانية:

انسداد باب العلم و العلمي فيها.

المقدمة الثالثة:

عدم جواز إهمال الوقائع المثبتة للتكليف.

المقدمة الرابعة:

بطلان العمل بوظيفة الجاهل من العمل بالاحتياط و الاصول و الأخذ بفتوى الغير.

المقدمة الخامسة:

بطلان ترجيح المرجوح على الراجح.

و مع صحة جميع هذه المقدمات تنتج حجية مطلق الظن لا محالة.

و لكن يرد عليها.. أولا: بأن حق بيان المقدمة الاولى أن يكون هكذا:

«نعلم بوجود أحكام في موارد الطرق المعتبرة تأسيسا أو إمضاء، بحيث لو تفحّصنا و ظفرنا بها و رجعنا في غيرها إلى الاصول المعتبرة، لم يلزم محذور عقلي و لا شرعي أبدا، و قد تفحّصنا و ظفرنا بها فنرجع في غيرها إلى الاصول المعتبرة». و لا ريب في صحة هذه المقدمة، كما لا ريب في تحققها خارجا، و معها لا تصل النوبة إلى سائر المقدمات أصلا، فتكون عقيمة رأسا، فلا وجه للبحث عن سائر المقدمات صحة و فسادا.

و ثانيا: أنه لا ريب في فساد المقدمة الثانية، لأن المراد بالعلم فيها إن كان مطلق ما يوجب الاطمئنان و سكون النفس - كما يكون المراد بالعلم في الكتاب و السنة ذلك - فلا ريب في انفتاح بابه في الأحكام، كما لا يخفى على العوام فضلا عن الأعلام. و إن كان المراد به ما هو المصطلح لأهل المعقول أي: ما لا

ص: 138

يحتمل فيه الخلاف أصلا، فهو و إن كان مسدودا في غير الضروريات، و المتواترات، و المسلّمات الفقهية، و ما استفاضت فيه الإخبار، أو نقل الإجماع، و موارد الإجماعات المتحققة. و لكن باب العلمي مفتوح في الأحكام إلى يوم القيامة بلا شبهة فيه و لا كلام هذا.

و لا ريب في صحة المقدمة الثالثة إما للقطع بأن إهمال التكاليف المعلومة بالإجمال مبغوض لدى الشارع، أو للإجماع القطعي على عدم صحة الإهمال من الإمامية، بل من المسلمين، و إما لأن نفس العلم الإجمالي منجز عقلا، فلا يصح الإهمال لدى العقلاء. و هذه وجوه ثلاثة لتمامية المقدمة الثالثة، و قد ابتني عليها الكشف و الحكومة، فإن استند البطلان إلى أحد الأولين، فالنتيجة هي الكشف لكونها تابعة لأخس المقدمات، و لا ريب في كون كل واحد منهما شرعيا لا عقليا. و إن استند البطلان إلى الأخير تستنتج الحكومة، لكون جميع المقدمات - على فرض تماميتها - عقلية. و لكن هذا الابتناء ممنوع، لأنه بعد تحقق العلم الإجمالي و حكم العقل بعدم صحة الإهمال، لقاعدة دفع ضرر العقاب المعلوم، يكون حكم الشرع إرشادا إليه لا محالة، سواء كان دليله الإجماع القطعي، أو القطع بالمبغوضية لدى الشارع، كما في سائر موارد حكم الشرع مع وجود حكم العقل البتي. و لو كان المدرك تمام الوجوه الثلاثة لتعين الحكومة أيضا، لكفاية حكم العقل للمدركية، و تكون البقية إرشادا إليه.

و لا ريب في صحة المقدمة الرابعة أيضا، أما الرجوع إلى العالم فلفرض عدمه، إذ المفروض انسداد باب العلم و العلمي، و الرجوع إليه يكون من العلمي، هذا مع إباء نفوس المجتهدين عن الرجوع إلى غيرهم، بل لا وجه له بالنسبة إليهم، كما لا يخفى.

جملة القول في الاحتياط أقسامه بيان الإشكال فيه

و أما الاحتياط فجملة القول فيه: أنه إما تام مخل للنظام، أو موجب للعسر و الحرج، أو لا يوجب شيئا منهما. و الأولان منفيان لدى العقلاء كافة في كيفية

ص: 139

الامتثالات و يرون ذلك منكرا، بل يلومون من احتاط بما يوجب العسر و الحرج فضلا عما أوجب اختلال النظام، و يكفي في ذلك عدم بلوغ الردع في الشريعة فكيف بالأدلة الكثيرة الدالة على أنه لا حرج في الدين، و إنه سمحة سهلة. و قد لاحظ الشارع الأقدس في جعله للأحكام قدرة الضعفة، لا سيما الشريعة الختمية المبنية على بيان المعارف و الأحكام و نشرها و تعليمها و تعلمها و التفقه فيها، و قد جرت سيرة الرواة و من بعدهم في كل طبقة على تبويبها و تفصيلها جزئية و كلية و اهتموا بذلك نهاية الاهتمام في كل عصر، و ذلك كله يلازم سقوط الاحتياط الموجب للعسر في كيفية الامتثال فكيف بما إذا كان مخلا للنظام.

و الحاصل: أن الامتثال الحرجي خلاف الطريقة العقلائية، فيكون خلاف الطريقة الشرعية أيضا إلا مع التنصيص على الجواز، فكيف بالتصريح بالمنع.

نقل كلام صاحب الكفاية في الحرج الحاصل من الامتثال و الرد عليه

و قال صاحب الكفاية: «إن أدلة نفي الحرج إنما تنفي الجعل الحرجي»، يعني لا يتعلّق جعل للشارع بالتكليف الحرجي، و لا تشمل الحرج الحاصل من ناحية الامتثال، لأنه لم يحصل من طرف الشارع.

و يرد عليه.. أولا: أنه لا حرج في الدين مطلقا، سواء كان في جعل أصل التكليف، أو في امتثاله لعموم دليل نفيه الشامل لهما معا، و يدلّ عليه صحيح ابن سنان حيث جعل عليه السّلام فيه الابتلاء بالوسوسة في الوضوء من الشيطان.

و ثانيا: بأن الامتثال الحرجي - خلاف الطريقة العقلائية - يكفي عدم ثبوت الردع فيه شرعا، فلا تصل النوبة إلى البحث عن أن دليل نفي الحرج هل له الحكومة بالنسبة إلى الامتثال الحرجي أيضا أو لا. هذا كله مضافا إلى ما يأتي من عدم تنجز هذا العلم الإجمالي أصلا.

هذه خلاصة الكلام في الاحتياط المخل للنظام، أو الموجب للعسر و الحرج على الأنام.

و أما ما لا يوجبهما: فجملة القول فيه أنه لا دليل على وجوبه أصلا، لأن

ص: 140

دليل وجوبه منحصر بالعلم الإجمالي بثبوت الأحكام في الواقع، و لا أثر لهذا العلم الإجمالي أصلا.

أما أولا: فلأن الحق في بيان العلم الإجمالي أن يكون هكذا: «إنا نعلم إجمالا بتشريع أحكام في الشريعة، لو تفحصنا عنها لظفرنا بها في موارد الطرق المعتبرة، و قد تفحّصنا و اطلعنا عليها فيها فيزول العلم الإجمالي حينئذ رأسا»، فلا يبقى بعد ذلك موضوع لوجوب الاحتياط أصلا.

و أما ثانيا: فلأن هذا العلم الإجمالي غير منجز، لخروج جملة كثيرة من أطرافه عن مورد الابتلاء في كل عصر و زمان من أول البعثة إلى ظهور الحجة، إلا أن هذه الجملة تتبدل بحسب الظروف و الجهات الخارجية، كخروج أحكام العبيد و الإماء و نحوها في هذه الأعصار عن محل الابتلاء، و في أوائل الإسلام جملة مهمة منها غير الضروريات كانت خارجة عن مورد الابتلاء.

و بالجملة: الابتلاء و عدمه من الامور التدريجية الوجود و الانقضاء، كما لا يخفى على المتأمل.

الإشكال في وجوب الاحتياط الذي لا يوجب العسر و الحرج

إن قيل: العلم الإجمالي الكبير يكون كذلك، فلا تنجز له من هذه الجهة.

و أما الصغير - و هو الحاصل بين الأحكام الابتلائية - فلا ريب في تنجزه فيجب الاحتياط فيه، و هو المطلوب.

يقال: ينحل ذلك أيضا، و لا أثر له بسبب الأمارات المعتبرة و الضروريات و المسلّمات و غيرها، فلا تنجز للعلم الإجمالي بكبيره و صغيره، فلا وجه لوجوب الاحتياط و لا تبعيضه، كما لا يخفى. و قد استقصى صاحب الوسائل في كتابه المسمى ببداية الهداية: الواجبات بألف و خمسمائة و خمسة و ثلاثين، و المحرمات بألف و اربعمائة و ثمانية و أربعين، و الظاهر أنه قدّس سرّه عدّ جميع الشواذ و النوادر أيضا و استقصى ذلك نهاية الاستقصاء. و لا ريب في كفاية الأمارات و القواعد و الاصول المعتبرة بهذا المقدار، كما هو معلوم على الخبير البصير.

ص: 141

و أما ما عن الشهيد قدّس سرّه من أن واجبات الصلاة ألف، و كتب فيها كتابه «الألفية». فلا يخفى أن ابتلائيات الصلاة لا تبلغ إلى ذلك الحدّ كما هو واضح على من راجعها. و أما ما ورد من أن للصلاة أربعة آلاف حدّ، فلا بد من ردّ علمه إلى أهله، أو حمله على بعض المحامل. هذا ما يتعلق بالاحتياط.

الرجوع إلى الاصول العملية بيان الإشكال فيه الجواب عن الإشكال المعروف من التناقض بين صدر دليل الاستصحاب و ذيله الرجوع إلى الاصول العملية بيان الإشكال فيه

و أما الرجوع إلى الاصول فإن كانت مثبتة للتكليف فلا محذور من الرجوع إليها حينئذ، و إن كانت نافية فقيل بعدم صحة الرجوع إليها إما لأجل استلزامه الخروج عن الدين، أو لأجل الإجماع على الخلاف، أو لأجل العلم الإجمالي بثبوت أحكام إلزامية في البين، فيلزم التناقض بين صدر دليل الاستصحاب و ذيله حينئذ في قوله عليه السّلام: «لا تنقض اليقين بالشك و لكن تنقضه بيقين آخر»، كما يأتي بيانه. و لا مجرى لسائر الاصول معه أيضا، لاختصاصها بالشك البدوي دون المقرون بالعلم الإجمالي..

و يرد الأول: بأنه صحيح إن جرت الاصول النافية في جميع أحكام الشريعة أو في معظم الأحكام، و لا يقول به أحد بل لا يرضى به عاقل، لاختصاص مجراها لدى العقلاء بمورد فقد الأمارات و القواعد و الاصول المثبتة المعتبرة، و هي موجودة كافية. فيرجع في غير مواردها إلى الاصول النافية بلا محذور أبدا.

و يرد الثاني: باستقرار بناء الفقهاء في كل عصر إلى الرجوع إليها بعد الفحص و اليأس عن غيرها، و سيأتي أن نزاع الأخباري مع الاصولي نزاع صغروي، لا أن يكون كبرويا.

و يرد الثالث: بما مرّ غير مرة من سقوط هذا العلم الإجمالي عن التنجز بالمرة، فالمقتضي لجريانها في مورد فقد الأمارات - و هو الشك - موجود، و المانع عنه مفقود، فتجري الاصول النافية بلا محذور في البين.

إن قلت: عند تحقق الشك و الظن، مقتضى الفطرة الأخذ بالأخير، فلا

ص: 142

تصل النوبة إلى الأصل، فيصح استنتاج اعتبار مطلق الظن حينئذ.

قلت: نسلّم أن مقتضى الفطرة في الظنون الخاصة المعتبرة بالخصوص.

و أما مطلق الظن الذي لم يقم على اعتباره دليل فاقتضاؤها للأخذ به و ترك الأصل الذي دل على اعتباره الأدلة ممنوع، كما لا يخفى.

و أما لزوم التناقض بين صدر دليل الاستصحاب و ذيله، فالجواب عنه إن محذور جريان الاصول النافية في أطراف العلم الإجمالي..

تارة: ثبوتي.

و اخرى: إثباتي.

أما الأول: فالقول بوجوب الاجتناب - مثلا - عن جميع الأطراف مقدمة للعلم، و عدم وجوب الاجتناب عن أحدهما محذور بنفسه، لا ينبغي صدوره عن عاقل فضلا عن الحكيم. و كذا عدم وجوب الاجتناب عن الأطراف جميعا، للأصل مع وجوب الاجتناب عن أحدها لا بعينه.

و أما الثاني: فإنه بناء على شمول اليقين في قوله عليه السّلام: «لا تنقض اليقين بالشك و لكن تنقضه بيقين آخر» لليقين الإجمالي أيضا. فتقرير لزوم التناقض أن مقتضى الصدر حرمة نقض اليقين بالشك في كل واحد من الطرفين، و مقتضى الذيل حينئذ عدم حرمة نقض اليقين بالشك في مورد العلم الإجمالي، فيلزم التناقض.

و يرد عليه.. أولا: إمكان منع شموله لليقين الإجمالي فلا يلزم المحذور أبدا.

و ثانيا: على فرض الشمول إن اليقين الاجمالي إما أن يلحظ بالنسبة إلى يقين كل واحد من الطرفين بالخصوص الذي كان سابقا، ثم شك في البقاء، أو بالنسبة إلى مجموعهما من حيث المجموع، أو بالنسبة إلى المردد من حيث الترديد، أو بالنسبة إلى المعلوم واقعا و في علم اللّه تعالى.

ص: 143

أما الأول: فلا ريب في عدم اليقين بالنسبة إلى كل واحد من الطرفين على خلاف اليقين الاستصحابي.

و أما الثاني: فلا ريب في عدم تحققه في الخارج حتى يكون مجرى الاستصحاب و يلزم التناقض بين صدره و ذيله، فإن مجراه هو الفرد الشخصي الخارجي دون المجموع من حيث المجموع الذي ليس إلا أمرا وهميا فقط.

و أما الثالث فلا تحقق له أصلا، إذ التحقق و الوجود مساوق للتشخّص في الجملة، و المردد من حيث هو لا تشخّص له رأسا. و أما الرابع فهو حق و لكنه ليس مجرى الاستصحاب في شيء حتى يلزم التناقض في دليله، إذ لا شك فيه مع أنه ليس له أثر عملي لفرض التردد الظاهري هذا.

و لكن يمكن أن يقال: إن التنافي الثبوتي بين جريان الاصول النافية في الأطراف و العلم الإجمالي بالخلاف، يسري إلى مقام الإثبات أيضا، لمكان التلازم العرفي بينهما، كما هو أوضح من أن يخفى. و لعل هذا مراد من قال بلزوم التناقض أيضا أي التنافي بالعرض لا بالذات، فيصح أن يجمع بهذا بين الكلمات، فمن ينفيه يريد به ما بالذات، و من يثبته يريد ما بالعرض.

بيان المختار في دليل الانسداد
اشارة

فتلخّص مما مرّ: أنه لا نتيجة لدليل الانسداد أصلا، و على فرضها فهي تكون التبعيض في الاحتياط، لو فرض أن دائرة العلم الإجمالي بالأحكام تكون أوسع من موارد الأمارات، و القواعد، و الاصول المعتبرة فيعمل حينئذ بالاحتياط حتى يضعف العلم و تصير الأطراف عرفا كالشك البدوي، فيعمل بالاصول النافية حينئذ. فمن قال بأن النتيجة - على فرض التمامية - العمل بالاصول النافية.

أي بعد ضعف العلم الإجمالي و صيرورة أطرافه كالشك البدوي، و من قال بأن النتيجة التبعيض في الاحتياط أي قبل ذلك، فيصير هذا النزاع أيضا لفظيا بلا ثمرة، فراجع و تأمل.

ص: 144

و ينبغي التنبيه على امور:
الأول: هل تكون نتيجة دليل الانسداد في المسألة الأصولية أو في الأحكام أو فيهما معا

الأول: هل تكون نتيجة دليل الانسداد - على فرض تماميتها - اعتبار الظن في المسألة الاصولية أي الحجية و الطريقية فقط، أو في نفس الأحكام فقط، أو فيهما معا.

و الحق سقوط هذا البحث من أصله لأن نفس دليل الانسداد من المسائل الاصولية، و المناط في المسألة الاصولية ما كانت مستلزمة لصحة الاعتذار، و حينئذ فكل ظن مطلق صح الاعتذار به لدى الشارع الأقدس يشمله دليل الانسداد، سواء كان في الطريق، أو في الحكم، أو فيهما معا بلا واسطة، أو معها و ما لا يصح فلا يشمله الدليل، سواء كان في الطريق أو في غيره، مع أن ظاهرهم التسالم على لزوم الأثر الشرعي فيه، مضافا إلى أن الظن بالطريق في الغالب يستلزم الظن بالواقع و بالعكس.

نعم ينفك كل منهما عن الآخر عقلا بل و أحيانا في الخارج أيضا، و لكنه ليس بنحو يفصل فيها لقول.

و استدل من قال بالاختصاص بخصوص الطرق..

تارة: بانحصار الواقعيات بمؤدياتها.

و يرد: بأنه إما من التصويب المحال، أو المجمع على بطلانه.

و اخرى: بأن امتثال التكاليف مقيد بأن يكون منها.

و يرد: بعدم دليل عليه بعد الانسداد.

نعم، منع عن العمل بالقياس و الاستحسان و نحوهما، و ذلك لا يستلزم التقييد، مضافا إلى ما مرّ من الملازمة الغالبية بينهما و لا وجه للتقييد، كما لا يخفى.

و ثالثا: بأن الظن بالطريق أقرب إلى الواقع.

ص: 145

و يرد: بأنه من مجرد الدعوى.

و رابعة: بأنه كما إنا نعلم بالواقع نعلم بجعل طرق إليه أيضا، و بعد تمامية المقدمات يعمل بالظن بالطريق و في غيره يرجع إلى البراءة.

و يرد: بأن الطريق المجعول لا موضوعية فيه بوجه، بل هو طريق محض إلى الواقع، و المدار كله عليه فجعل الطريق على فرض حجيته لا أثر له إلا الطريقية، بلا فرق بينهما مع الملازمة الغالبية بينهما، فالحق عدم الفرق في الحجية على فرض تمامية المقدمات بين الظن بالواقع، أو بالطريق، أو بهما معا.

الثاني: هل تكون نتيجة دليل الانسداد الكشف أو الحكومة؟

الثاني: هل تكون النتيجة بعد تمامية المقدمات اعتبار الظن شرعا - المعبر عنه بالكشف - أو لغاية امتثال المظنونات - المعبر عنه بالحكومة - الحق هو الأخير، لأنه بعد فرض تماميتها يحكم العقل بكفاية الامتثال الظني ما لم يردع عنه الشرع، و لا ردع إلا في مثل القياس، فلا نحتاج بعده إلى استكشاف حكم الشرع، و لو فرض ذلك لكان إرشادا محضا، لفرض كفاية المقدمات في لزوم الامتثال الظني و كفايته عقلا، فيكون حكم الشرع حينئذ إما إرشادا أو مؤكدا لحكم العقل. هذا مع أن المقدمات إما عقلية أو عقلائية. فتكون النتيجة تابعة لها أيضا، لأن العلم بالأحكام وجداني و انسداد بابي العلم و العلمي على فرض التمامية كذلك، و بطلان الإهمال عقلي أيضا، لأنه ظلم و كفران بالنسبة إلى المنعم الحقيقي، بل ظلم بالنسبة إلى نفس المكلف أيضا، و بطلان الاحتياط المطلق بل عدم جوازه كذلك. و كذا الرجوع إلى الاصول النافية مطلقا و رجوع العالم إلى غيره أيضا خلاف مرتكزات العقلاء، و قبح ترجيح المرجوح على الراجح عقلي فتكون النتيجة عقلية لا محالة. و ابتناء الكشف و الحكومة على أنه إن كان مدرك بطلان المقدمة الثالثة الإجماع القطعي، أو الخروج من الدين فيتعين الكشف حينئذ، و إن كان مدركه غيرهما فالحكومة لا وجه لها، إذ الإجماع القطعي أو الخروج من الدين لا موضوعية لهما قطعا، بل مرجعهما إلى أن ترك الامتثال

ص: 146

المطلق بعد العلم بالتكاليف ظلم على المنعم و على النفس فيرجعان إلى ما مرّ و لا محالة تكون النتيجة الحكومة.

إن قلت: إن مدرك بطلان مطلق الاحتياط هو الإجماع و هو شرعي، و النتيجة تابعة لأخس المقدمات فيستفاد منه جعل الشارع للظن حجة.

قلت: بطلان الاحتياط المطلق أوضح من أن يتمسك له بالإجماع، و لا ريب في كونه عقلائيا، و لو فرض تمامية الإجماع فهو حاصل من المرتكزات العقلائية، لا أن يكون إجماعا فقهيا معتبرا، كما لا يخفى.

إن قلت: معنى الحجية هو أن يكون الشيء تخصص به العمومات أو تقيد به المطلقات، و يعمل به كسائر الحجج المعتبرة. و الظن بناء على الحكومة ليس كذلك، لأن معناه - كما مرّ - كفاية الامتثال الظني، و ليس هذا من الحجية في شيء، بل يكون مثل كفاية الاحتياط في الامتثال.

قلت: الحجة عند العقلاء، ما يصح أن يحتج بها العبد لدى المولى؛ مع أن من مقدماته العلم بالأحكام و هو حجة بالذات، و لا ريب في إطلاقها بهذا المعنى على الظن بناء على الحكومة، فلا محذور في أن يخصص به عام أو يقيد به مطلق. هذا مع أن الحجية إنما هي لأجل الطريقية للامتثال و لا موضوعية فيها بوجه، و هو الأصل الذي لا بد و أن يعتنى و يهتم به، فلا ثمرة عملية في هذا البحث بل و لا علمية معتنى بها و إن اطيل الكلام فيه.

الثالث: هل تكون النتيجة كلية أو مهملة؟

الثالث: هل النتيجة كلية - بمعنى اعتبار الظن من أي سبب حصل و في أي مورد، و بأي مرتبة كان - أو هي مهملة و يحتاج في التعميم إلى دليل آخر فيكون دليل الانسداد على فرض التمامية جزء الدليل لا تمامه؟

الحق هو الأول إلا مع القرينة على الخلاف، لأن مقتضى طبع الاستدلال على شيء أن يكون وافيا بحدود المدلول و قيوده مطلقا، و ذلك مقتضى السيرة العقلائية أيضا في استدلالاتهم في علومهم و محاوراتهم، و الإجمال و الإهمال

ص: 147

في الأدلة خلاف السيرة العقلائية، و لا فرق فيه بين الكشف و الحكومة.

نعم، مع وجود الظن الاطمئناني في البين و كفايته، مقتضى بناء العقلاء و المتشرعة عدم التعدي عنه إلى غيره، و كذا لو فرض أهمية المورد بحيث لا يكتفى فيه بغير الاطمئناني، أو بأصل الظن مطلقا و تشخيص ذلك ليس من وظيفة الاصول، بل لا بد و أن يثبت في الفقه، و يكفي فيه هذا المقدار من البحث.

و يمكن جعل النزاع لفظيا، فمن قال بالإهمال أي الاكتفاء بالقدر المتيقن لو كان، و من قال بالتعميم قال به بحسب عموم الدليل ثبوتا، و لكن مع وجود القدر المتيقن الكافي لا ريب في الاقتصار عليه خارجا، و لا يجترئ كل فقيه أن يتعدى عنه.

ثم إنه لو كانت أسباب حصول الظن و مرتبته و موارده متحدة من تمام الجهات فالنتيجة كلية لا محالة، و مع الاختلاف بالقوة و الضعف و بالأهمية يتحقق القدر المتيقن، فيقتصر عليه مع الكفاية و يتعدى عنه مع عدمها.

و لا يخفى سقوط هذا النزاع و عدم الثمرة له من أصله لعدم اجتراء أحد على التعدي عن المتيقن إلى غيره، سواء قيل بالكلية أو بالإهمال.

و كيف كان، فإنه بناء على الإهمال استدلوا بوجوه للتعميم:

منها: دعوى الإجماع عليه.

و يرد: بأن المسألة من المستحدثات، مع أن التعميم مع الاحتياج إليه في الجملة من المرتكزات، فكيف يكون هذا من الإجماع التعبدي الذي يستكشف منه رأي الإمام عليه السّلام، لا سيما في هذه المسألة المبتنية على مقدمات جعلية فكرية كجملة من المقدمات المنطقية، و يجلّ شأن الإمام عليه السّلام من التدخل في مثل هذه المقدمات و توابعها.

و منها: الظن المطلق بعد تمامية المقدمات يكون كالقطع، فلا فرق فيه بين الموارد و الأسباب و المراتب.

ص: 148

و يرد: بأنه كذلك لو لم يكن قدر متيقن للثلاثة، من السبب، و المورد، و المرتبة في البين، و مع وجوده يكون القياس مع الفارق، كما لا يخفى على كل أحد.

و منها: مقتضى العلم الإجمالي بثبوت التكاليف في جميع موارد الظنون و مراتبها و أسبابها هو التعميم، مع أنه مقتضى قاعدة الاشتغال بعد العلم باعتبار الظن في الجملة.

و يرد: بانحلال العلم الإجمالي بما هو متيقن الاعتبار في الجهات الثلاث، و معه لا موضوع لقاعدة الاشتغال في غير معلوم الاعتبار.

الرابع: الإشكال على النهي عن الظن القياسي و الرد عليه

الرابع: قد استشكل في النهي عن الظن القياسي بعد تمامية مقدمات الانسداد من وجهين:

أولهما: أنه قد يصيب الواقع و قد يخطئ، كسائر الظنون، فالنهي المطلق عنه، تفويت للواقع على المكلفين عند الإصابة، و هو مناف لمقام الشارعية.

و يرد عليه: بأن إصابة الواقع فيه أحيانا مع المفاسد الكثيرة المترتبة عليه من الخير القليل النادر المستلزم للشر الكثير، و ليس بناء العقلاء في مثله الأخذ بالخير القليل النادر و التحمّل للشر الكثير الغالب، بل و لا يلتفتون إلى مثل هذا الخير القليل أصلا، و لا فرق في هذا الإشكال بين الكشف و الحكومة.

ثانيهما: بناء على الحكومة يكون الظن كالقطع عند العقل فكما لا وجه للنهي عن اتباع القطع، فكذا الظن الانسدادي بناء عليها، و قد اشتهر: أن الأحكام العقلية غير قابلة للتخصيص.

و يرد: بأن الحكم العقلي غير القابل للتخصيص منحصر في ما إذا كان العقل الحاكم به محيطا بما له دخل في حكمه جزئية و كلية، جزء و كلا، إحاطة واقعية من كل حيثية و جهة، و مثل هذا العقل منحصر بالعقول المؤيدة بروح القدس، فإنه يكشف عليهم الواقع فيرونه على ما هو عليه، و أما سائر العقول

ص: 149

فمطلق أحكامهم تعليقية و ليست تنجيزية، فهي معلّقة على عدم ورود التخطئة أو التخصيص من عقل آخر يكون قاهرا عليها الذي يكون نسبة جميع العقول إليه نسبة الشمع إلى الشمس، فمع ورود التخطئة أو التخصيص لا حكم أصلا لها، كما لا يخفى.

الخامس: لو قام ظن على عدم اعتبار ظن آخر

الخامس: لو قام ظن على عدم اعتبار ظن آخر يتعين الأخذ بالظن المانع، لأن طرحهما معا مخالف لفرض تمامية النتيجة، و الأخذ بهما معا مخالف لاعتبار الظن المانع، و الأخذ بالممنوع ترجيح المرجوح على الراجح، فيكون المقام من قبيل دوران الأمر بين التخصيص و التخصص، فإن إخراج الظن المانع عن المقدمات يحتاج إلى مخصص، و لكن خروج الظن الممنوع عنها يثبت بوجود الظن المانع، و مع دوران الأمر بينهما مقتضى المحاورات العقلائية تقديم التخصص على التخصيص.

السادس: كلام في الظن بالفراغ بعد تعلق أصل التكليف

السادس: نتيجة دليل الانسداد على فرض التمامية إما حجية الظن في إثبات الواقع المعبّر عنه بالكشف، أو كفاية امتثال مظنونات التكليف - المعبّر عنه بالحكومة - و أما اعتبار الظن بالفراغ بعد تعلّق أصل التكليف و ثبوته بحجة معتبرة، فلا ربط له بدليل الانسداد أصلا، لعدم تكفّل مقدماته له. و النتيجة تابعة لها، لأنه من المقدمات العلم بالواقع إجمالا، و انسداد باب العلم و العلمي بالنسبة إليه، و أين هذا مما إذا علم الواقع و تنجز التكليف به فعلا من كل جهة و ظن بامتثاله؟! فمقتضى أصالة عدم الحجية عدم اعتبار مثل هذا الظن مع ما ارتكز في الأذهان: إن الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ كذلك: إلا إذا دلّ دليل خاص على تسهيل الشارع و تيسيره، و الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي أيضا، كما دل على عدم الاعتبار بالشك بعد الوقت، و بعد الفراغ، و التجاوز عن المحل، و مثل حديث: «لا تعاد الصلاة إلاّ من خمس»، و غيره من القواعد الامتنانية التسهيلية.

السابع: في الظن الغير المعتبر

السابع: الظن غير المعتبر ساقط عن الاعتبار مطلقا، فلا يجبر به ضعف

ص: 150

السند و لا الدلالة و لا جهة الدلالة، كما لا يوهن به ذلك كله، لفرض عدم اعتباره.

نعم، بناء على اعتبار الخبر الموثق به لو حصل به الوثوق صح الاعتماد عليه حينئذ من جهة الوثوق، كما أنه لو كان من القرينة المحفوفة بالكلام التي منعت عن تحقق الظهور، يسقط الظهور حينئذ، فتكون من السالبة بانتفاء الموضوع، لا لأجل اعتبار الظن، كما أنه لو كان في الفقه مورد دلّ الدليل فيه على اعتبار مطلق الظن فيه، يعمل به و لو لم يكن معتبرا لأجل الدليل حينئذ، و قد مرّ بعض القول في بحث الظواهر و التعارض أيضا.

الثامن: اعتبار الظن في الاعتقاديات
اشارة

الثامن: هل يكون الظن - خاصا كان أو مطلقا على فرض اعتباره - معتبرا في الاعتقاديات، كاعتباره في الفرعيات؟

أقسام الاعتقاديات. الاستدلال على وجوب المعرفة عقلا و الرد عليه

الحق أن يقال: إن الاعتقاديات على قسمين..

الأول: ما وجب فيه تحصيل العلم.

و الثاني: لا يجب فيه ذلك، بل وجب الاعتقاد به على ما هو عليه في الواقع و لو لم يعلم، و لا موضوع لاعتبار الظن بقسميه فيهما، كما يأتي. و من الأول معرفة المبدئ تعالى، و النبي صلّى اللّه عليه و آله، و الإمامة التي هي من المناصب الإلهية.

و استدل على وجوب المعرفة فيها عقلا..

تارة: بقاعدة حسن شكر المنعم، إذ لا ريب في كون اللّه تعالى هو المنعم على الكل بجميع أنحاء النعم، و النبي صلّى اللّه عليه و آله و الإمام عليه السّلام وسائط الفيض و النعمة، كما لا ريب في توقف الشكر على معرفة المنعم و الواسطة، فتجب المعرفة عقلا.

و يرد عليه.. أولا: أن شكر المنعم حسن عقلا، و ليس كل ما هو حسن عقلا بواجب كذلك، فلا تتم قاعدة المقدّمية في المقام إلا بناء على وجوب الشكر، و هو يحتاج إلى دليل عقلي آخر.

الاستدلال على وجوب معرفة المعاد و المناقشة فيه

و ثانيا: أن معرفة اللّه التي هي أجلّ الكمالات النفسانية أجلّ من أن يكون

ص: 151

وجوبها غيريا، بل لا بد و أن يكون نفسيا، و كذا النبي صلّى اللّه عليه و آله و الإمام.

و اخرى: بقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل التي هي من القواعد العقلائية في الجملة، إذ لا ريب في احتمال الضرر في ترك معرفة اللّه تعالى و النبي صلّى اللّه عليه و آله و الإمام عليه السّلام، خصوصا مع احتمال أن اللّه تعالى يريدها من خلقه، فيحكم العقل بوجوبها دفعا للضرر.

إن قيل: الضرر المحتمل إن كان دنيويا فليس كل احتمال ضرر دنيوي بواجب الدفع، كما مرّ. و إن كان أخرويّا فهو متوقف على تحقق المخالفة، و هو متوقف على إثبات المولوية له تعالى و صدور الأمر منه و ثبوت المخالفة، و ذلك كله متأخر عن أصل المعرفة، فكيف تثبت به المعرفة.

قلنا: المراد بالضرر في المقام الدنيوي و الاخروي معا لأهمية المورد الذي لا أهم منه. أما الضرر الدنيوي فلأن الجهل باللّه تعالى و بنبيه و خليفته نقص نفساني، فإذا كان عدم العلم بالحساب، و النحو و الصرف و نحوها نقصا عرفيا عقلائيا، فكيف لا يكون في الجهل بما هو أهم الكمالات النفسانية نقصا.

و أما الضرر الاخروي فهو و إن كان في الغالب مترتبا على مخالفة التكليف و لكن ليس متقوّما بذلك، بل المناط فيه تفويت الواقع بعد التوجه إليه في الجملة عن عمد و اختيار، و لا ريب في المقام بعد احتمال العقاب في ترك المعرفة و احتمال أن اللّه تعالى يريدها من عباده.

و أما المعاد فاستدل على وجوب معرفته في الجملة..

تارة: بأن العلم به مقدمة لامتثال التكاليف، فيجب من باب المقدّمة.

و يرد: بأنه لا كلية فيه، لأن من عباد اللّه تعالى من يعبده حبا له تعالى، لا خوفا من ناره و لا طمعا في جنته.

و اخرى: بأنه من ضروريات الإسلام، بل جميع الشرائع الإلهية.

و يرد: بأن وجوب معرفته حينئذ شرعي لا أن يكون عقليا، كسائر

ص: 152

الضروريات.

و ثالثة: بأن في ترك معرفته احتمال الضرر بنحو ما مرّ في معرفة اللّه تعالى، و الظاهر صحته، كما لا يخفى.

فتلخّص: أن دليل الوجوب العقلي لمعرفة المبدأ و المعاد، و النبي صلّى اللّه عليه و آله و الإمام عليه السّلام هو قاعدة دفع الضرر المحتمل، فتبصّر. هذا ما يتعلّق بأصل المعرفة.

و أما إثبات أصل وجود اللّه تعالى و نفي الشريك عنه، و توحيده الذاتي، و انحصار المعبود به تعالى، و إثبات وجوب وجود النبي صلّى اللّه عليه و آله و الإمام عليه السّلام، فمحل البحث عن ذلك في علم الحكمة و الكلام.

الاستدلال على وجوب المعرفة شرعا و ردّه

ثم إنه قد استدل على وجوب المعرفة..

تارة: بالإجماع.

و يرد: بعدم كونه إجماعا تعبّديا، بل هو حاصل مما ارتكز في الأذهان من قاعدة دفع الضرر.

و اخرى: بما ورد في الترغيب إلى المعرفة و العلم.

و يرد: بأنه أعم من الوجوب مع أن الوجوب المولوي متوقّف على معرفة المولى، فلو توقفت عليه لدار، و على فرض دفع الدور بالإجمال و التفصيل و تمامية الاستدلال، يكون إرشادا إلى ما حكم به العقل.

و ثالثة: بقوله تعالى: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ بناء على تفسير العبادة بالمعرفة.

و فيه: مضافا إلى ما ورد على سابقه أخيرا، أن المراد بالمعرفة - على فرض صحة التفسير بها - إما المعرفة بمعنى الغاية التكوينية، أو الغاية الجعلية، أو المعرفة الحاصلة من العبادة. و الأول مستلزم للكذب، و الثاني حاصل، كما ورد في الحديث عن الصادق عليه السّلام: «خلقهم ليأمرهم بالعبادة»، و قد تحقق ذلك، عبده أحد أو لا.

ص: 153

و بعبارة اخرى: غاية الخلق بيان التكاليف بواسطة الأنبياء و الرسل، و قد حصل و ثبت بأحسن وجه. و الأخير لا ربط له بالمقام، مع أنه لا بد و أن يحمل على المعرفة الكاملة الحاصلة من العبادة لا أصل ذات المعرفة، لأن العبادة متوقفة عليها، كما لا يخفى.

و رابعة: بآية النفر و هي قوله تعالى: وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ .

و فيه: أنها في مقام الترغيب إلى التفقه و كيفيته في الجملة، و أما ما يجب التفقه فيه فليست في مقام بيانه، و على فرضه تكون إرشادا إلى حكم العقل لا أن يكون دليلا مستقلا.

فوائد:
الاولى: المناط في المعرفة هو الاعتقاد و الجزم

الاولى: لا ريب في أن مجرد المعرفة أعم من الاعتقاد و الجزم، و الواجب في الاصول الأربعة - التوحيد، و المعاد، و النبوة، و الإمامة - الاعتقاد و الجزم دون مجرد المعرفة، لأن احتمال دفع الضرر لا يندفع بمجرد العلم من دون اعتقاد و جزم. و كما أن العلم في الأحكام الفرعية العملية طريق إلى العمل يكون في الاعتقاديات طريقا إلى عقد القلب و الجزم بما علم، فلا يكفي مجرد العلم و المعرفة.

الثانية: عدم اعتبار حصول المعرفة من الاستدلال الفلسفي

الثانية: لا يعتبر في المعرفة أن تكون حاصلة عن الاستدلالات الكلامية و الحكمية أو غيرهما من البراهين العلمية، بل يكفي حصول الاعتقاد و الجزم و لو من تلقين الآباء و الأجداد و نحوهم، للاتفاق على صحة إسلام العوام و غيرهم ممن حصل لهم الجزم بها مما ذكر، و لا يقدرون على شيء أزيد منه.

ص: 154

الثالثة: تعيين أحد مراتب الاعتقاد و الجزم، تعيين مراتب القصور

الثالثة: للاعتقاد و الجزم مراتب متفاوتة يكفي أدناها في تحقق الإسلام و الإيمان، لثبوت سيرة الأنبياء و الأوصياء العظام (عليهم الصلاة و السلام) على الاكتفاء بذلك بالنسبة إلى السواد، و لو لا ذلك لاختل النظام و تعطّلت الأحكام، فمن أقرّ بالشهادتين يترتب عليه جميع أحكام الإسلام، و من لم يقرّ بهما لا يترتب عليه أحكامه، سواء كان قاصرا أو مقصرا مطلقا.

و أما استحقاق العقوبة فمقتضى الأدلة ثبوته بالنسبة إلى المقصر الملتفت، بل و غيره أيضا مع الانتهاء إلى الاختيار. و أما بالنسبة إلى القاصر فاللّه تعالى أعلم بما يفعل به، و في بعض الأخبار أنه تتم عليه الحجة في البرزخ، و للقصور مراتب أيضا.

منها: ما إذا لم يكن للشخص استعداد فهم الامور.

و منها: ما إذا كان له ذلك و لكن لم يلتفت إلى اختلاف الأديان أصلا.

و منها: ما إذا التفت إليه و لكن قطعه بحسن طريقة الآباء و الأجداد، و عدم احتماله للخلاف يمنعه عن اتباع الحق. و لا ريب في وجود القسم الأول و الأخير في الجملة، و أما الثاني فالظاهر عدم تحققه خصوصا في هذه الأعصار، و بذلك يمكن أن يجمع بين الأقوال و الأخبار، فما يظهر منها عدم وجوده أي القسم الثاني.

الرابعة: أن ما يعتبر فيه الجزم لا يكفي فيه الظن

الرابعة: ما كان من الاعتقاديات يعتبر فيها تحصيل الجزم، فلا وجه لاعتبار الظن فيها مطلقا، لعدم كونه من الجزم أبدا، و كذا ما يعتبر فيه الاعتقاد بالواقع على ما هو عليه، لأن عقد القلب شيء غير الظن، فلا مورد لاعتبار الظن في الاعتقاديات مطلقا.

ص: 155

ص: 156

المقصد الثالث الاصول العملية

اشارة

ص: 157

ص: 158

و فيه فصول:

تمهيد في عدد الاصول العملية، الفرق بين الجهل في موردها و الجهل في مورد الأمارات

تقدم أن ما يصح الاعتذار به إما أن يكون عذرا بنفسه أو تكون العذرية لأجل الكشف الناقص فيه، و قد سبق القول فيهما.

و الكلام فعلا في ما يصح الاعتذار به من دون جهة كشف فيه أبدا، و هو الشك الذي يكون مجرى الاصول العملية.

و هي كثيرة أهمها و أعمها الأربعة المعروفة: البراءة، و التخيير، و الاحتياط، و الاستصحاب، و قد مرّ حصر مجاريها في أول الكتاب. و اعتبارها إنما هو في ظرف الجهل و استتار الواقع و فقد الحجة المعتبرة بحيث يكون ذلك من مقوماتها، فلا اعتبار لهذه الاصول معها مطلقا، و لذا ترد عليها كل حجة لزوال موضوعها بوجود الحجة. كما أن الجهل بالواقع يكون موردا لجعل الأمارات المعتبرة أيضا.

و الفرق بين الجهلين أنه في مورد الاصول قيد لاعتبارها، فلا أثر لها مع إمكان تحصيل الحجة على الواقع بخلافه في مورد الأمارات فإنه فيهما حكمة الجعل لا أن يكون علة المجعول حدوثا و بقاء، إذ رب أمارة تكون معتبرة حتى في صورة إمكان تحصيل العلم بالواقع، و لا يبعد أن تكون أصالتا الصحة و الطهارة أيضا كذلك.

كما أنه قد يكون الجهل بالواقع موردا لحكم واقعي آخر، كالجهر في محل الإخفات و بالعكس جهلا بالواقع فإنه مورد سقوط الإعادة أو القضاء واقعا، و له نظائر كثيرة في الفقه، كما لا يخفى على الخبير.

ص: 159

و لا بد من تقديم أمور:

الأول: إن الجهل إنما يكون مورد الاصول مطلقا بعد الفحص و اليأس عن الظفر بالدليل.

الأول: مورد الاصول مطلقا الجهل الثابت المستقر، و لا استقرار له إلا بعد الفحص عن الحجة و اليأس عنها، فلا اعتبار لها أصلا إلا بعد اليأس العقلائي عنها.

ثم إنه بعد اليأس عن الظفر بها لا فرق في منشأ حصول الجهل بالواقع بين كونه فقدان النص، أو إكماله، أو تعارضه بناء على السقوط حينئذ، فالمرجع في الجميع هو البراءة في الشبهات الحكمية - تحريمية كانت أو وجوبية، و غيرية كانت أو نفسية - فلا بد و أن يجعل الجميع بحثا واحدا و لا وجه لتكثير البحث و العناوين، و اختصاص بعض الأقسام بقول دون البعض الآخر لا يوجب تعدد المبحث، كما هو واضح. كما أنه لو قلنا في تعارض النصين بالتخيير يخرج عن مورد البراءة أصلا و لا ربط له بها حينئذ.

الثاني: كون البحث عن حكم الشبهات الموضوعية خارجا عن فن الاصول

الثاني: البحث عن حكم الشبهات الموضوعية مطلقا خارج عن فن الاصول، لأنه متكفل للبحث عن الكليات التي يصح الاعتذار بها في الشريعة، و الشبهات الموضوعية بمعزل عن ذلك، فالبحث عنها فيه مطلقا استطرادي، و الفقيه و العامي فيه على حدّ سواء.

الثالث: كون بحث الحظر و الترخيص أعم موردا عن بحث البراءة

الثالث: بحث الحظر و الترخيص أعم موردا عن بحث البراءة، إذ لا وجه للثاني إلا بعد ورود الشريعة و التفحّص في الأدلة، و يصح الأول حتى قبل التشريع أيضا، بأن يقال: إن مقتضى العبودية هو المنع عن كل شيء مطلقا إلا بعد إذن المعبود، أو يقال: إن مقتضى كثرة عناية المعبود هو الترخيص في كل شيء إلا مع التصريح بالمنع.

الرابع: المراد بالجهل و الشك

الرابع: المراد بالجهل و الشك في مورد الاصول عدم الحجة المعتبرة، فيعم موارد وجود الظنون غير المعتبرة أيضا.

ص: 160

الخامس: كون الاصول الأربعة المعروفة من الامور العقلائية

الخامس: الاصول الأربعة المعروفة من الارتكازيات العقلائية يكفي في اعتبارها شرعا عدم وصول الردع، و لا نحتاج إلى إقامة الدليل على اعتبارها من الكتاب و السنة و الإجماع و تطويل الكلام في ذلك، فإن العقلاء بفطرتهم بعد الفحص عن الحجة و اليأس عنها لا يرون أنفسهم ملزمين بشيء فعلا أو تركا، و هذا هو البراءة المصطلحة، و إنهم بفطرتهم يرون العلم الإجمالي منجزا في الجملة، و يعبر عن ذلك في الاصطلاح بالاشتغال و الاحتياط، و عند الدوران بين المحذورين لا يرون أنفسهم ملزمين بشيء منهما بالخصوص، و يعبر عنه بالتخيير، و مع اليقين السابق و الشك لا حقا تحكم فطرتهم باتباع اليقين السابق، و يعبر عنه بالاستصحاب، فيكفي عدم وصول الردع شرعا عن هذه المرتكزات في اعتبارها و لا نحتاج إلى التطويلات، و لا ريب في تقديم الاستصحاب لديهم على باقي الاصول الثلاثة، فراجع و تأمل.

السادس: أن النزاع بين الاصولي و الأخباري صغروي لا أن يكون كبرويا

السادس: النزاع بين الاصولي و الأخباري في الشبهات التحريمية الحكمية صغروي لا أن يكون كبرويا، لاتفاق الكل على قبح العقاب بلا بيان، لكون هذه القاعدة من الفطريات العقلائية، و لكن الأخباري يدعي أن أخبار الاحتياط تصلح للبيانية، و الاصولي يثبت عدم الصلاحية، فالنزاع صغروي كما لا يخفى.

السابع: تقسيم آخر للاصول

السابع: عن بعض مشايخنا قدس سرّهم تقسيم الاصول إلى مطلقة، و تنزيلية، و إحرازية. و الأول كالبراءة، و الثاني كالاستصحاب، و الأخير كأصالة الصحة - مثلا - و لا بأس بهذا الاصطلاح، و لكن ليست فيه ثمرة عملية، لأن الاصول - كما يأتي - بعضها مقدّم على بعض، سمّي بهذا الاصطلاح أو لا.

الثامن: كون مباحث الاصول العملية من علم الاصول 161 الفصل الأول - البراءة

الثامن: مباحث الاصول العملية من علم الاصول، لصحة وقوعها في طريق الاعتذار، كما تقدم في أول الكتاب.

ص: 161

الفصل الأول البراءة

أدلة البراءة في الشبهات الحكمية مطلقا:

اشارة

قد استدل عليها بالأدلة الأربعة - مع كونها من الفطريات العقلائية - لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، فيكون الكتاب و السنة إرشادا إليها، لا أن يكون ذلك كله أدلة مستقلة في مقابلها، كما هو واضح.

الاستدلال بالكتاب:استدل عليها من الكتاب بآيات..
منها: قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها وجه الاستدلال و المناقشة فيه
اشارة

منها: قوله تعالى في سورة الطلاق: وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ اللّهُ لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها .

بدعوى: أن المراد بالموصول التكليف، و بالإيتاء الوصول فيصير مفادها عدم التكليف بغير ما وصل، و هو عبارة اخرى عن البراءة.

الاستدلال و المناقشة فيه

و فيه: أن محتملات الموصول و الإيتاء ثلاثة:

الأول: ما مرّ.

الثاني: كون المراد بالموصول المال و بالإيتاء الإعطاء، كما يقتضيه صدر الآية و ذيلها، فتصير من أدلة التمكن في وجوب النفقات الواجبة،

ص: 162

و لا ربط لها بالمقام.

الثالث: كون المراد بالموصول العموم لكل شيء - حكما كان أو غيره - و بالإيتاء الإقدار، فتصير من أدلة اعتبار القدرة في مورد التكليف مطلقا. و مع تعدد محتملاتها لا ظهور لها في المقام لو لم نقل بظهورها في الثاني بقرينة الصدر.

و لكن الظاهر صحة إرادة المعنى الثالث، فيكون مفادها عدم التكليف بشيء أبدا حكما أو غيره إلا بما أقدره اللّه عليه، و إعطاء المال و بيان التكليف نحو من الإقدار عرفا، فيكون انطباقها على الصدر من باب تطبيق الكلي على بعض الأفراد، كما تكون كذلك في قول مولانا الصادق عليه السّلام حين سئل عن تكليف الناس بالمعرفة قال: «على اللّه البيان لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها »، فيتم الاستدلال بها للمقام أيضا، لأنه من أحد أفراد المعنى العام.

و لكن يمكن المناقشة بأن مثل هذه الآيات في مقام بيان أنه لا تكليف قبل بعث الرسل و إنزال الكتب، و تكون ساكتة عن حكم ما إذا تمت الشريعة و جهل حكم من أحكامها، فلا بد فيه من الرجوع إلى دليل قبح العقاب بلا بيان، و على فرض الدلالة تكون إرشادا إلى القاعدة، كما مرّ.

و لكن الظاهر سقوط المناقشة من أصلها، لظهور العموم في قبل البعثة و بعدها.

و منها: قوله تعالى: وَ ما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً

بدعوى: أن مفادها ملازمة العذاب لتمامية الحجية و تحقق المخالفة، و مع عدم تماميتها لا موضوع للعذاب، كما أنه مع تماميتها و عدم المخالفة لا موضوع له أيضا، فتكون الآية عبارة اخرى عما ارتكز في العقول من قبح العقاب بلا بيان، فيصح الاستدلال بها للمقام.

و اشكل عليه.. أولا: بأن الآية الكريمة في مقام الإخبار عن جريان عادة

ص: 163

اللّه جلّ جلاله في القرون الخالية و الأمم الماضية بالنسبة إلى التعذيبات الدنيوية، و ليست في مقام بيان نفي العقاب الاخروي الذي هو محل البحث في المقام.

و فيه: أنها مطلقة تشملهما معا، و هو المناسب لرأفته تعالى على عباده لا سيما بالنسبة إلى أمة خاتم أنبيائه.

و ثانيا: بأن المنساق منها عرفا نفي فعلية العذاب، لا نفي أصل الاستحقاق، و الثاني هو المفيد للمقام دون الأول.

و فيه: أن دعوى الملازمة العرفية بين نفي الفعلية و نفي الاستحقاق قريبة جدا، خصوصا بالنسبة إلى عنايات اللّه غير المتناهية، سيما قبل تمامية البيان و الحجة، لأن الملازمة حينئذ متحققة، و خروج الظهار عن هذه الملازمة - على فرض التسليم - إنما هو لدليل خاص لا يضر بدعوى الملازمة ما لم يدل دليل على الخلاف، و قد ورد الدليل على عدم الفعلية في مورد الشفاعة و مورد تكفير السيئات بالحسنات و بقي الباقي، مع أن هذه الموارد خارجة تخصصا عن المقام لتمامية الحجة فيها على الحرمة، فلا وجه للقياس، فتتم دلالة الآية على البراءة، و مع ذلك لا تكون دليلا تعبّديا، بل تكون إرشادا إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان كما لا يخفى.

استدلال الأخباريين على عدم الملازمة بين حكم العقل و الشرع و الجواب عنه

ثم إنه قد استدل بها الأخباريون على عدم الملازمة بين حكم العقل و الشرع، إذ لا ريب في ثبوت حكم العقل بحسن الإحسان و قبح الظلم قبل بعث الرسل، فإن تمت الملازمة بين الحكمين يلزم ثبوت العقاب قبل البعثة أيضا، لقاعدة الملازمة، مع أن الآية تنفي العقاب فتبطل الملازمة بالآية.

و فيه: أن مورد الملازمة - كما مرّ - ما تطابقت عليه آراء العقلاء كافة، كحسن الإحسان، و قبح الظلم. و لا دليل على عدم العقاب في الظلم قبل البعثة مع استقلال عقل مرتكبه بقبح فعله، و الآية في مقام نفي العقاب قبل بعث الرسل كما ينبغي أن يؤخذ منهم، لا نفي العقاب قبل البعثة مطلقا حتى في ما استقلت

ص: 164

آراء العقلاء كافة بقبحه.

و قد يستدل بآيات اخرى على البراءة قاصرة الدلالة، و على فرض تماميتها تكون إرشادا إلى حكم العقل من قبح العقاب بلا بيان، و قد ذكرها شيخنا الأنصاري قدّس سرّه و بين قصور دلالتها بما لا مزيد عليه، فراجع فلا وجه للتعرض لها.

الاستدلال بالسنة على البراءة:
منها: حديث الرفع، المراد من الرفع و الإشكال عليه و الجواب عنه
اشارة

منها: ما استفاض منه صلّى اللّه عليه و آله بين الفريقين: «رفع عن أمتي تسعة: الخطأ، و النسيان، و ما استكرهوا عليه، و ما لا يعلمون، و ما لا يطيقون، و ما اضطروا إليه، و الطيرة، و الحسد، و الوسوسة في الخلق»، و استفاضة نقله تغني عن البحث في سنده، مع أن الصدوق نقله في الخصال بسند صحيح، و أن متنه يشهد بصحة سنده.

و المنساق من الرفع عرفا و لغة خلاف الوضع، كقوله صلّى اللّه عليه و آله: «رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم - الحديث -». فالمعنى أنه لم يوضع الإلزام في هذه الموارد، سواء كان ذلك لعدم المقتضي له أصلا، أو لوجود المانع، و تجوز إرادة الدفع من الرفع أيضا لإطلاق كل منهما على الآخر في المحاورات، و على أي تقدير يدل على أن الإلزام المجهول غير معاقب عليه فيثبت المطلوب.

و ما يقال: أنه مناف لما اشتهر من اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل؛ و عدم الاختصاص بالأول.

باطل: لأن الاشتراك في ما إذا ثبت حكم بالدليل لا في ما إذا لم يكن على ثبوته دليل، فلا موضوع لقاعدة الاشتراك هنا.

ثم إن البحث عن حديث الرفع يقع ضمن امور:
اشارة

ص: 165

الأول: مقتضى عموم الحديث و إطلاقه القول بأنه لا وجه لرفع المؤاخذة و دفعه

الأول: حيث أن الحديث ورد في مقام القاعدة الكلية و الامتنان على الامة، فمقتضى عمومه و إطلاقه تعميم متعلّق الرفع لكل ما أمكن رفعه في الشريعة و كان فيه التسهيل و الامتنان على الامة، سواء كان من التكليفيات. نفسيا كان التكليف أو غيريا، حكميا كانت الشبهة أو موضوعية.

كما تعمّ الوضعيات أيضا تأسيسية كانت أو إمضائية، أو كان من تنزيل الموجود منزلة المعدوم، أو العكس. فيرفع الإلزام، و الصحة، و الجزئية، و الشرطية، و السببية و المسببية، و القضاء و الإعادة، و كل أثر شرعي إلا ما خرج بالدليل. و اختصاص الإكراه و الاضطرار بالموضوعات لقرينة خارجية لا يوجب الاختصاص في البقية، كما هو واضح.

و ليس المراد من الرفع التكويني منه حتى ينافي التحقق الخارجي، بل المراد التشريعي التنزيلي، كما في قوله عليه السّلام: «لا شك في النافلة، و لا شك لكثير الشك». فيكون بلحاظ الآثار الشرعية، أو بلحاظ العقاب الذي هو أهم الآثار، فيكون رفع غيره بالأولى، أو بلحاظ التكليف فيتضمن رفع الجميع قهرا.

و هذه الاحتمالات و إن كانت مختلفة اعتبارا، لكنها متلازمة عرفا، كما لا يخفى فلا وجه للتفصيل. و يجري الحديث في جميع أبواب الفقه و تمام مسائله، كما جرت سيرة الفقهاء قدس سرّهم على التمسك به كذلك.

و ما يقال: أنه لا وجه لرفع المؤاخذة، لأنها حكم العقل باستحقاق العقوبة، و هي عقلية لا شرعية مع كونها مترتبة على المخالفة العمدية للتكليف المعلوم و لا موضوع لها في المقام قطعا.

مدفوع.. أولا: بكفاية الجعل الإمضائي في تعلّق الرفع به و هو متحقق.

الثاني: كيفية ترتب الأثر الشرعي على الشيء و ثانيا: بأن المؤاخذة معلولة للإرادة التشريعية، فما اشتهر من أنها من الامور العقلية لا وجه له.

نعم أصل استحقاق العقاب لدى المخالفة حكم عقلي و هو غير

ص: 166

المؤاخذة، كما لا يخفى.

و ثالثا: المرفوع هو إيجاب الاحتياط الذي لا ريب في كونه تحت اختيار الشارع وضعا و رفعا، و لا يلزم من ذلك كون العقاب على نفس الاحتياط من حيث هو، و هو باطل، لأن الاحتياط مطلقا ملحوظ طريقا إلى الواقع، فثواب فعله ثواب الواقع، و العقاب على تركه عقاب على الواقع.

الثاني: الأثر الشرعي المترتب على الشيء.

تارة: يترتب عليه لا بشرط عن صفتي العلم و الجهل.

و اخرى: مترتب عليه بقيد العلم به.

و ثالثة: بقيد الجهل به.

و مورد التمسك بالحديث خصوص القسم الأول فقط، لأن في الثاني ينتفي الأثر بعروض الجهل لانتفاء الموضوع، لفرض أخذ العلم فيه، و في الثالث لا وجه لرفع الأثر لفرض أن موضوعه الجهل، و قد تحقق فكيف يرفع مع تحقق موضوعه، و أمثلة الكل كثيرة في الفقه، كما لا يخفى.

الثالث: تقدم حديث الرفع على الأحكام الواقعية، الإشكال بأنه يستلزم النسخ أو التصويب أو الصرف و الجواب عنه

الثالث: حديث الرفع كسائر القواعد التسهيلية الامتنانية في طول الأحكام الواقعية و مقدمة عليها عند الكل، بمعنى كونها مانعة عن وصولها إلى مرتبة الفعلية لمصالح شتى و أغراض صحيحة عقلائية لا تحصى؛ لأن الواقعيات اقتضائيات محضة و وصولها إلى مرتبة الفعلية يحتاج إلى وجود الشرائط و فقد الموانع، فالأدلة الامتنانية التسهيلية، بل الثانوية مطلقا مبينات إما لفقد شرط عن فعلية الأحكام الواقعية أو وجود مانع عنها، فلا محالة تتقدم عليها، بلا فرق بين أن يسمى هذا التقدم تخصيصا أو حكومة أو ورودا، إذ لا ثمرة عملية بينهما، بل و لا علمية معتنى بها، كما يأتي إن شاء اللّه تعالى.

و لا يلزم من هذا التقدم النسخ، أو التصويب، أو الصرف. لأن الأول عبارة عن زوال مدة التشريع، و مثل حديث الرفع يبين قيد الحكم المشروع في مرتبة

ص: 167

الفعلية لا زوال مدته، فلا ربط له بالنسخ.

و الثاني عبارة عن حدوث الحكم و المصلحة بتمام مراتبه بالعلم به، و هو غلط في المقام لفرض تحقق الواقع اقتضاء و مصلحة، و مثل الجهل يمنع الفعلية و سقوط آثارها من المؤاخذة و غيرها.

و الثالث عبارة عن صرف الواقع و تغييره بواسطة مثل حديث الرفع إلى خصوص صورة العلم مثلا، و هو باطل أيضا إن اريد به الصرف حتى بالمرتبة الاقتضائية، و إن اريد الصرف في المرتبة الفعلية فلا مشاحة في الاصطلاح، و تقدم الأدلة التسهيلية الامتنانية على القوانين الأولية من المرتكزات العقلائية في قوانينهم المجعولة في كل مذهب و ملة، فلاحظ و تأمل و ليس ذلك مختصا بالشريعة الإسلامية فضلا عن فن الاصول.

الرابع: الحديث يرفع كل ما يمكن أن تناله يد الجعل: الإشكال عليه و الجواب عنه

الرابع: مما تناله يد الجعل - و لو إمضاء - السببية و المسببية، و الشرطية، و الجزئية، و المانعية، و القاطعية و نحوها، فيصح في المعاملات الإكراهية رفع السبب، كما يصح رفع المسبب، بل يصح رفعهما معا أيضا، و في موارد نسيان الجزء أو الشرط أو المانع أو القاطع يصح رفع نفس هذه العناوين أولا و بالذات، كما يصح رفع وجوب التدارك من الإعادة أو القضاء مما يكون من الامور الشرعية، لفرض أن الكل مما تناله يد الجعل و لو إمضاء.

نعم، مع إمكان جريان الأصل في رفع الموضوع لا وجه لجريانه في رفع الحكم، كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى، كما أنه مع كثرة الأدلة الثانوية الواردة في نسيان الجزء و الشرط خصوصا في الصلاة لا نحتاج إلى حديث الرفع.

إن قلت: أن الحديث ورد مورد التسهيل و الامتنان و التكليف في مورد الجهل و الخطأ و النسيان قبيح عند العقلاء فكيف يثبت تسهيل و امتنان في ما يكون قبيحا عندهم، و لو لا حكم الشرع بالرفع أيضا فالتكليف مرفوع في هذه الموارد عقلا، فلا تصل النوبة إلى الرفع الشرعي أصلا حتى يتحقق فيه التسهيل

ص: 168

و الامتنان. و كذا الكلام في «ما لا يطيقون» بل و يشكل من ذلك في قوله تعالى:

رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ لأنه بعد أن كان التكليف بما لا يطاق قبيحا عقلا لا وجه لهذا الدعاء.

قلت: ما هو قبيح في الموارد الثلاثة هو التكليف بقيد الجهل و الخطأ و النسيان. و أما وجوب الاحتياط و التحفظ حتى لا تتحقق هذه الامور مهما أمكن، أو وجوب التدارك بعد زوالها فلا قبح فيه أصلا، فرفع ذلك يكون لتسهيل الشرع و امتنانه.

و أما الآية الكريمة فلما لا يطاق مراتب متفاوتة.

الأولى: ما لا يطاق عقلا.

الثانية: ما يكون خلاف المتعارف.

الثالثة: ما يكون خلاف السهولة، كوجوب الصوم في كل سنة شهرين أو أربعين يوما - مثلا - لا يكون مما لا يطاق عقلا و لا عرفا، و لكنه خلاف السهولة، و هكذا بالنسبة إلى جميع التكاليف، فالدعاء ورد بالنسبة إلى القسم الأخير فقط.

الخامس: توجيه ما ذكر في الحديث: من الطيرة، و الحسد، و التفكر في الوسوسة في الخلق:

الخامس: قد ذكر في الحديث: الطيرة، و الحسد، و التفكر في الوسوسة في الخلق. و لها مراتب متفاوتة جدا.

منها: ما تترتب عليها الآثار الخارجية المحرّمة، و لا ريب في حرمتها.

و منها: ما تكون ثابتة في النفس و توجب اضطرابها دائما من دون أن تترتب عليها الآثار المحرمة، و لا ريب في أنها من الصفات الذميمة النفسانية، و يمكن أن يكون معنى رفعها رفع حرمتها، أو رفع مطلق الآثار عنها ببركة الإسلام و تفضل نبوة خير الأنام.

و منها: ما تكون من مجرد الخطور النفسي مع عدم بقاء له في النفس أصلا، فكيف بالأثر الخارجي، و هذه المراتب مختلفة بالنسبة إلى النفوس، و لا يبعد أن يكون قول الصادق عليه السّلام: «ثلاثة لا يخلو منها نبي و ما دونه: الطيرة،

ص: 169

و الحسد، و التفكر في الوسوسة في الخلق - الحديث -» إشارة إلى القسم الأخير بالنسبة إلى النبي، فبمجرد أن يخطر منها شيء على قلبه الأقدس يتداركه اللّه تعالى بتأييد غيبي، كما في قوله تعالى: وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً و هذا لا ينافي العصمة في شيء أبدا، و لكنه مع ذلك تجاسر بالنسبة إلى مقاماتهم الشريفة خصوصا خاتم الأنبياء و أوصيائه عليهم السّلام، فلا بد و أن يراد بالنسبة إلى النبي من الوصف بحال المتعلّق لا الذات، كما ذكره الصدوق قدّس سرّه من أنه يتطير بالنبي، لقوله تعالى: إِنّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ ، و يحسد عليه، لقوله تعالى:

أَمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ . و يكون من يفكر في الوسوسة في الخلق في أطرافه من المنافقين، لقوله تعالى: إِنَّهُ فَكَّرَ وَ قَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ . فراجع و تأمل.

السادس: كلام في مثبتات الاصول العملية

السادس: المعروف عدم اعتبار مثبتات الاصول العملية، فلو كان مجرى البراءة أولا و بالذات أمرا عرفيا أو عقليا، و يترتب عليه أثر شرعي لا اعتبار بها، كما أن المعروف اعتبار مثبتات الأمارات؛ فإنها إن جرت في مورد الأمر العرفي أو العقلي و يترتب عليه أثر شرعي، تعتبر و تكون حجة، و حينئذ ففي كل مورد يكون جريان الأصل مثبتا، لنا أن نتمسك بنفس حديث الرفع الذي هو من الأمارات المعتبرة و يحكم بالأثر الشرعي و لو كان بواسطة أمر عقلي أو عرفي، و يأتي إن شاء اللّه تعالى في الاستصحاب ما ينفع المقام. هذا بعض ما يتعلق بحديث الرفع.

و منها: مرسل الصدوق، ذكر الاحتمالات فيه و الجواب عنها

و منها: مرسل الصدوق: «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي». و المناقشة فيه بالإرسال مع اعتماد الفقهاء عليه و اعتضاده بروايات مختلفة في أبواب متفرقة، و سهولة الشريعة المقدسة مما لا وجه لها.

نعم يحتمل فيه وجوه:

الأول: أن يراد بالشيء ما يكون بعنوانه الأوّلي من حيث هو، و بالورود

ص: 170

أصل التشريع، فيكون دليلا لبحث الحظر و الإباحة، لا البراءة لمجهول الحكم بعد تمامية التشريع من كل جهة إلا أن يشملها بالملازمة العرفية، و فيه تأمل.

الثاني: أن يراد به مجهول الحكم، و بالورود مطلق التشريع، فتكون أدلة الاحتياط في الشبهة التحريمية الحكمية حينئذ مقدمة عليه، لكفايتها في تشريع الاحتياط، فيصير المرسل بناء عليه من أدلة الأخباريين.

الثالث: أن يراد بالشيء مطلق مجهول الحكم، و بالورود الحكم الثابت من كل جهة الغير القابل للمناقشة العرفية الصحيحة أصلا، فيصير دليلا للبراءة حينئذ لما يأتي من المناقشة في أدلة الاحتياط، و كونه ظاهرا في خصوص الأخير مشكل.

و منها: حديث الحجب. المناقشة في الاستدلال به

و منها: قوله عليه السّلام: «ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم».

و فيه: أن ما يتعلّمه الناس..

تارة: يكون مما رغب فيه الشرع.

و اخرى: مما لم يرغب فيه و لم ينه عنه.

و ثالثة: يكون مما نهى عنه لكون مفسدة تعلمه أكثر من مصلحته لقصور أفهام الناس عن الإحاطة به على ما هو عليه، و المنساق من الحديث هو الأخير فلا ربط له بالمقام، فيكون مثل الأحاديث الناهية عن عدم الغور في القضاء و القدر و نحوهما من أسرار التكوين.

و منها: صحيح ابن الحجاج. المناقشة فيه. ردّ ما يستشكل عليه

و منها: صحيح ابن الحجاج عن الكاظم عليه السّلام: «عن الرجل يتزوج المرأة في عدتها بجهالة، أ هي لا تحل له أبدا؟ فقال عليه السّلام: أما إذا كان بجهالة فليتزوجها بعد ما تنقضي عدتها، فقد يعذر الناس بما هو أعظم من ذلك. قلت: بأي الجهالتين أعذر، بجهالة أن ذلك محرم عليه أم بجهالة أنها في العدة؟ قال عليه السّلام:

إحدى الجهالتين أهون من الأخرى، الجهالة بأن اللّه تعالى حرم عليه ذلك، و ذلك لأنه لا يقدر معه على الاحتياط. قلت: فهو في الأخرى معذور. قال عليه السّلام:

ص: 171

نعم إذا انقضت عدتها فهو معذور في أن يتزوجها».

و فيه: أنه قضية في واقعة خاصة يعترف بها الكل من الأخباري و الاصولى، كسائر الموارد الخاصة التي ورد فيها الدليل الخاص على عذرية الجهل، كالجهر في موضع الإخفات و بالعكس، و التمام في مورد القصر جهلا، مع أن في مورد الصحيح - مقتضى أصالة بقاء العدة إن كانت الشبهة موضوعية، و أصالة عدم ترتب الأثر على العقد إن كانت حكمية - عدم جواز الاقتحام بخلاف المقام الذي يعتبر فيه أن لا يكون أصل موضوعي في البين أصلا.

نعم قوله عليه السّلام: «فقد يعذر الناس بما هو أعظم من ذلك» لا يخلو عن تأييد للمقام.

ثم إنه قد استشكل عليه: بأنه إن كان المراد بالجهالة في الحكم أو الموضوع الغفلة و عدم الالتفات أصلا، فلا يقدر على الاحتياط حينئذ فيهما معا، فلا وجه للتفرقة بينهما.

و إن كان المراد عدم العلم مع الالتفات إليه فيقدر على الاحتياط فيهما معا، فلا وجه للتفرقة على أي تقدير. و كون المراد بالجهالة في الحكم الغفلة، و في الموضوع عدم العلم مع الالتفات إليه خلاف الظاهر.

و اجيب: باختيار القسم الأخير، و ذلك لأن عدم العلم مع الالتفات إليه بالنسبة إلى نفس الحكم في هذا الأمر العام البلوى مما لا ينبغي بالنسبة إلى المسلم. و أما الغفلة عنه فلا بأس به و لا منقصة فيه على أحد، فكأنه عليه السّلام أشار إلى أن المسلم في هذه الامور الابتلائية لا بد و أن يكون عالما بها، و إن حصل منه جهل فهو غفلة لا أن يكون من عدم العلم، و يمكن استعمال الجهالة فيه في المعنى الأعم من الغفلة و غيره، فيكون إرادة خصوص الغفلة بالنسبة إلى الحكم من باب تعدد الدال و المدلول.

و منها: قوله عليه السّلام: «كلّ شيء فيه حلال و حرام فهو حلال حتى تعرف

ص: 172

الحرام منه بعينه». أو «كل شيء لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه».

و فيه: أن المنساق منهما عرفا الشبهات الموضوعية و استفادة الحكمية منها تكلف، كما لا يخفى. و مع الشك يكون من التمسك بالعام في الشبهة الموضوعية. مع أن في غيرهما غنى و كفاية.

الاستدلال بالإجماع، و دليل العقل، و الأصل على البراءة

و استدل بالإجماع أيضا على البراءة في الشبهة التحريمية الحكمية.

و يرد: بأنه غير متحقق، لكثرة الخلاف و المخالف، و على فرض تحققه فهو معلوم المدرك.

و أما دليل العقل فلا ريب في استقرار بناء العقلاء في كل عصر و زمان على الحكم بقبح العقاب بلا بيان حتى عدّ ذلك من القواعد العقلائية، و الأدلة السابقة بعد تماميتها تكون إرشادا إليها، و بعد عدم تمامية ما يأتي من أدلة الاحتياط تتم القاعدة من كل جهة.

ثم إنه قد يستدل بأصالة البراءة قبل التكليف أو قبل البعثة و لا بأس به.

و الإشكال عليه بأنه من التطويل بلا طائل لكفاية مجرد الشك في البراءة بلا احتياج إلى لحاظ الحالة السابقة.

مدفوع: بالفرق بين مجرد عدم البيان، و البيان على العدم، و الاستصحاب من الثاني فيكون آكد لا محالة.

ص: 173

الفصل الثاني ما يتعلق بالاحتياط

أدلة القول بوجوب الاحتياط شرعا في الشبهات الحكمية التحريمية و الجواب عنها:

استدل عليه بالأدلة الثلاثة.
فمن الكتاب:

بما دل على النهي عن القول بغير العلم كقوله تعالى: وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ و النهي عن الإلقاء في التهلكة مثل قوله تعالى: وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ، و بما دلّ على الأمر بالتقوى نصا أو ظاهرا، أو بالفحوى التي تقرب من مائتي آية.

و الجواب عن الكل: إن القول بالبراءة مستندا إلى الحجة المعتبرة، خصوصا القاعدة العقلائية المتفق عليها بين الكل، و هي قبح العقاب بلا بيان ليس قولا بغير العلم و لا من الإلقاء في التهلكة و لا مخالفا للتقوى، كما هو أوضح من أن يخفى لأن التقوى هي إتيان الواجبات و ترك المحرمات، فلا بد أولا من إثباتهما ثم الامتثال حتى تتحقق التقوى، و إثبات أصل الحكم بأدلة التقوى من الدور الواضح. و كذا آية التهلكة لا بد فيها أولا من إثبات التهلكة ثم النهي عن الإلقاء فيها و إثباتها بنفس النهي دور باطل.

و من السنة:
اشارة

بما يظهر منه لزوم الاحتياط و التوقف في الشبهات و أنه خير من الاقتحام في المهلكة، الوارد بألسنة مختلفة، راجع الباب الثاني عشر من كتاب قضاء الوسائل فقد جمع فيه واحدا و سبعين حديثا. مع كون بعضها غير

ص: 174

مربوط بالمقام إلا بالمناسبات البعيدة، و لو اريد أن يجمع مثلها لأمكن أن يجمع أكثر منها، كما لا يخفى على الخبير، و فيها الأمر بالاحتياط بطرق شتى، كما هو ظاهر للبصير. و لكن محتملات وجوبه أربعة:

الأول: الوجوب النفسي المولوي، كوجوب الصلاة و الزكاة و نحوهما.

و فيه: أنه خلاف المنساق من الاحتياط لدى المتشرعة، بل أهل المحاورة، فإن المتبادر منه عندهم الطريقية المحضة، كما في جميع الطرق و الأمارات، و الاجتهاد و التقليد لا النفسية من كل حيثية و جهة، مع أن في تلك الروايات قرائن تدل على خلافه. و هي واضحة بأدنى مراجعة، كقوله: «و من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيها».

الثاني: الغيري المقدمي.

و فيه.. أولا: أنه يتوقف على ثبوت وجوب ذي المقدمة، و هو منحصر بأطراف العلم الإجمالي، أو الشبهات البدوية قبل الفحص، و المقام ليس منهما في شيء.

و ثانيا: بما مرّ من أن وجوب المقدمة عقلي و ليس بشرعي، فيكون حينئذ إرشادا إلى حكم العقل بوجوبه في الموردين، فيصير أجنبيا عما نحن فيه، و لكن ذكرنا ان وجوب المقدمة شرعي فراجع.

الثالث: النفسي الطريقي المحض.

و يرد: بما مرّ من عدم ملاك النفسية فيه بوجه، فكيف يحتمل النفسية في مثل قوله عليه السّلام: «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة»، و هل يصح التمسك به في ما ليس فيه الهلكة أبدا لقيام الدليل العقلي على قبحها.

الرابع: الإرشاد المحض إلى حسن الاحتياط عقلا، الذي قد يصل إلى حدّ الوجوب، كما في أطراف العلم الإجمالي و ما قبل الفحص في الشبهات البدوية، و قد يبقى على مجرد حسنه فقط، كما في المقام، و هذا الوجه هو المنساق عرفا

ص: 175

مما ورد في الاحتياط عن الشارع.

المناقشة في الاستدلال بصحيح ابن الحجاج الوارد في الصيد

و بالجملة: الاحتياط بحسب المرتكزات طريقي محض و لا يزيد في الطريقية على الأمارات المعتبرة، فكما أنها منجزة في ظرف تنجز الواقع يكون الاحتياط أيضا كذلك، و هو منحصر بأطراف العلم الإجمالي و ما قبل الفحص، و في غيرهما لا تنجز للواقع، فلا وجه لتنجز الاحتياط الممحض في الطريقية، و جميع ما ورد في الاحتياط و التوقف في الشبهات إنما هو في مقام بيان كثرة الاهتمام بالواجبات و المحرمات، و أنهما بمثابة من الأهمية ينبغي أن يحتاط في مشتبه الوجوب فعلا و مشتبه الحرمة تركا، و ليس هذا إلا معنى حسن الاحتياط عقلا.

هذا مع أن بعض ما استدلوا به لا ربط له بالمقام، كصحيح ابن الحجاج الوارد في الصيد: «إذا أصبتم بمثل هذا و لم تدروا فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا عنه و تعلموا». فإنه في الشبهات البدوية قبل الفحص التي اتفق الكل على عدم صحة البراءة فيها. و كموثق ابن وضاح الوارد في دخول وقت المغرب: «أرى لك أن تأخذ بالحائطة لدينك». فإنه إن كان في الشبهة الموضوعية فمقتضى الاستصحاب عدم دخول وقت المغرب و في مثله لا يقول أحد بالبراءة، و إن كان في الشبهة الحكمية فاتفق الكل على دخوله بذهاب الحمرة، فلا وجه للاحتياط على كلا التقديرين.

إن قلت: ما وجه أمره عليه السّلام بالاحتياط، و لم لا يبين الحكم الواقعي مع أنه عليه السّلام عالم به، و ليس من شأنه عليه السّلام الأمر بالاحتياط الذي يستلزم الجهل بالواقع و المعصوم منزه عنه؟

قلت: لعله لعدم قدرته عليه السّلام على إظهار الواقع لقصور فهم المخاطب، أو لجهة اخرى، فليس منشأ الأمر بالاحتياط منحصرا في الجهل بالواقع، بل له مناشئ مختلفة كما لا يخفى.

ص: 176

الدليل العقلي على وجوب الاحتياط:
اشارة

و ذلك من وجوه:

الأول: أن المقام من صغريات الشك في الفراغ، و مقتضى حكم العقل فيه الاشتغال للعلم الإجمالي بوجود المحرمات في الشريعة فيحكم العقل بالاحتياط في تمام الشبهات تحصيلا للعلم بالفراغ، فإدخال المقام في الشبهات في أصل التكليف مغالطة.

و فيه.. أولا: النقض بالشبهات الوجوبية التي اتفق الأخباري - كالاصولي - على البراءة فيها مع جريان هذا الدليل في الوجوبية و التحريمية معا من غير فرق بينهما.

و ثانيا: بأن العلم الإجمالي ليس مطلقا من كل جهة، بل الحق في بيانه أن يقال: إنا نعلم إجمالا بوجود المحرمات في ما بأيدينا من الطرق و الاصول المعتبرة بحيث لو تفحصنا لظفرنا بها، و قد تفحصنا و ظفرنا بها - و الحمد للّه - فلم يبق علم إجمالي منجز في البين أصلا.

و ثالثا: أنه لو كان مطلقا فلنا علمان إجماليان..

أحدهما: بالمحرمات.

و ثانيهما: بطرق معتبرة عليها.

و هذان العلمان متقارنان حدوثا، و في مثله لا تنجز للعلم الإجمالي بالمحرمات في غير موارد الطرق و الأمارات، فإن قيام الحجة المعتبرة في مورد العلم الإجمالي..

تارة: مقدم على حدوثه.

و اخرى: مقارن معه.

و ثالثة: متأخر عنه بعنوان الكشف عنه، أو بعنوان اكتفاء الشارع بامتثال

ص: 177

موارد الحجة عن امتثال جميع أطراف العلم الإجمالي. و في جميع هذه الصور لا أثر للعلم الإجمالي في غير موارد الحجة عند العقلاء، سواء سمي هذا الانحلال حقيقيا أو حكميا، إذ لا ثمرة عملية بين التعبيرين، بل و لا علمية معتدا بها، كما لا يخفى على أهله.

الثاني: أن الأصل في الأفعال غير الضرورية التي تقوّم بها نظام العباد و البلاد هو الحظر، لأنه تصرف في سلطان المولى بدون إذنه و هو قبيح عقلا، فلا يجوز الاقتحام فيها إلا مع الترخيص الشرعي.

و يرد.. أولا: بأن هذه المسألة خلافية غير مسلّمة، فلا وجه لجعلها دليلا للمقام.

و ثانيا: بأنها بحث عن حكم الأشياء قبل البعثة و ظهور الشريعة، و ما نحن فيه بحث عن حكمها بعد تكميل الشريعة و عدم ظهور دليل لنا على حكم من الأحكام، فلا ربط لإحداهما بالاخرى.

الثالث: قاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل، فإن اقتحام محتمل الحرمة مظنة للضرر، و العقل حينئذ يحكم بعدم جوازه دفعا للضرر.

و يرد.. أولا: بالنقض بالشبهات الوجوبية.

و ثانيا: بأنه إن اريد بالضرر العقاب فلا عقاب في البين، لقاعدة قبح العقاب بلا بيان. و إن اريد به الضرر الدنيوي فهو ممنوع صغرى و كبرى، كما مرّ في بعض أدلة حجية مطلق الظن.

فتلخص: أن أدلة القول بوجوب الاحتياط في ما لا نص فيه من الشبهات البدوية التكليفية، قاصرة عن إيجابه فيها تحريمية كانت أو وجوبية.

الكلام في مورد إجمال النص أو تعارضه

و كذا الكلام بعينه في مورد إجمال النص أو تعارضه، لعدم تمامية البيان الواصل إلى المكلف فيهما أيضا، فتجري فيهما أدلة البراءة، كما تجري في ما لا نص فيه، إذ لا اعتبار بالمجمل و لا بما هو معارض بمثله لدى العرف و العقلاء،

ص: 178

فلا وجه لتوهم البيان في الأول، كما لا وجه لتوهم وجوب الاحتياط في الثاني بمرفوعة زرارة الدالة على الاحتياط في تعارض النصين، لقصورها عن إثبات إيجاب الاحتياط فيه، كما مرّ في مباحث التعارض، هذا مع اتفاق الأخباريين إلى الرجوع إلى البراءة في الشبهات الوجوبية أيضا كالاصوليين.

ثم إنه لا فرق في الحرمة المشكوك فيها بين كونها نفسية أو غيرية، كما لا فرق في الوجوب المشكوك فيه بين كونه نفسيا أو غيريا، عينيا أو كفائيا، لشمول أدلة البراءة لجميع ذلك، كما هو واضح. هذا كله في الشبهة الحكمية تحريمية كانت أو وجوبية بجميع الأقسام المتصورة فيهما.

الكلام في الشبهات الموضوعية

و أما الموضوعية فاتفق العلماء من اصولييهم و أخبارييهم على البراءة فيها، و يدل عليها مضافا إلى الإجماع المحقق، جميع ما مرّ من أدلة البراءة من الكتاب، و السنة، و العقل، لأن المراد بالبيان الذي لا تجري معه قاعدة قبح العقاب بلا بيان، و لا أدلة البراءة، هو تبين الحكم بقيوده المعتبرة فيه لا مجرد صدوره من الشارع بأي وجه اتفق، و لا ريب أن تبين الموضوع من حدود الحكم و قيوده، و مع عدمه لا تتم الحجة و البيان، كما هو أوضح من أن يخفى.

و ينبغي التنبيه على امور:
الأول: تقدم الأمارات على الاصول الموضوعية و الأخيرة على الاصول الحكمية
اشارة

الأول: قد تسالم العلماء، بل ارتكز في النفوس أن الأمارات مقدمة على الاصول الموضوعية التي هي عبارة عما يرتفع بها موضوع أصل آخر و هو الشك، و هي مقدمة على الاصول الحكمية، فلا يجري الأصل الموضوعي مع وجود الأمارة، كما لا يجري الأصل الحكمي مع وجود الأصل الموضوعي، و هذا من الامور المسلّمة الجارية في تمام أبواب الفقه، فلا تجري أصالة البراءة مطلقا مع وجود أصل موضوعي في موردها، كأصالة عدم التذكية، و أصالة احترام النفس و العرض و المال، و أصالة الحرية و نحوها من الاصول المعتبرة

ص: 179

التي تجري في بعض الموارد، فيزول بها الشك فينتفي موضوع جريان البراءة قهرا.

بعض الكلام في أصالة عدم التذكية
اشارة

و قد جرت العادة بذكر بعض ما يتعلّق بأصالة عدم التذكية في المقام، لمناسبة أنها من الاصول الموضوعية التي تمنع عن جريان أصل البراءة و الإباحة الذي هو أصل حكمي، و لباب القول فيها يقتضي التعرض لأمرين:

التعرض لأمرين
الأول: المراد من غير المذكي و الميتة

الأول: أنه نسب إلى المشهور أن غير المذكى في اصطلاح الكتاب و السنة عبارة اخرى عن الميتة، فهما و إن اختلفا مفهوما لكنهما متحدان شرعا، و يترتب عليه أنه بجريان أصالة عدم التذكية يحكم بالنجاسة و حرمة الأكل، لفرض أن غير المذكى ميتة شرعا، فلا يكون الأصل مثبتا. لأنه مع وحدة الموضوع يثبت حكم كل منهما للآخر طبعا.

و لكن يمكن المناقشة فيه: بأنه من مجرد الدعوى بلا شاهد عليه، بعد الاعتراف بكونهما مختلفين لغة و عرفا، المستلزم لاختلاف الحكم. و الأخبار الواردة على قسمين:

الأول: و هي كثيرا ما تشتمل على لفظ «لا تأكل» عند فقد بعض الشرائط، و لفظ «كل» عند تحققها، كقول الباقر عليه السّلام: «لا تأكل من ذبيحة ما لم يذكر اسم اللّه عليها». و عن الصادق عليه السّلام بعد أن سئل عن ذبيحة ذبحت لغير القبلة، فقال عليه السّلام:

«كل و لا بأس ما لم يتعمده». و ظهور مثل هذه الأخبار في حرمة الأكل مما لا ينكر، و أما النجاسة فلا يستفاد منها بوجه من الوجوه، مع أنها واردة في مقام البيان و محل الحاجة، و لا بد و أن يبين النجاسة أيضا، بل هي أهم لاستلزامها حرمة الأكل أيضا بخلاف العكس.

الثاني: جملة من الأخبار الواردة في ما قطعت من الحيوان، كقول علي عليه السّلام: «ما أخذت الحبالة من صيد فقطعت منه يدا أو رجلا فذره، فإنه ميت، و كلوا مما أدركتم حيا و ذكر اسم اللّه عليه». و قول الصادق عليه السّلام: «ما أخذت

ص: 180

الحبالة فانقطع منه شيء فهو ميتة». و عن الكاهلي قال: «سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السّلام و أنا عنده عن قطع أليات الغنم؟ فقال عليه السّلام: لا بأس بقطعها إذا كنت تصلح بها مالك، ثم قال عليه السّلام: إن في كتاب علي عليه السّلام إن ما قطع منها ميت، لا ينتفع به». و عنه عليه السّلام أيضا «في أليات الضأن فقطع و هي أحياء، أنها ميتة». و عن الحسن ابن علي: «سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام فقلت جعلت فداك: إن أهل الجبل تثقل عندهم أليات الغنم فيقطعونها، قال عليه السّلام: هي حرام. قلت: نستصبح بها؟ قال عليه السّلام: أما علمت أنه يصيب اليد و الثوب و هو حرام». و عن البزنطي عنه عليه السّلام أيضا: «الرجل يكون له الغنم يقطع من ألياتها و هي أحياء، أ يصلح أن ينتفع بما قطع؟ قال عليه السّلام: نعم، يذيبها و يسرج بها، و لا يأكلها، و لا يبيعها».

و فيه: أن أهم آثار الميتة إنما هو حرمة الأكل، فالتنزيل من هذه الجهة مسلّم. و أما من حيث النجاسة فهي مشكوك فيها، يرجع فيها إلى الأصل. و أما قوله عليه السّلام: «أما علمت أنه يصيب اليد و الثوب و هو حرام»، فلا بد من حمله على بعض المحامل، لأن تنجيس اليد و الثوب ليس بحرام قطعا، و يحتمل الحرمة الغيرية بالنسبة إلى الصلاة و هي تكون بالنسبة إلى غير المذكى أيضا، لقوله عليه السّلام:

«فإن كان مما يؤكل لحمه فالصلاة في وبره، و بوله، و شعره، و روثه و ألبانه و كل شيء منه جائز، إذا علمت أنه ذكي، و قد ذكاه». و في خبر الصيقل: «كتبت إلى الرضا عليه السّلام: أنه أعمل أغماد السيوف من جلود الحمر الميتة تصيب ثيابي فأصلي فيها، فكتب عليه السّلام إليّ: اتخذ ثوبا لصلاتك». و استفادة النجاسة من هذه الرواية أيضا مشكلة لاحتمال تلطخ الثوب بأجزاء الميتة، فلا تصح فيه الصلاة من هذه الجهة مع أن ثبوت النجاسة فيها لا تلازم نجاسة غير المذكى إلا بالدليل، و قد مرّ ما فيه.

و ما أبعد ما بين ما نسب إلى المشهور من نجاسة غير المذكى لأنه كالميتة، و ما يظهر من صاحب المدارك من عدم دليل على نجاسة الميتة أصلا فضلا عما

ص: 181

يكون نازلا منزلتها.

الثاني: أن الحيوان بالنسبة إلى التذكية و عدمها على أقسام
اشارة

فتارة: يكون مما لا أثر للتذكية بالنسبة إليه أصلا، لا بالنسبة إلى الطهارة و لا الحلية، فهو نجس و حرام مطلقا ذكّي أو لم يذكّ، كالكلب و الخنزير.

و اخرى: يكون مما لا أثر للتذكية بالنسبة إليه أيضا من حيث الطهارة و الحرمة، كالحشرات فإنها طاهرة في حال الحياة و الموت و التذكية، و حرام كذلك أيضا.

و ثالثة: مما يكون الأثر بالنسبة إلى الطهارة فقط دون الحلية، كالسباع فإنها إن ماتت حتف الأنف تكون حراما و نجسة، و إن ذكيت تكون حراما و طاهرة.

و رابعة: ما يكون لها الأثر بالنسبة إلى كل من الطهارة و الحلية، كالأنعام الثلاثة مثلا، حيث أنها بالموت تتنجس و تحرم، و بالتذكية تكون حلالا و طاهرة.

إذا تبين هذا نقول: إن الشك في التذكية.
تارة: في الشبهة الحكمية،

أي الحكم الكلي لنوع حيوان خاص، كما إذا لم يعلم مثلا أن الحيوان المتولد بين الحيوانين الذي لا يتبعهما في الاسم و الصفة قابل لها أو لا.

و اخرى: في الشبهة الموضوعية الخارجية

أما الاولى فلا وجه لأصالة عدم التذكية فيها أصلا، لما عن صاحب الحدائق الإجماع على أن كل حيوان يقبل التذكية إلا ما خرج بالدليل، و عن صاحب الجواهر: «مؤيدا بما يفهم من مجموع النصوص المتقدمة في لباس المصلي من قبول التذكية لكل حيوان طاهر العين حال الحياة، و إن لم يكن مأكول اللحم، و لكن لا يصلي فيه عدا ما استثني». و في صحيح ابن يقطين:

«سألت أبا الحسن عليه السّلام: عن لباس الفراء، و السمور، و الفنك، و الثعالب و جميع الجلود؟ قال عليه السّلام: لا بأس». فلا يبقى مجال لأصالة عدم التذكية فيها مع مثل هذه

ص: 182

الإطلاقات، و دعوى الإجماع، مع أنها من العرفيات التي يكفي فيها عدم الردع.

مع أن عدم التذكية فيها إما لأجل توهم حرمتها النفسية، أو لأجل الحرمة الغيرية، كالاستعمال في ما يعتبر فيه الطهارة، و قد مرّ أن الشك في الحرمة مطلقا من مجاري البراءة، نفسية كانت أو غيرية، فراجع.

تفصيل القول في جريان أصالة عدم التذكية في الشبهات الموضوعية

و أما الثانية فخلاصة القول فيه، أن التذكية إما عبارة عما يقوم بالمذكي (بالكسر) من التسمية و الاستقبال، و فري الأوداج و نحوها مع قابلية المحل، و بعبارة اخرى تكون مركبة من امور خاصة. أو تكون بسيطة و من التوليديات الحاصلة من هذه الامور، نظير الطهارة التي يمكن أن تكون عبارة عن الغسلات و المسحات، فتكون مركبة. أو الحالة النفسانية الحاصلة منها، فتكون بسيطة. و لا ريب في أن الشك في حصول التوليديات إنما يكون من ناحية الشك في أسبابها، و سيأتي أن الأصل الجاري في السبب يغني عن جريانه في المسبب و لو كان توليديا، لمكان اتحاد التوليديات مع أسبابها عرفا يصح كونها مجرى الأصل، بل يصح انتساب الأصل الجاري في أسبابها إليها أيضا، فلا ثمرة عملية بل و لا علمية في تنقيح أنها مركبة أو بسيطة.

و حينئذ فنقول: إن كان الشك في ما عدا قابلية المحل من سائر الشرائط فلا ريب في كونها مسبوقة بالعدم، فتجري أصالة عدم تحقق الشرط مع عدم وجود أمارة على الخلاف من يد مسلم أو سوقه أو أرضه أو نحوها، فيثبت عدم التذكية الذي هو عبارة اخرى عن الميتة شرعا، لكونهما متحدين في اصطلاح الشرع، كما نسب إلى المشهور، فتثبت النجاسة و الحرمة، و أما بناء على صحة التفكيك بينهما كما مرّ، فتثبت حرمة الأكل دون النجاسة.

و إن كان الشك في قابلية المحل و عدمها، فالأصل الجاري حينئذ منحصر بالأصل الجاري في العدم الأزلي، و مفاد ليس التامة، لأن كل حيوان حين تكوّنه إما أن يتكوّن قابلا لها أو غير قابل، و هذه القابلية أو عدمها كلوازم الذات غير

ص: 183

المنفكة عنه، فلا يتصور فيها جريان أصالة العدم بالعدم النعتي العارض على الموضوع، بل ما هو المتصور منها إنما هو (أصالة عدم تحقق القابلية للتذكية) بالعدم الأزلي السابق على كل حادث، لأن القابلية أيضا حادث من الحوادث مسبوق بالعدم الأزلي، فيجري الأصل فيه حينئذ كجريانه في جميع الحوادث المسبوقة بالعدم، سواء كانت من الذوات أو من لوازمها.

إن قلت: نعم، و لكن المستصحب هو كلي عدم تحقق قابلية التذكية، و المطلوب هو إثبات عدم قابلية هذا الموضوع الخارجي لها، فيصير الاستصحاب مثبتا بالنسبة إليه.

قلت: هذا الإشكال جار في جميع استصحابات الأعدام الأزلية، و لا اختصاص له بخصوص المورد، و الجواب أن الكلي و الحصة متحدان مع الفرد الخارجي و إن كان بينهما فرق اعتباري عقلي، فلا يكون الأصل مثبتا، فهو كاستصحاب عدم العام لإثبات عدم الخاص المتحد معه.

هذا، و لكن الاستصحاب في الأعدام الأزلية بعيد عن الأذهان العرفية المنزلة عليها الأدلة، مع أنه معارض باستصحاب عدم الخصوصية المقتضية للحرمة، و بعد المعارضة و السقوط تصل النوبة إلى الأصل الحكمي الذي هو أصالة الحلية و الطهارة، فيكون حلالا و طاهرا، و التفكيك بينهما بالحرمة و الطهارة بدعوى: أن المحللات محصورة و ليس المورد منها، فيكون حراما.

مردود: بدعوى العكس، فيحل حينئذ لا محالة.

و كذا دعوى أن الحلية تعلقت بأمر وجودي و هو الطيبات، فلا بد من إحراز الطيبية، و إلا فتشمله أدلة الخبائث فيكون حراما.

مردودة: أيضا بالنقض بأن الحرمة تعلّقت بالأمر الوجودي الذي هو الخبائث، فلا بد من إحرازه، و إلا فيكون حراما، مع أنه يمكن منع كون الطيب أمرا وجوديا، بل هو عدمي أي ما لا يستقذره الطبع، فراجع المطولات.

ص: 184

بيان الحق في المقام، التمسك ببعض الأخبار على ذلك

و الحق أن يقال: إنه لا وجه لجريان أصالة عدم التذكية في مورد الشك في القابلية و عدمها، لأن عدم القابلية لها مما لا يعلم إلا من طريق الوحي و ينحصر العلم بها فيه، فلو كان حيوان حراما واقعا، و كانت فيه خصوصية الحرمة، وجب على الشارع بيانها لانحصار طريق معرفتها ببيانه، فعدم البيان في مثله يكفي في الحلية مع أن عمومات الحلية بيان، مضافا إلى أن لنا أن نقلب الأصل، و نقول مقتضى سهولة الشريعة المقدسة، و إطلاقات الحلية، أن الحرمة تتقوّم بخصوصية خاصة، و مع الشك في تلك الخصوصية يجري الأصل الأزلي في عدمها، فالحلية مرسلة مطلقة، و الحرمة مقيدة بالخصوصية.

و بالجملة: مقتضى عمومات الحلية و قاعدتها حلية كل حيوان، و كذا مقتضى حصر ما لا تقع عليه التذكية في ما نص عليه بالخصوص، و وقوع التذكية على كل حيوان إلا ما خرج بالدليل، فلا موضوع لأصالة عدم التذكية من هذه الجهة.

نعم، تجري في مثل الشك في الاستقبال، و التسمية ما لم تكن أمارة على الخلاف.

و يشهد لذلك الأخبار التي يستفاد منها أصالة عدم التذكية، فإن جلّها واردة في الشبهات الموضوعية، ففي خبر أبي بصير: «فلما مضت الكلاب دخل فيها كلب غريب لا يعرفون له صاحبا فاشترك جميعا في الصيد، فقال عليه السّلام: لا يؤكل، لأنك لا تدري أخذه معلم أو لا». و في خبر آخر: «فإن يتردى في جب، أو و هدة من الأرض، فلا تأكله و لا تطعمه، فإنك لا تدري التردي قتله أو الذبح» إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في الشبهات الموضوعية.

التنبيه الثاني: لا ريب في حسن الاحتياط غير المخلّ بالنظام
اشارة

نصا و إجماعا، بل باتفاق العقلاء، و لا إشكال فيه في التوصليات. بل يترتب عليه الثواب أيضا إن كان بعنوان الرجاء، و كذا في العباديات مع دوران الأمر فيها بين الوجوب

ص: 185

و الندب، لثبوت الأمر الذي يتقوّم به العبادية، فيتحقق موضوع حسن الاحتياط حينئذ.

و أما مع دوران الأمر بين الوجوب و غير الندب أو الندب و غير الوجوب، فقد اشكل في جريانه فيها بعدم إحراز الأمر حينئذ، و المفروض أن العبادية متقوّمة بذلك، و مع عدم تحقق العبادية لا يتحقق موضوع حسن الاحتياط أيضا، لأنه عبارة عن إتيان المتعلق بجميع ما اعتبر فيه جزء و شرطا بعنوان الاحتياط.

و اجيب عن هذا الإشكال بوجوه:

منها: ما عن المحقق الأنصاري قدّس سرّه من إنكار الاحتياط فيها رأسا، فقال:

(و في جريان ذلك في العباديات عند دوران الأمر بين الوجوب و غير الاستحباب وجهان: أقواهما العدم).

و يرد عليه: أنه مخالف مع ما في رسائله العملية و كتبه الاستدلالية الفقهية، كما لا يخفى على من راجعها.

و منها: أن من حسن الاحتياط عقلا يستكشف الأمر بقاعدة الملازمة شرعا.

و فيه.. أولا: أن الحسن يتعلّق بذات الاحتياط من حيث هو، و الأمر الذي يراد إثباته إنما هو بالنسبة إلى متعلّقه لا ذاته، و لا ربط لأحدهما بالآخر.

و ثانيا: أن مورد قاعدة الملازمة هو الحسن الذاتي الذي يكون وصفا بحال الذات، و حسن الاحتياط طريقي محض لا ذاتية فيه بوجه، فلا وجه لأن يكون مورد قاعدة الملازمة.

و منها: أن من ترتب الثواب يستكشف الأمر، لكون الثواب معلولا للامتثال و هو معلول الأمر.

و فيه: أن ترتب الثواب أعمّ من امتثال الأمر، كما مرّ في بعض المباحث السابقة، مع أن الكلام في أصل ثبوت الأمر واقعا لا في طريق استكشافه في

ص: 186

الظاهر، و حينئذ فمعلول الشيء لا يعقل أن يكون من مبادئ ثبوته، لأنه دور باطل.

و منها: أن نفس الأوامر التي وردت في الاحتياط تكفي للداعوية، فيقصد نفس الأمر الاحتياطي.

و فيه.. أولا: أنها ليست عبادية، فمن أين يحصل الأمر العبادي في المتعلق.

و ثانيا: أنها طريقية محضة، لا بد و أن يكون الأمر العبادي ثابتا في المتعلق قبل عروض الأمر الاحتياطي حتى يتحقق الاحتياط في العبادة، فهذا الوجه كالوجه الأول مغالطة بين نفس الاحتياط و العمل المحتاط فيه.

و منها غير ذلك مما ذكر في المطولات مع ما فيه من ظهور الخدشة.

و الحق أن يقال: إن كيفية الامتثال موكولة إلى العقلاء، و هي لديهم إما علمية تفصيلية، أو إجمالية، أو احتمالية رجائية، و الامتثال برجاء المطلوبية نحو من الامتثال لديهم، و لم يردع عنه الشارع بل قرره بالترغيب إلى الاحتياط. فكما أن الامتثال في موارد إحراز الأمر بالأمارات أو الاصول المعتبرة صحيح شرعا، فكذا في موارد رجاء الأمر، بل يكون الانقياد فيها أشد، كما لا يخفى.

و قد يتمسك لإثبات الأمر في المقام بأخبار «من بلغ».

الكلام في قاعدة التسامح من جهات:
اشارة

بدعوى: أن مفادها تحقق الأمر الشرعي في مورد احتمال ثبوت الأمر، و قد يعبر عن ذلك ب «قاعدة التسامح في أدلة السنن».

و البحث فيها من جهات:

الجهة الاولى: في الأخبار الدالة على القاعدة
اشارة

، منها قول أبي عبد اللّه عليه السّلام:

«من بلغه شيء من الثواب على شيء من الخير فعمل به، كان له أجر ذلك و إن كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يقله». و عنه عليه السّلام أيضا: «من بلغه عن النبي صلّى اللّه عليه و آله شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له و إن كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يقله». و عنه عليه السّلام: «من بلغه عن النبي صلّى اللّه عليه و آله شيء من الثواب ففعل ذلك طلب قول النبي صلّى اللّه عليه و آله كان ذلك له

ص: 187

و إن كان النبي صلّى اللّه عليه و آله لم يقله». و عنه عليه السّلام أيضا: «من سمع شيئا من الثواب، فصنعه كان له و إن لم يكن على ما بلغه». و عن أبي جعفر عليه السّلام: «من بلغه ثواب من اللّه تعالى على عمل ففعل ذلك العمل التماس ذلك الثواب، أوتيه و إن لم يكن الحديث، كما بلغه». و يقتضي ذلك في الجملة ما ورد في أخبار كثيرة «إن اللّه تعالى عند ظن عبده المؤمن»، و عموم قوله تعالى: إِنّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً . و قوله تعالى: وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها ، و قوله تعالى:

يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً إلى غير ذلك من الآيات.

المناقشة فيها و ذكر الاحتمالات فيها و الإشكال عليها

و لكن يمكن المناقشة فيها بأنها من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، لأن المراد من «أحسن عملا»، و «ثواب الآخرة» و عمل الخير ما ثبت الأمر به شرعا، لا ما لم يحرز الأمر به بعد.

و لكنها مدفوعة بأن المراد ما صدق عليه الخير و الثواب عرفا، فلا يكون من التمسك بالعام في الشبهة الموضوعية.

و كيف كان، فإن أخبار المقام تحتمل وجوها:

الأول: أنها في مقام بيان الأخبار عن تفضل اللّه تعالى، و أنه غير متوقف على شيء غير البلوغ إلى العباد، فلا يتوقف على قصد الأمر و لا على غيره، بل المناط فيه إتيان العمل الذي وعد فيه الثواب، فتكون مثل الأخبار التي يستفاد منها عدم توقف الثواب على قصد الأمر.

و أورد عليه: أن توقف الثواب على إضافة العمل إلى اللّه تعالى غالبا من القرائن الحالية التي تمنع عن التمسك بهذا الإطلاق، مع أن في بعض ما مرّ من الأخبار قرينة لفظية على لزوم الإضافة إلى الشارع، و هو قوله عليه السّلام: «ففعل ذلك طلب قول النبي صلّى اللّه عليه و آله»، و قوله عليه السّلام: «التماس ذلك الثواب».

و هو مدفوع.. أولا: بأنه أول الدعوى.

و ثانيا: بأن الإتيان لأجل تفضّل اللّه تعالى عليه نحو إضافة إلى اللّه تعالى، و لا نحتاج في ترتب الثواب أزيد من هذه الإضافة لو قلنا باعتبار الإضافة إلى اللّه

ص: 188

في ترتب الثواب.

الثاني: أنها في مقام بيان أن كمية الثواب و كيفيته بأي نحو بلغ إلى العبد، يؤتى تلك الكمية و الكيفية و إن لم تكن صادرة واقعا عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، فعلى هذا يعتبر أن يكون المتعلّق أمرا عباديا بدليل معتبر شرعي.

نعم، كمية الثواب و كيفيته يتسامح فيهما.

و فيه: أنه خلاف ظاهر تلك الأخبار، حيث أنها في مقام بيان بلوغ أصل الثواب على نحو الطبيعة المهملة الصادقة على الذات و الكمية.

الثالث: أن هذه الأخبار من الجملة الخبرية الواقعة موقع الإنشاء، فيكون معنى (فعمل به) أي فليعمله.

و يرد عليه: أنه خلاف المنساق منها عرفا.

الرابع: أن يكون في مقام بيان أن نفس البلوغ من حيث هو بلوغ موجب لحدوث الملاك و الأمر، و تكون هذه الأخبار حاكمة على ما يدل على اعتبار الوثوق في الصدور، فيعتبر الوثوق بالصدور في الروايات إلا في الروايات الدالة على السنن. و هذا الوجه قريب من فضل اللّه تعالى، و مناسب لمذاق الشرع، و لكنه بعيد عن صناعة الاستدلال، كما لا يخفى.

و على أي حال فاستفادة الاستحباب الشرعي منها مشكل جدا.

نعم، يصح ذلك إن كان برجاء الثواب و التماسه، كما وقع التصريح به فيها. فما نسب إلى المشهور من إطلاق الفتوى بالاستحباب في موردها من غير تقييد بالإتيان برجاء المطلوبية، لعله منزّل على مرتكزات نوع المتشرعة من أنهم يأتون بمعلوم الأمر برجاء الثواب، فكيف بمحتمل الأمر.

الجهة الثانية: هل تدل الأخبار على ترتيب جميع آثار المطلوب الشرعي؟

الجهة الثانية: على فرض استفادة الاستحباب منها - إما مطلقا، أو في ما إذا كان لأجل درك الثواب - هل تترتب عليه جميع آثار المطلوب الشرعي مطلقا أو لا؟ وجهان، بل قولان: أحوطهما الثاني، لعدم ورود الأدلة في مقام البيان من هذه الجهة، فلو دلّ خبر ضعيف على غسل المسترسل من اللحية، و قلنا

ص: 189

باستحبابه، فالمتيقن ترتب الثواب عليه، و أما أنه لو جفت بلة يده و لم يتمكن من المسح بها، ففي جواز أخذها من محل الاسترسال و المسح بها إشكال، لقصور الأدلة عن إثبات غير الثواب.

الجهة الثالثة: موارد جريان قاعدة التسامح في الأدلة

الجهة الثالثة: قد جرت سيرة العلماء على التسامح في المندوبات التوصلية، و في أدلة المكروهات، و الفضائل، و المعاجز، و الأخلاقيات، و ما ورد لدفع الأوجاع و الأمراض، و ما ورد لقضاء الحوائج من الصلوات و الدعوات و غيرها، و ما ورد في الامور التي لها آثار وضعية دنيوية. مع أن أدلة المقام مشتملة على الثواب - كما مرّ - و لا يبعد أن يكون الوجه في ذلك أنهم قدس سرّهم حملوا الثواب على مجرد المثالية، و أنه ذكر من باب الغالب و الترغيب لا الخصوصية، فيكون المعنى: أن من بلغه شيء عن النبي صلّى اللّه عليه و آله في غير الواجب و الحرام، يترتب أثر ذلك الشيء عليه و إن كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يقله؛ و يمكن أن يكون مدرك التسامح في غير الثواب الإجماع على التسامح فيه أيضا. و يمكن الاستدلال على التسامح في ذلك كله بقولهم عليهم السّلام في جملة من الأخبار: «الحكمة ضالة المؤمن، فحيث ما وجد أحدكم ضالته فليأخذها»، إذ لا ريب في أن ذلك كله فيه من الحكمة، و قد فسّرت بكل ما فيه خير و صلاح. فتأمل.

و كيف كان، فهل تشمل قاعدة التسامح فتوى المشهور أو الفقيه الواحد باستحباب شيء مع عدم ذكر المدرك؟ وجهان، بل قولان: من أنه لم ينسب إلى السنة أولا و بالذات فلا تشمل، و من انتهائهما إليها فتشمل، و مقتضى التسامح في المندوبات هو الثاني.

التنبيه الثالث: دوران الأمر بين التعيين و التخيير
اشارة

التنبيه الثالث: قد مرّ الاتفاق على البراءة في الشبهات الوجوبية، بلا فرق فيها بين العيني و الكفائي و غيرهما من أقسام الوجوب، لكن مع احتمال الإباحة أيضا، و أما لو علم بالوجوب و تردد بين كونه تعيينيا أو تخييريا، فهذه هي المسألة المعروفة في الفقه و الاصول بدوران الأمر بين التعيين و التخيير، و المشهور فيها هو الأول، لكنه من موارد قاعدة الاشتغال، و لما مرّ في مباحث

ص: 190

الألفاظ من أن مقتضى الإطلاق كون الوجوب عينيا تعيينيا نفسيا إلا إذا دلّ دليل على الخلاف، فيطابق الأصل اللفظي و العملي على التعيينية.

و كذا الكلام بعينه في ما إذا علم بالوجوب و تردد بين كونه عينيا أو كفائيا، هذا خلاصة ما قالوه في الأخذ بالوجوب التعييني عند الدوران بينه و بين التخييري، و نسب ذلك إلى المشهور.

الإشكال على المشهور، و نقل كلام بعض مشايخنا و الرد عليه

و يرد عليه: أن خصوصية التعيينية و العينية قيد زائد مشكوك فيه، فيرجع فيه إلى البراءة، كما في سائر القيود الزائدة المشكوكة فيها فالمقام من مجاري البراءة لا الاشتغال، لعدم العلم بأصل التكليف بحدوده و قيوده، و عدم تمحض الشك في الشك في الامتثال فقط.

نعم، لو اكتفينا في وجوب الاحتياط بمجرد العلم بجنس التكليف من دون أن يعلم نوعه، لوجب الاحتياط في المقام. و لكنه ممنوع، بل التكليف المنجز ما إذا علم نوع التكليف بحسب الطرق و الأمارات و الاصول المعتبرة من جهة النوع.

و عن بعض مشايخنا قدس سرّهم عدم صحة البراءة هنا، و خلاصة كلامه قدّس سرّه: أنه يعتبر في مجرى البراءة أن يكون من الامور الوجودية لا العدمية، و المقام من الأخيرة دون الاولى، لأن التعيينية عبارة عن عدم العدل و البدل للواجب، و ذلك عدمي، كما هو واضح، و لا يتعلّق الجعل الشرعي بالعدم و العدمي.

و فيه.. أولا: أنه مخالف للعمومات و الإطلاقات الواردة بالنسبة إلى البراءة و التوسعة و التسهيل مهما وجد للشارع إليه سبيل، و هذه كلها تشمل الوجودي و العدمي مطلقا.

و ثانيا: أنه منقوض بالاستصحاب و الاصول العدمية المقررة شرعا، سواء كانت تأسيسية أو إمضائية.

و ثالثا: أن هذه كلها من إعدام الملكات و لها حظ من الوجود، كما ثبت في محله.

ص: 191

و رابعا: أنه لا وجه لكون مورد البراءة في المقام عدميا، بل هو عبارة عن خصوصية خاصة في الواجب التعييني تقتضي إتيانه بذاته فقط. كما أن التمسك لتعيين التعييني، بما مرّ في مباحث الألفاظ أن إطلاق الوجوب يقتضي كونه عينيا نفسيا تعيينيا باطل، لأنه في مقام الإثبات، و ما نحن فيه في مقام الثبوت، فلا وجه للخلط بينهما.

أقسام الواجب التخييري

ثم إن الواجب التخييري..

تارة: في ظاهر الخطاب الشرعي، كخصال الكفارات مثلا.

و اخرى: عقلي، كما في المتزاحمين المتساويين خطابا و ملاكا.

و ثالثة: التخيير في المسألة الاصولية - أي التخيير في أخذ الحجة - و الرجوع إلى البراءة إنما يصح في القسم الأول فقط. و أما الأخيرين فاحتمال التعيين في أحدهما مرجح يتعين الأخذ به، فلا وجه للبراءة حينئذ.

موارد دوران الأمر بين التعيين و التخيير

فتلخّص من جميع ما مرّ: تعين الرجوع إلى البراءة في جميع موارد دوران الأمر بين التعيين و التخيير، و هي أربعة:

الأول: الشك في أصل تشريع الوجوب ابتداء، ثم الشك في أنه على فرض الثبوت تعييني أو تخييري، فيكون في البين شكان طوليان، و يرجع فيهما إلى البراءة عند الكل.

الثاني: العلم بأصل الوجوب، و الشك في أن هذا بالخصوص تعييني، أو أنه أحد فردي الواجب التخييري، و قد أثبتنا فيه الرجوع إلى البراءة أيضا.

الثالث: العلم بوجوب كل واحد من الطرفين، و الشك في أن هذا الوجوب من كل منهما تعييني أو تخييري، و المرجع فيه البراءة أيضا، لعين ما تقدم في سابقه.

الرابع: العلم بوجوب شيء و العمل بأن الشيء الآخر مسقط عنه، سواء كان مباحا أو مندوبا، و الشك في أنه واجب تعييني أو لا، و المرجع فيه البراءة أيضا، لعين ما تقدم.

ص: 192

الكلام في دوران الأمر بين الواجب العيني و الكفائي

و من ذلك يظهر الأمر في ما دار الأمر بين الواجب العيني و الكفائي، فإنه يجب الإتيان به سواء كان في الواقع عينيا أو كفائيا، لوجوب قيام الكل بالإتيان بالواجب الكفائي، و لكن لو أتى به أحد يشك في تعلّق الوجوب بالنسبة إليه للشك في العينية، فيرجع فيه إلى البراءة.

و لكن مع ذلك كله، فالأحوط ما هو المشهور، لاحتمال كون العلم بجنس التكليف مع إمكان الاحتياط منجزا، و إن لم يمكن إثباته بالدليل كما عرفت.

التنبيه الرابع: جريان البراءة في جميع الشبهات مطلقا
اشارة

التنبيه الرابع: لا ريب في جريان البراءة في الشبهات الموضوعية - وجوبية كانت أو تحريمية بجميع أقسامهما - لعدم كفاية مجرد العلم بالتكليف فقط في تنجزه و صحة المؤاخذة عليه، بل لا بد مع ذلك من إحراز متعلّقه و موضوعه. لأن إحرازهما من حدود إحراز الحكم و قيوده، و مع عدم إحراز ذلك يجري دليل البراءة عقليا كان أو نقليا - كما مرّ - سواء كان تعلّق الحكم بالموضوع على نحو العام السرياني الانحلالي، أو على نحو صرف الوجود، أو على نحو العام المجموعي من حيث المجموع. ففي الشبهات الموضوعية في جميع ذلك يرجع إلى البراءة.

توهم اختصاص البراءة ببعض الأقسام و الجواب عنه

و توهم: أنه لا مجرى لها في الأخير لمعلومية التكليف فيه بحدوده و قيوده، فيكون من مورد الاشتغال لا البراءة.

مردود.. أولا: بأن المجموع ليس إلاّ الأفراد و لا تحقق له في غيرها، و الشك في بعضها شك في أصل التكليف بالنسبة إليه، و يكون من موارد الأقل و الأكثر، فتجري البراءة بالنسبة إلى الأكثر لوجود المقتضي و فقد المانع.

و ثانيا: بأنه ليس في الشرعيات تكليف يكون كذلك بالنسبة إلى الأفراد، فيكون من مجرد الفرض.

نعم، يصح ذلك بالنسبة إلى أجزاء المركب الذي تعلّق به التكليف، زمانا كانت تلك الأجزاء - كما في الصوم - أو غيره - كما في الصلاة مثلا - فإن صحة الصوم متوقفة على الإمساك في جميع أجزاء الزمان الصومي من حيث

ص: 193

المجموع، فلو تخلّف في جزء من أوله، أو وسطه، أو آخره بطل الصوم. كما تتوقف صحة الصلاة على تحقق سائر شرائطها من أولها إلى آخرها، فلو تخلّف بعضها في جزء من أجزائها بطلت، و هكذا في جميع المركبات التي تعتبر فيها شروط خاصة، و لكن ذلك كله ليس من العام المجموعي بالنسبة إلى الأفراد، كما لا يخفى.

نتيجة البحث

و الحاصل أن مقتضى القاعدة جريان البراءة في الشبهات الموضوعية مطلقا وجوبية كانت أو غيرها، ففي الدّين أو الفائتة المرددة بين الأقل و الأكثر، تجري البراءة عن الأكثر، لكونه من الشك في أصل التكليف، و لكن نسب إلى المشهور الاحتياط في خصوص الفائتة المرددة بين الأقل و الأكثر مع ذهابهم إلى البراءة في نظائرها، فإن كان ذلك لأجل القاعدة فهي تدلّ على البراءة، كما مرّ.

مع أن مقتضى قاعدة عدم الاعتناء بالشك بعد الوقت عدم الوجوب أيضا، و استصحاب عدم الإتيان محكوم بقاعدة عدم الاعتناء بالشك بعد الوقت، كما هو معلوم. و إن كان لأجل نص خاص بها فهو مفقود، كما اعترف به جمع، و إن كان لأجل أن كثرة اهتمام الشارع بالصلاة تقتضي ذلك فهو لا يقتضي إيجاب الاحتياط. و إن اقتضى حسنه و استحبابه، كما لا وجه للتفرقة فيه بما عن بعض من أنه إن علم عدد الفوائت ثم عرض النسيان، و تردد بين الأقل و الأكثر، وجب الاحتياط بإتيان الأكثر. و إن كان التردد من أول الأمر بلا سبق العلم فلا يجب، و ذلك لأن المسألة من صغريات الشك في أصل التكليف على كل تقدير، كما لا يخفى. هذا كله لباب القول في دوران الأمر بين الحرمة و غير الوجوب، و دورانه بين الوجوب و غير الحرمة. و أما دوران الأمر بين الحرمة و الوجوب - المعبر عنه بدوران الأمر بين المحذورين - فالكلام فيه يأتي في الفصل الآتي.

ص: 194

الفصل الثالث أصالة التخيير و البحث فيها من جهات:

الجهة الاولى: بيان موضوعها

الجهة الاولى: في بيان موضوعها: تقدم أن المشكوك إما أن يلحظ فيه الحالة السابقة، فيكون مجرى الاستصحاب. أو لا يلحظ ذلك، و حينئذ فإن لم يعلم التكليف أصلا. و لو بجنسه - فهو مجرى البراءة، و إن علم به و أمكن الاحتياط، فيكون مورد الاشتغال، و إن لم يمكن ذلك فيكون مجرى التخيير.

فمورد التخيير المبحوث عنه في المقام متقوّم بأمرين: العلم بجنس التكليف، أي: الالزام في الجملة فعلا أو تركا، و عدم إمكان الاحتياط رأسا.

الجهة الثانية: أقسام التخيير و مجرى كل واحد منها في التوصليات و التعبديات

الجهة الثانية: أن العلم بجنس التكليف إما في التوصليات أو في غيرها.

أما الأول، كما إذا علم بأن السكوت في آن واحد إما واجب أو حرام عليه، فليس فيه إلا التخيير الفطري التكويني، لأنه بحسب إرادته الارتكازية إما فاعل أو تارك، و لا يجري فيه التخيير العقلي، لأنه فيما إذا كان في البين خطابان فعليان تاما الملاك من كل جهة و لفقد الترجيح، و عدم تمكن المكلف من الجمع بينهما يحكم العقل حينئذ بالتخيير، أو كان خطاب واحد فعلي معلوم بنوعه و له أفراد متساوية من كل جهة، فالعقل حينئذ يحكم بالتخيير بين الأفراد، و المفروض أنه ليس في المقام إلا خطاب واحد مردد بين الوجوب و الحرمة، فالتكليف ليس

ص: 195

معلوما بنوعه، بل بجنسه المهمل فقط، فيكون المقام خارجا عن التخيير العقلي بقسميه تخصصا.

نعم، يحكم العقل بأنه إما فاعل أو تارك تكوينا، و ليس ذلك من التخيير العقلي المبحوث عنه في الاصول في شيء، كما لا وجه لجريان التخيير الشرعي المولوي الواقعي فيه، للعلم بعدم وجوب فردين أو أكثر للتكليف واقعا، بل المعلوم وحدته من كل جهة، مع أن الخطابات المولوية - تعينية كانت أو تخييرية - لا بد و أن تصلح للداعوية و مع كون المكلف بحسب إرادته الفطرية الارتكازية إما فاعل أو تارك، لا يصلح الخطاب لها فيكون لغوا إلا أن يكون إرشادا محضا إلى ما عليه المكلف بحسب ذاته و تكوينه، و لا كلام فيه، إنما الكلام في الحكم المولوي، و لا فرق فيه بين التخيير الواقعي، كما في خصال الكفارات. أو الظاهري، كما في التخيير الشرعي في الأمارات المتعارضة، مع أنه في التخيير الشرعي الواقعي لا بد و أن يكون كل واحد من الطرفين أو الأطراف تام الملاك و الخطاب، و ليس المقام كذلك، لعدم الملاك إلا في الواحد.

و كذا لا وجه لجريان الحلية و البراءة الشرعية، لأن جريانهما في خصوص الوجوب أو الحرمة ترجيح بلا مرجح، و فيهما معا مخالفة للعلم بأصل الإلزام، و بالنسبة إلى أصل العقاب في الجملة لا أثر لها للعلم بعدم العقاب، إذ لا عقاب لدى العقلاء في مورد العلم بجنس التكليف، لعدم كفايته في تنجزه بعد عدم إمكان المخالفة القطعية، و إنما هو على مخالفة نوع التكليف بعد العلم به و تنجزه، إلا أن يكون الجريان إرشادا إلى حكم العقل بعدم صحة العقاب.

و من ذلك يظهر عدم جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان أيضا، لاختصاص جريانها بمورد الشك في العقاب، فلا مجرى لها مع العلم بالعدم.

هذا كله إذا كان المورد توصليا و لم يتصور فيه المخالفة القطعية و لا الموافقة القطعية.

ص: 196

و أما لو كان كل واحد منهما أو أحدهما المعين تعبّديا، فيتصور فيه حينئذ المخالفة القطعية بترك قصد القربة، فتحرم و إن لم تجب الموافقة لعدم إمكانها، و لكن الظاهر أنه مع عدم ثبوت أحدهما بالخصوص يكون الحكم هو التخيير أيضا، بدعوى أنه الأصل لدى العقلاء في كل ما تردد بين شيئين مثلا و لم يعلم بالخصوص.

نعم، فرّق بين التخيير هنا و ما مر في التوصلي، فإنه فيه فطري تكويني و هنا عقلائي اختياري و لا بد من قصد القربة في ما يعتبر فيه، سواء كان كل منهما أو أحدهما.

ثم إن ما تقدم إنما هو في ما إذا كان الطرفان، أو الأطراف متساوية من جميع الجهات، و أما لو كانت مزية في البين، فيكون من موارد الدوران بين التعيين و التخيير، و قد مرّ البحث فيه، فراجع.

الجهة الثالثة: في استمرار التخيير و الإشكال عليه

اشارة

الجهة الثالثة: مقتضى بقاء مناط التخيير - و هو التّحير و الجهل بالواقع و عدم الترجيح - كون التخيير استمراريا، فلا موجب لزواله بعد الأخذ بأحدهما إلاّ لزوم المخالفة القطعية، و لكنها ليست بمانعة لحصول العلم بها بعد العمل، و ما هو الحرام إنما هو المخالفة عن علم و عمد عند الارتكاب، بأن يكون حين العمل عالما، و كان عاصيا، هكذا قيل.

و لكنه مشكل، فإنه يعلم بوقوعه في الحرام في صورة استمرار التخيير، فيكون مثل العلم الإجمالي بالوقوع في الحرام في الأطراف التدريجية فلا يصح، كما يأتي من عدم الفرق بين التدريجية منها و الدفعية. و مقتضى مرتكزات المتشرعة عدم الفرق بينها أيضا، و ليس من شأن الفقيه الترخيص فيها. و من هنا يصح أن يقال بأولوية الموافقة الاحتمالية في المقام عن الموافقة القطعية، لاستلزام الأخيرة المخالفة القطعية أيضا.

ص: 197

الشك في المكلف به:
اشارة

كلما كان الشك فيه في أصل التشريع و ثبوته واقعا، فهو شك في أصل التكليف، و يكون مورد البراءة، و تقدّم ما يتعلّق بها. و كلما علم بثبوت أصل التشريع فيه و شك في جهات اخرى، فهو من الشك في المكلف به، و يكون مورد الاحتياط و الاشتغال. و الجهات الاخرى التي تكون مورد الشك كثيرة.

فتارة: تكون في نوع التكليف بعد العلم بأصل جنسه، كما إذا علم أصل الإلزام و تردد بين الوجوب و الحرمة مع إمكان الاحتياط.

و اخرى: تكون في المتعلّق، كما إذا علم الوجوب تفصيلا و تردد متعلّقه بين الظهر و الجمعة مثلا.

و ثالثة: تكون في الموضوع الخارجي، كما إذا ترددت القبلة بين جهتين أو جهات.

و كل ذلك..

تارة: في الشبهة التحريمية.

و اخرى: في الوجوبية.

و كل منهما..

تارة: يكون من المتباينين، و هو ما لم يكن معلوم التنجز في البين.

و اخرى: من الأقل و الأكثر و هو ما تحقق فيه معلوم التنجز، و شك في الزائد.

موضوع الشك في المكلف به، جهات الشك و الكلام يقع في مقامين
اشارة

فالكلام في مقامين:

الأول: في المتباينين.

و الثاني: في الأقل و الأكثر.

ص: 198

المقام الأول: في المتباينين
اشارة

اعلم أن البحث إنما هو بناء على كون العلم الإجمالي مقتضيا للتنجز، لا أن يكون علة تامة له، و إلا فالبحث ساقط من أصله لحكم العقل بوجوب الاحتياط حينئذ.

و لباب البحث يرجع إلى أن الاصول تجري في أطراف العلم الإجمالي بناء على كونه مقتضيا للتنجز حتى يسقط عن الاقتضاء، أو لا تجري فيكون حينئذ المقتضي للتنجز موجودا و المانع عنه مفقودا، فيكون مثلما إذا كان علة تامة للتنجز، و الحق هو الثاني، و استدل عليه بوجوه:

مناط البحث فيه. الكلام في العلم الإجمالي الاستدلال عليه بوجوه
الأول: اختلاف مورد الشك الذي هو مجرى الاصول عن أطراف العلم الإجمالي، إشكال و جواب

الأول: - و هو أسدّها و أخصرها - ما ارتكز في الأذهان من أن مورد الشك الذي تجري فيه الاصول لا بد و أن يكون لا اقتضاء بالنسبة إلى الحجية و التنجز من كل حيثية وجهة، فلو كان فيه الاقتضاء لها فلا مورد للاصول حينئذ، و لا أقل من الشك في ذلك، فلا يمكن حينئذ التمسك بأدلتها اللفظية، لأنه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية، و لا بأدلتها اللبية، لأن المتيقن منها غير ذلك، فلا محيص إلا من الاحتياط، و لا ريب في ثبوت الاقتضاء في كل من أطراف العلم الإجمالي.

إن قلت: نعم، و لكنه إذا لوحظت الأطراف بنحو الجمع و الوحدة، و أما إذا لوحظ كل طرف مستقلا مع قطع النظر عن الآخر، فيكون لا اقتضاء من كل جهة فيجري الأصل، و حيث لا يمكن الجمع يحكم بالتخيير، كما في الأمارتين المتعارضتين.

قلت: لحاظ الوحدة و الجمع إنما هو في متعلّق العلم التفصيلي و هو علة تامة للتنجز، و إنما يثبت الاقتضاء بملاحظة كل طرف مع قطع النظر عن الآخر بنحو عدم الاعتبار لا اعتبار العدم، إذ يلزم الخلف لأنه حينئذ مستلزم لعدم كونه طرفا للعلم الإجمالي مع أنه أحد طرفيه في الواقع.

ص: 199

مع أن التخيير إما عقلي أو شرعي، و الأول إنما هو في ما إذا ثبت فيه الملاك التام في كل طرف، و الثاني لا يثبت إلا بدليل خاص، و لا ملاك في كل واحد منهما حتى يثبت التخيير العقلي، فهو منفي ثبوتا و لم يرد دليل على التخيير الشرعي فهو منفي إثباتا، فلا وجه له أصلا.

نعم، لو قلنا بأن التخيير في المتعارضين عقلائي، و لا يحتاج إلى ورود دليل بالخصوص يثبت التخيير العقلائي في المقام، أيضا لو فرض جريان الاصول في أطراف العلم الإجمالي و كان المانع منحصرا في لزوم المخالفة العملية من العمل بها مع ثبوت المقتضي للجريان من كل جهة، و لكنه ممنوع لما مرّ من عدم المقتضي لجريانها في أطراف العلم الإجمالي أصلا.

الثاني: أن الاصول العملية بحسب ملاحظاتها مع أطراف العلم الإجمالي على أقسام ثلاثة:

الأول: ما يكون منافيا لنفس المعلوم بالإجمال و مضادا له، كأصالة الإباحة في مورد دوران الأمر بين المحذورين، فإن الإباحة تضاد الإلزام المعلوم في البين، فلا يجري مثل هذا الأصل في أطراف مثل هذا العلم الإجمالي، للمضادة.

الثاني: الاصول الإحرازية - و تسمى التنزيلية أيضا - كالاستصحاب، و حيث إنها متكفلة للإحراز و التنزيل في الجملة عرفا، و تنزيل أطراف المعلوم بالإجمال منزلة خلافه مضاد و مناف له، فلا مجرى لها من هذه الجهة، كاستصحاب الطهارة مثلا في أطراف ما علم إجمالا بوقوع النجاسة فيها.

الثالث: ما تجري و تسقط بالمعارضة، كأصالة البراءة.

و فيه: أن هذا التفصيل إما مع فرض كون العلم الإجمالي مقتضيا للتنجز و أنه مانع عن جريان الاصول، أو مع فرض عدمه، فعلى الأول لا وجه لهذا التفصيل، لأن وجود ما فيه الاقتضاء بنفسه مانع عن جريانها، كما مرّ و لا تصل النوبة إلى الموانع الخارجية.

ص: 200

و على الثاني لا وجه له أيضا، لأن المضادة و المعارضة و المنافاة إنما تحصل لأجل وجود ما فيه الاقتضاء، و إلا فتكون الأطراف كالشبهات البدوية، فتجري الاصول مطلقا بلا مانع عنها في البين.

الثالث: ما عن شيخنا الأنصاري قدّس سرّه، فإنه جعل المانع عن جريانها

تارة: ثبوتيا من لزوم المخالفة العملية بلا فرق بين الاصول مطلقا حتى الاستصحاب.

و اخرى: إثباتيا في خصوص الاستصحاب من مناقضة صدر دليله مع ذيله، فإن قوله عليه السّلام: «لا تنقض اليقين بالشك»، و قوله عليه السّلام في بعض الأخبار:

«و لكن تنقضه بيقين آخر» متناقضان، لأن مقتضى الصدر صحة استصحاب الطهارة في كل واحد من الإناءين اللذين علم بنجاسة أحدهما إجمالا، فيجوز الارتكاب، و مقتضى الذيل وجوب نقض اليقين بالطهارة باليقين بالنجاسة فيجب الاجتناب، و ليس هذا إلا التناقض و التنافي في الدليل و العلم بكذب أحد الاستصحابين، فلا يجري الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي لذلك.

و اشكل عليه.. تارة: بأنه ليس تمام أدلة الاستصحاب مذيلا بهذا الذيل.

و فيه: أن هذا الذيل فطري ارتكازي فذكره في بعضها يغني عن تمامها، فالمطلقات منزلة عليه بقرينة الفطرة و الارتكاز، بل ليس هذا إلا التنافي الثبوتي الذي يسري إلى مقام الإثبات أيضا.

و اخرى: بأنه يظهر منه قدّس سرّه في مسألة ما إذا توضأ بمائع مردد بين الماء و البول، صحة استصحاب طهارة الأعضاء و بقاء الحدث مع العلم ببطلان أحدهما، و لا فرق بينها و بين المقام.

و فيه: أنه لا ربط لها بالمقام، لأنه في الوضوء من إناء واحد من الإناءين الذين علم ببولية أحدهما إذا توضأ بأحدهما فقط، لا علم فيه بنقض الحالة السابقة حتى يلزم التناقض من إجراء الأصلين، و الظاهر أنه قدّس سرّه لا يقول به. و أما

ص: 201

العلم ببطلان أحد الأصلين في الوضوء من الإناء الواحد المردد بين الماء و البول، فهو مبني على عدم صحة التفكيك في لوازم الأحكام الظاهرية من كل حيثية و جهة، و إثباته مشكل، إذ يمكن أن يقال ببقاء الحدث للأصل، و بقاء طهارة البدن للأصل أيضا.

و ثالثة: بأن التناقض يلزم إن كان متعلّق اليقينين واحدا من كل جهة، و في مورد العلم الإجمالي ليس كذلك، لأن العلم التفصيلي متعلّق بكل واحد من الأطراف، و الإجمالي تعلق بواحد لا بعينه، فيختلف المتعلّق و يرتفع التناقض.

و فيه: أنه ليس المراد بالتناقض في المقام التناقض المنطقي، بل التناقض العرفي الأعم من مطلق المنافرة و التضاد، كما مرّ في بحث التعارض، و لا إشكال في تحققه.

و رابعة: بأن قوله عليه السّلام: «لا تنقض اليقين بالشك» له أثر فيصح تعلق الجعل به، و هو ترتب آثار المتيقن على المشكوك فيه شرعا. و أما قوله «و لكن تنقضه بيقين آخر» فلا أثر له، لأن نقض اليقين باليقين وجداني، و اليقين مما لا يناله الجعل، كما مرّ.

و فيه: أنه أيضا بلحاظ الحكم المترتب على اليقين و هو مجعول، و يكفي هذا المقدار في صحة تعلّق الجعل.

فتلّخص مما تقدم صحة جعل المانع في عدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي إثباتيا أيضا، و لا محذور فيه. و ليس كلام الشيخ قدّس سرّه عند ذكره المانع الثبوتي في مقام الحصر حتى ينافي كلامه الآخر.

و قد يستدل على تنجز العلم الإجمالي بالاستصحاب.

و فيه: أنه إن اريد به الاستصحاب في طرف خاص و فرد مخصوص، فليس له حالة سابقة. و إن اريد به إثبات المقدّمية لكل طرف بالنسبة إلى العلم الإجمالي، فهو معلوم لا نحتاج في إثباته إليه و يكون من تحصيل الحاصل. و إن

ص: 202

اريد به استصحاب الكلي لإثبات المقدّمية فهو تحصيل الحاصل أيضا. و أن اريد به إثبات الوجوب في طرف معين فهو مثبت. و إن اريد به استصحاب الفرد المردد فلا تحقق له لا خارجا و لا ذهنا، فلا وجه لهذا الاستدلال بجميع شقوقه، و تنجز العلم الإجمالي أظهر من الاستدلال بمثل هذه الاستدلالات، فهو كالعلم التفصيلي في وجوب الموافقة القطعية و حرمة المخالفة كذلك إلاّ في موارد خاصة تأتي الإشارة إليها.

موارد عدم وجوب الموافقة القطعية:
الأول: ما إذا دلّ دليل مخصوص على أن الشارع اكتفى بالامتثال الاحتمالي

و أسقط وجوب الاحتياط، و يدور ذلك مدار ورود الدليل، كما في موارد قاعدة الفراغ و التجاوز، و قاعدة «الوقت حائل». أو اكتفى بالامتثال التنزيلي، كموارد حديث «لا تعاد الصلاة إلا من خمس»، و قاعدة اعتبار الظن في الركعات، و قاعدة أنه «لا شك لكثير الشك» إلى غير ذلك مما هو كثير. و يمكن تصوير ذلك في مورد العلم الإجمالي، كما إذا علم إجمالا بأنه إما شك في الفاتحة بعد دخوله في السورة أو سها عن ذكر الركوع بعد رفع الرأس منه، فتصح صلاته، بل لو أحرز كل منهما في محله تفصيلا تصح صلاته و لا شيء عليه.

الثاني: ما إذا كان في بعض الأطراف تكليف فعلي

ثابت بأمارة معتبرة، أو أصل كذلك، سواء كان من سنخ التكليف المعلوم بالإجمال أو من غيره، فيجري الأصل في الطرف الآخر بلا معارض و يسقط العلم الإجمالي عن التنجز، فلا تجب الموافقة القطعية حينئذ.

الثالث: ما إذا لم يصلح العلم الإجمالي للداعوية

، كما في دوران الأمر بين المحذورين على تفصيل تقدم في محله.

ص: 203

الرابع: خروج بعض الأطراف عن مورد الابتلاء
اشارة

، لأن اعتبار القدرة في التكليف مما لا ريب فيه. و هي إما دقّية عقلية، أو شرعية خاصة، أو عادية عرفية.

و الاولى ليست مناطا للتكاليف الشرعية، لأنه يستلزم العسر و الحرج و المشقة من كل جهة و الأحكام الشرعية مبنية على التسهيلات النوعية، و عدم لزوم العسر و الحرج.

و الثانية تحتاج إلى دليل خاص يدل على اعتبارها - و قد ورد في موارد خاصة - فيتبع لا محالة، فيكون المناط في مطلق التكاليف القسم الأخير إلا إذا دلّ دليل على الخلاف. و هي متقوّمة بالابتلاء بالمكلف به عند العقلاء فيكون دليل اعتبار الابتلاء في التكليف عين دليل اعتبار القدرة فيه، و دليل سقوطه عما خرج عن مورد الابتلاء عين دليل عدم صحة التكليف بغير المقدور، مع أن التكليف المطلق لا بد و أن يصلح للداعوية المطلقة، و ما هو خارج عن مورد الابتلاء لا يكون كذلك، بل يكون التكليف في حاق الواقع معلّقا على الابتلاء فيلزم من ذلك الخلف.

حكم ما إذا لم يحرز الابتلاء فهل يجب الاحتياط أو تجري البراءة؟

ثم إنه إن احرز الابتلاء أو عدمه و لو بالأصل فهو، و إلا فهل يجب الاحتياط، أو تجري البراءة؟ قولان: وجه الأول التمسك بعموم الخطاب و إطلاقه، لكونه شكا في أصل التخصيص و التقييد، و أن المستفاد من الأدلة الواردة في الأبواب المتفرقة و المتعارف في التكاليف العرفية، توقّف سقوط التكليف على إحراز العجز و عدم كفاية الشك في القدرة في ذلك، فيكون المقام نظير الرجوع إلى البراءة في الشبهات البدوية قبل الفحص الذي لا يجوز اتفاقا.

و فيه: أن التمسك بها في المقام تمسك بالعام في الشبهة المصداقية، لأن عمومات التكاليف و إطلاقاتها تخصصت بدليل اعتبار القدرة، و المشكوك مردد بين دخوله في العمومات أو في دليل المخصص، فلا يصح التمسك بكل منهما بالنسبة إليه.

ص: 204

مع أنه إنما يصح التمسك بالإطلاق بعد الفراغ عن صحة الإطلاق بدون القيد لا في ما شك في اعتباره في صحته - كما في المقام - إذ لم يحرز فيه صحة الإطلاق الواقعي حتى يصح التمسك بالإطلاق اللفظي، فيكون من الشك في أصل التشريع. و لا وجه للتمسك في مثله بالإطلاق اللفظي لتفرّعه على صحة الإطلاق الواقعي، و مع عدم صحة التمسك بالإطلاقات يتعين الرجوع إلى البراءة إلاّ أنه مما يهوّن الخطيب أن المتفاهم بحسب العرف من احرز عجزه، فتكون كالقرينة المحفوفة بالكلام فالقول بالاحتياط أولى.

حكم ما إذا كان شيء مورد الابتلاء من جهة و خارجا عنه من جهة اخرى

ثم إنه لو كان شيء مورد الابتلاء من جهة و خارجا عنه من اخرى، كما إذا كان الشخص صائما و كان عنده إناءان، أحدهما المعين مضاف و الآخر مطلق طاهر، و وقعت قطرة من البول في أحدهما، و لم يعلم أنها وقعت في أيهما، فهل العلم الإجمالي منجز من حيث أنه صائم يحرم عليه الشرب أو لا تنجز فيه، إذ لا يحدث العلم الإجمالي تكليفا جديدا بالنسبة إلى حرمة الشرب إليه، فهل يجوز الوضوء بالمطلق لعدم جوازه بالمضاف قطعا قبل حدوث العلم الإجمالي بالنسبة إلى الوضوء تكليفا حادثا على كل تقدير؟ وجهان.

الخامس: الاضطرار و هو إما إلى تمام الأطراف أو إلى بعضها
و الأول يوجب سقوط العلم التفصيلي عن التنجز

، فكيف بالعلم الإجمالي نصا و إجماعا، إذ «ما من شيء حرّمه اللّه تعالى إلا و قد أحلّه لمن أضطر إليه».

و الثاني إما إلى المعين، أو إلى غيره،

و كل منهما إما يكون قبل تنجز العلم أو بعده.

و قال صاحب الكفاية بعدم تنجز العلم في جميع الصور الأربع، لأن من شرط تنجزه عدم الاضطرار إلى الارتكاب، و بفقد الشرط ينعدم المشروط، غير أنه قيل إنه عدل عن هذا الإطلاق.

ص: 205

إن قلت: هذا صحيح في ما إذا حصل الاضطرار قبل التنجز، و أما إذا حصل بعده فقد أثّر العلم الإجمالي أثره، فيستصحب التنجز في غير المضطر إليه.

قلت: التنجز في أطراف العلم الإجمالي إنما هو لأجل المقدمية لا النفسية المستقلة، و مع سقوط التنجز عن بعض الأطراف للاضطرار تسقط المقدّمية لا محالة فيصير استصحاب التنجز بلا ملاك.

و يرد عليه: أن ملاك التنجز في الأطراف إنما هو لزوم تحصيل العلم بالامتثال، و هذا متحقق في المقام، لأنه لو ترك الطرف غير المضطر إليه يعلم بعدم ارتكاب الحرام في المعين، إما لأجل الاضطرار إن كان في الطرف المضطر إليه، و إما لأنه تركه واقعا إن كان في غيره.

إن قلت: هذا إذا كان الاضطرار إلى المعين، و أما إذا كان إلى غير المعين فالترخيص المطلق ينافي استصحاب التنجز.

قلت: الترخيص فيه جهتيّ لا من كل جهة، فله أن يرفع اضطراره بكل واحد منهما، و ليس له الترخيص في ارتكاب كليهما فيستصحب أصل التنجز في الجملة فيه أيضا.

فالحق أنه إن حصل الاضطرار بعد تنجز العلم يبقى الطرف الآخر على تنجزه، سواء كان إلى المعين أو إلى غيره.

نقل الكلام عن بعض مشايخنا في الاضطرار إلى غير المعين و المناقشة فيه

و عن بعض مشايخنا أن في الاضطرار إلى غير المعين يجب الاجتناب عن غير ما يدفع به الاضطرار مطلقا، سواء كان قبل العلم الإجمالي أو بعده أو مقارنا له. و خلاصة ما أفاده في وجه ذلك أن الاضطرار إلى غير المعين لا ينافي إلزام الشارع ثبوتا بالاجتناب عن الحرام، بأن يكلف المكلف بالاجتناب عما يختاره لو كان الحرام فيه، و يلزمه برفع الاضطرار بغيره بخلاف الاضطرار إلى المعين، فإنه لو كان الحرام فيه ليس للشارع إلزامه برفع اضطراره بغيره، إذ

ص: 206

المفروض أنه مضطر إلى خصوص المعين فقط و لا يمكنه رفع الاضطرار بغيره.

و فيه: أنه تصور حسن ثبوتا، و لكن لا دليل على تحقق الالتزام إثباتا بعد جريان الأصل بلا معارض.

السادس: فقدان بعض الأطراف

السادس: الظاهر أن حكم فقدان بعض الأطراف حكم الاضطرار في ما تقدّم من التفصيل، لأن تنجز التكليف مطلقا مشروط بالقدرة على متعلّقه و الفقدان يوجب فوت القدرة، و لكن لو تنجز العلم ثم عرض الفقدان يستصحب بنحو ما مرّ.

السابع: الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة، رأي المشهور فيه المناقشة فيه
اشارة

السابع: المشهور عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة، لأصالة الطهارة فيه بلا معارض بلا دليل حاكم عليها. لأنه إن كان دليل خاص دلّ على الاجتناب عن الملاقي فهو مفقود و لم يدّعه أحد. و إن كان لأجل سراية النجس إليه، فهو ممنوع إذ لا سراية إلا من النجس الواقعي. أو المتنجس كذلك لا مما حكم بالاجتناب عنه مقدمة لتحقق الاجتناب عن شيء و الاجتناب عن ملاقيه، فلا دليل عليها من عقل أو شرع أو عرف. و إن كان لأجل صيرورة الملاقي (بالكسر) طرفا للعلم الإجمالي كالملاقى (بالفتح)، فهو من مجرد الدعوى يحتاج إثباتها إلى الدليل، و الأنظار العرفية لا تساعدها، لأنهم يرون الفرق البيّن بين الملاقى (بالفتح) و ملاقيه في الطرفية للعلم الإجمالي، و إن الملاقي ليس كما إذا جعل أحد طرفي العلم الإجمالي في إناءين - مثلا - فإنهم يرون أن العلم الإجمالي حينئذ صار بين ثلاثة أطراف، بخلاف ما إذ لاقى شيء طاهر بأحد أطرافه فلا يتغير أطرافه حينئذ كما كانت عليه، و حيث لا يوجد الدليل على وجوب الاجتناب فتجري أصالة الطهارة لا محالة، و قد وافق المحقق الأنصاري قدّس سرّه المشهور إلا في صورة واحدة، و هي ما إذا حصلت الملاقاة قبل العلم الإجمالي بالنجاسة و فقد الملاقى (بالفتح)، ثم حصل العلم الإجمالي بنجاسة المفقود أو شيء آخر: فقال قدّس سرّه بوجوب الاجتناب عن الملاقي

ص: 207

(بالكسر) حينئذ، لعدم جريان الأصل في ما فقد، لكونه بلا موضوع فيجري في الملاقي و الشيء الآخر و يسقط بالمعارضة فيؤثّر العلم الإجمالي أثره.

و فيه: أن جريان الأصل لا يدور مدار وجود الموضوع و عدمه، بل يدور مدار ترتب الأثر الشرعي عليه، فمعه يجري و إن فقد الموضوع، و مع عدمه لا يجري و إن كان موجودا، و الأثر الشرعي في المقام طهارة الملاقي فتجري أصالة الطهارة في المفقود و يترتب عليه طهارة ملاقيه، كما تجري في الطرف الآخر فتسقط بالمعارضة فيؤثّر العلم الإجمالي أثره ثم يجري أصالة الطهارة في الملاقي (بالكسر) بلا معارض.

إن قلت: إن هذا الأثر وجوده كعدمه، إذ لا نحتاج إليه مع جريان أصالة الطهارة في نفس الملاقي، فيكون إثبات الطهارة بواسطة الأصل الجاري في الملاقى (بالفتح) من التطويل بلا طائل.

قلت: المناط في جريان الأصل مطلق الأثر الشرعي أعم من كونه مؤكدا أو مؤسسا، و المقام من الأول دون الثاني.

نقل كلام صاحب الكفاية في تثليث الأقسام في الملاقي لأحد الاطراف و ردّه

و ذهب صاحب الكفاية إلى تثليث الأقسام، فقال..

تارة: بوجوب الاجتناب عن الملاقي و الملاقى (بالفتح) و الطرف في ما إذا حصل العلم الإجمالي و العلم بالملاقاة دفعة واحدة، لصيرورة الجميع حينئذ طرفا للعلم الإجمالي فيؤثر أثره.

و فيه: أن المناط في تعارض الاصول و تساقطها و تنجز العلم الإجمالي بعد ذلك، هو المعية الرتيبة و عدم الاختلاف فيها، لا مجرد المعية الزمانية و إن اختلفت في الرتبة، و لا ريب في أن الأصل الجاري في الملاقي (بالكسر) في رتبة متأخرة عن الأصل الجاري في الملاقى (بالفتح)، لأن نجاسة الملاقي على فرض ثبوتها مستندة إلى الملاقاة فقط و معلولة لوجوب الاجتناب عن الملاقى (بالفتح)، لا لأجل كونه طرفا للعلم بالذات فمع سقوط الأصل في الملاقي

ص: 208

و طرفه بالمعارضة تجري أصالة الطهارة في الملاقي بلا مزاحمة لاختلاف الرتبة.

و اخرى: قال: بوجوب الاجتناب عن الملاقى (بالفتح) دون الملاقي (بالكسر)، كما هو المشهور في ما إذا حصل العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى (بالفتح) و الطرف ثم حصل بالملاقاة، و قد مرّ وجهه.

و ثالثة: بوجوب الاجتناب عن الملاقي (بالكسر) دون الملاقى (بالفتح)، و ذكر لذلك موردين:

أحدهما: ما إذا علم بالملاقاة ثم حدث العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي (بالفتح) أو الطرف، و لكن حال حدوث العلم الإجمالي كان الملاقي (بالكسر) مورد الابتلاء. و الملاقى (بالفتح) خارجا عنه ثم عاد إلى مورد الابتلاء.

و فيه: أن المناط في تنجز العلم الإجمالي و تأثيره أثره، هو كون شيء طرفا له بالذات لتسقط الاصول في رتبة واحدة بالمعارضة، و الملاقي (بالكسر) - على أي نحو فرض - يكون طرفا بالعرض لا بالذات، و كل ذلك مغالطة واضحة، مع أنه لا فرق بينه و بين ما تقدّم عن الشيخ الأنصاري قدّس سرّه.

ثانيهما: ما إذا علم أولا بنجاسة الملاقي (بالكسر) أو الطرف بلا توجه إلى سبب نجاسة الملاقي ثم حدث العلم الإجمالي بالملاقاة، و العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى (بالفتح) أو الطرف، مع اليقين بأنه ليس لنجاسة الملاقي (بالكسر) على فرض الثبوت سبب غير الملاقاة فقط، و حيث حصل أولا علم إجمالي بنجاسة الملاقي (بالكسر) أو الطرف، و أثّر أثره ثم حصل العلم الإجمالي الآخر، و قد ثبت أن العلم الإجمالي العارض على علم إجمالي منجز، لا أثر له إلا إذا كان أثره من غير سنخ الأول و ليس المقام كذلك، فيجب الاجتناب عن الملاقي (بالكسر) دون الملاقى.

و فيه: أنه بعد تسليم أن سبب نجاسة الملاقي (بالكسر) منحصر بالملاقاة

ص: 209

فقط و لا سبب لها غير ذلك، يكون العلم الإجمالي الأول لغوا و غير مؤثر، و ينحصر الأثر في العلم الإجمالي الثاني فقط، فيسقط الأصل في الملاقى (بالفتح) و الطرف بالمعارضة، و يجري الأصل في الملاقي بلا مزاحمة. هذا كله ما إذا لم يحمل الملاقي عن الملاقى (بالفتح) شيئا و كان من مجرد الملاقاة فقط، و إلا فالظاهر وجوب الاجتناب عنه أيضا خصوصا إن كان المحمول من الملاقى (بالفتح) معتدا به.

الثامن: عدم الفرق في تنجز العلم الإجمالي بين كون أفراده دفعية أو تدريجية

الثامن: لا فرق في تنجز العلم الإجمالي بين كون أفراده دفعية عرضية، أو تدريجية طولية. كما لا فرق في الثانية بين كون الزمان ظرفا للتكليف، كما إذا علم المكلف بأن بعض معاملاته في الأسبوع أو الشهر تكون ربوية. أو قيدا له، كما إذا علمت المرأة بأن حيضها ثلاثة أيام في جملة العشرة مثلا، و الوجه في ذلك كله فعلية التكليف في التدريجيات، كفعليته في الدفعيات، بلا فرق بينهما فتسقط الاصول في الأطراف بالمعارضة و يؤثر العلم بالتكليف أثره.

إن قلت: لا وجه لتعارضها، لأن من شرط التعارض وحدة الزمان، فإذا انتفى موضوع التعارض لا وجه لتأثير العلم الإجمالي، مع أن في التدريجيات تكون الأفراد المتدرجة التي توجد بعد ذلك خارجة عن مورد الابتلاء فعلا، فلا يكون العلم منجزا من هذه الجهة أيضا.

قلت: التعارض في اصطلاح الاصولي أعم من التناقض المنطقي، فلا يعتبر فيه وحدة الزمان، و لا إشكال في صدق كون الأفراد التدريجية مورد الابتلاء عرفا، كصدقه في الدفعيات أيضا.

إن قلت: كيف يثبت التكليف مع أن التمسك بعموم دليله يكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، لفرض تردد موضوعه بين أيام و أوقات و آنات.

قلت: نعم و لكن العلم بأصل وجوده في الجملة يكفي في قبح تفويته

ص: 210

عقلا و لا يلزم إثباته في وقت مخصوص، حتى يكون ذلك من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، فأصل الخطاب بالتكليف في الجملة متحقق و قبح تفويته عقلا ثابت، فيكون العلم الإجمالي منجزا لا محالة، بلا فرق بين ما كان الزمان ظرفا أو قيدا، فما يظهر من الشيخ قدّس سرّه من صحة الرجوع إلى البراءة في الثاني مخدوش. هذا كله إذا صلح العلم الإجمالي للداعوية، و أما إذا لم يكن كذلك، كما إذا علم الكاسب أنه مبتلى بمعاملة ربوية في سنة أو ستة أشهر - مثلا - و كانت معاملاته كثيرة، فالظاهر كونها من الشبهة غير المحصورة لا يتنجز العلم الإجمالي منه في ما إذا كان الأفراد دفعية عرضية، فضلا عما إذا كانت تدريجية طولية:

التاسع: لو اعتقد تنجز العلم الإجمالي في الأطراف الدفعية أو التدريجية

التاسع: لو اعتقد تنجز العلم الإجمالي في الأطراف الدفعية أو التدريجية و مع ذلك ارتكب بعضها، فبان عدم تنجزه لفقد شرط من شروطه، فهو من صغريات التجري.

العاشر: عدم الفرق في جميع ذلك بين أقسام الشبهة الموضوعية التحريمية أو المفهومية

العاشر: لا فرق في جميع ما تقدم بعد العلم بأصل التكليف بين أقسام الشبهة من الموضوعية التحريمية، و قد تقدمت. أو المفهومية كذلك، كما إذا تردد مفهوم الغناء بين مطلق الترجيع أو ما كان مع الطرب، ففي مورد الافتراق وجب الاحتياط، و يأتي ما يتعلّق بذلك أيضا. أو الموضوعية الوجوبية، كتردد الواجب يوم الجمعة بين الظهر و الجمعة. أو المفهومية كذلك، كتردد الصلاة الوسطى من حيث المفهوم بين الظهر و العصر و الصبح، و سواء كان منشأ الشبهة فقد النص، أو إجماله بعد العلم بأصل التكليف في الجملة. و أما حكم تعارض النصين، فقد تقدّم في بحث التعارض، فراجع.

ص: 211

الشبهة غير المحصورة:

لا ريب في تقوّمها بالكثرة في الجملة، لأن غير المحصورة من المفاهيم العرفية لا بد من مراجعة العرف فيها، كما في سائر المفاهيم العرفية، و ليس من الموضوعات التعبّدية، و لا المستنبطة حتى نحتاج إلى نظر الفقيه، فليس منها مطلق ما خرج بعض أطرافها عن مورد الابتلاء، أو سقط العلم فيه عن التنجز لجهة اخرى، لأن ذلك يوجب سقوط العلم عن التنجز في المحصورة فضلا عن غيرها، بلا فرق بينهما من هذه الجهة، و إنما الفرق بينهما من جهة اخرى تأتي الإشارة إليها.

إنما الكلام في حدّ الكثرة التي تكون موجبا لعدّ الشبهة غير محصورة، و الحق عدم صحة تحديدها بحدّ خاص، لاختلاف ذلك بحسب الموارد اختلافا واضحا، فرب كثرة في مورد تكون بها الشبهة غير محصورة مع كون تلك الكثرة بعينها في مورد آخر محصورة. فالمناط كله أن تكون كثرة الأطراف بحيث لم يمكن عادة جمعها في استعمال واحد بحسب المتعارف، و أن لا يرى العقلاء العلم الإجمالي فيها منجزا من كل حيثية و جهة، بل يقدمون بمقتضى فطرتهم على ارتكاب بعض الأطراف بلا تردد منهم في ذلك، و عدم صلاحية مثل هذا العلم للداعوية لإيجاب الموافقة القطعية و إيكال ذلك إلى الوجدان، أولى من تكلف إقامة البرهان، و بعد تحقق هذا الموضوع لا نحتاج في إثبات عدم وجوب الاجتناب في الشبهة غير المحصورة إلى دليل خارجي، بل تكون من الموضوعات التي يكون حكمها ملازما لتحققها خارجا.

و ما قيل: في تحديدها إن رجع إلى ما قلناه فهو، و إلا فتكون ظاهر الخدشة، كما أن الوجوه التي استدل بها على عدم تنجز العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة من الإجماع، و لزوم العسر و الحرج، و شمول أدلة البراءة

ص: 212

لها، و خروج الأطراف بها عن مورد الابتلاء.

مخدوشة: أما الإجماع فالإشكال فيه واضح، و أما الثاني فمع العسر و الحرج يرتكب و مع العدم يجتنب، و أما الثالث فلكونه منافيا للعلم الموجود في البين، و أما الأخير فلكونه خلف الفرض لما مرّ من أنه لا فرق في هذه الجهة بين المحصورة و غيرها، و يمكن أن يكون مرجع جميع ذلك إلى ما قلناه، فالمراد واحد و إن كانت العبارات مختلفة.

ثم إن القدر المتيقن من بناء العقلاء و مرتكزاتهم في سقوط العلم الإجمالي عن التنجز في الشبهة غير المحصورة إنما هو بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية، و أما سقوطه بالنسبة إلى المخالفة القطعية أيضا ففيه إشكال في الشبهتين التحريمية و الوجوبية، و الشك في التعميم للمخالفة القطعية يكفي في العدم. و لو شك في كون شبهة من المحصورة أو من غيرها، فهو مثل الشك في أن الأطراف في الشبهة المحصورة تكون مورد الابتلاء أو لا، و قد تقدّم حكمه فراجع. و هل يجري على الأطراف في الشبهة غير المحصورة حكم الشبهة البدوية من كل جهة أو لا؟ وجهان: أحوطهما الثاني.

المقام الثانى دوران الأمر بين الأقل و الأكثر:
الفرق بينه و بين الشك في المحصل، أقسام الشك في الأقل و الأكثر

و ليعلم أولا أن الفرق بينه و بين الشك في المحصل، أن الثاني إنما يتحقق في ما إذا علم التكليف بتمام حدوده و قيوده، و لم تكن شبهة و لا إجمال فيه ثبوتا و لا إثباتا، و كان معلوما و مبينا من كل جهة، و انحصر الشك في الموضوع الخارجي في أنه مفرغ للذمة عما اشتغلت به أو لا، كما إذا اغتسل أو توضأ و في إصبعه خاتم و شك في وصول الماء إلى البشرة معه و عدمه، و في مثله يجب الاحتياط عقلا و شرعا، بخلاف الأقل و الأكثر، فإن أصل تعلّق التكليف بالنسبة

ص: 213

إلى الأكثر مشكوك فيه ثبوتا و إثباتا، فلا علم بالتكليف بالنسبة إليه حتى يكون من الشك في المحصل، فلا ربط لأحدهما بالآخر أصلا.

ثم إن الشك في الأقل و الأكثر إما استقلالي - أي لا ترتبط الأجزاء بعضها مع بعض في مقام الامتثال - فيكون لكل جزء امتثال مستقل إن أتى به و مخالفة كذلك إن ترك، كما لو علم بأصل الدين و تردد مقداره بين الخمسة أو أكثر، و ظاهرهم الاتفاق على البراءة بالنسبة إلى الأكثر عقلا و نقلا إلا في الفائتة المرددة بينهما، فنسب إلى المشهور وجوب الأكثر، و قد تقدم أنه لا دليل لهم على ذلك من عقل أو نقل.

و إما ارتباطي، و هو ما إذا كان لجميع الأجزاء امتثال واحد و مخالفة واحدة، كأجزاء الصلاة و شرائطها مثلا و له موارد كثيرة، لأن الشبهة إما وجوبية أو تحريمية، و كل منهما إما بين الكل و الجزء، أو بين الجنس و النوع، أو بين المشروط و الشرط، و منشأ انتزاع الشرط إما جهة خارجية، أو ذهنية، أو اعتبارية.

و التحقيق - كما عليه أهله - هو البراءة عن الأكثر عقلا و نقلا في جميع ما يتصور من موارد الأقل و الأكثر مطلقا، لأدلة البراءة العقلية و النقلية. و ذهب جمع إلى الاحتياط.

و لا يخفى أن النزاع صغروي، فمن يقول بالبراءة يقول إن الشك بالنسبة إلى الأكثر شك في أصل التكليف، و المرجع فيه البراءة اتفاقا و لو كان معلوما لوجب الاحتياط، و من يقول بالاحتياط يقول إن التكليف معلوم بالنسبة إليه فوجب الامتثال، و لو كان مشكوكا فيه لصح الرجوع إلى البراءة، فيرجع النزاع إلى أن التكليف شمل الأكثر أو لا، و المرجع في التشخيص هو المتعارف بين العقلاء، فإن حكموا بتمامية البيان و الحجة بالنسبة إلى الأكثر فلا محيص إلا من الاحتياط، و إن ترددوا فيها أو حكموا بالعدم فيتحقق موضوع البراءة قهرا.

بيان الحق في المقام، إقامة الشكل الأول على ذلك

و إذا راجعنا العقلاء نراهم يعترفون بأنه ليس قيام الحجة بالنسبة إلى الأكثر كقيامها بالنسبة إلى الأقل، و ليس ثبوت الأكثر على كاهل المكلف، كثبوت الأقل

ص: 214

عليه، و هذا الفرق وجداني لكل من قطع النظر عن الشبهات و رجع إلى فطرته.

و خلاصة الكلام على هيئة الشكل الأول: أن الحجة لم تتم بالنسبة إلى الأكثر، و كلما لم تتم الحجة بالنسبة إليه يكون من مجاري البراءة، فيكون الأكثر من مجاري البراءة.

الاستدلال على وجوب الاحتياط و الجواب عنه

و قد استدل على وجوب الاحتياط بامور..

الأول: أن الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ كذلك.

و فيه: أن الاشتغال اليقيني بالنسبة إلى الأقل مسلّم، و بالنسبة إلى الأكثر مشكوك فيرجع فيه إلى البراءة.

الثاني: أن الأقل و الأكثر إن لوحظا بحدّ الأقلية و الأكثرية يكونان من المتباينين، و قد تقدّم وجوب الاحتياط فيهما.

و فيه: أنه لا وجه لملاحظتهما كذلك، بل تكون خلاف المتعارف، لأن الأقل بحسب الأنظار العرفية ملحوظ بعنوان اللابشرطية، فيجتمع مع الأكثر، لا أن يلحظ بحدّ الأقلية حتى يباينها و لا يجتمع معها.

الثالث: أن وجوب الأقل إما نفسي أو غيري، و الأول منفي بالأصل، و لا وجه للثاني مع عدم وجوب الأكثر، إذ لا معنى لوجوب المقدمة مع عدم وجوب ذي المقدمة.

و فيه: ما مرّ في بحث مقدمة الواجب من أن الأجزاء لا تتصف بالوجوب المقدمي، إذ لا تعدد بينهما و بين الكل بحسب الوجود. لكونها عين الكل وجودا، و الكل عينها كذلك، و إنما تتصف بالوجوب النفسي الانبساطي فيكون وجوب الكل عين وجوب الأجزاء بالأسر و بالعكس، و يكون مرجع الشك في المقام إلى أن الوجوب هل انبسط على تسعة أجزاء مثلا، أو على عشرة أجزاء، فيؤخذ بالمعلوم و يرجع في المشكوك إلى البراءة. هذا في وجوب الأجزاء.

و أما الشرط و المشروط فلا ريب في أن وجوب الشرط تابع لأصل وجوب المشروط من دون تحديد بحدّ خاص، و قد ثبت في المقام وجوب

ص: 215

الأقل دون الأكثر فيكون وجوب الشرط تابعا لوجوب الأقل لا محالة.

الرابع: أن الاقتصار على الأقل في مقام الامتثال امتثال إجمالي بخلاف إتيان الأكثر فإنه تفصيلي، و لا تصل النوبة إلى الأول مهما أمكن الثاني.

و فيه: أن كيفية الامتثال تابعة لأصل الاشتغال و بعد أن لم يكن اشتغال إلا بالأقل، فيدور الامتثال مداره أيضا.

نعم، لا ريب في حسن الاحتياط بالنسبة إلى ما احتمل الاشتغال به و هو الأكثر.

و لباب القول: أن جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان بالنسبة إلى الأكثر و عمومات أدلة البراءة الشرعية مما لا محذور فيه بعد وجود المقتضي - و هو الشك في أصل التكليف - فيصح الاقتصار على الأقل، كما استقر عليه رأي المحققين، بلا فرق بين جميع موارد الأقل و الأكثر حتى في الشبهات الموضوعية، وجوبية كانت أو تحريمية، نفسية كانت أو غيرية، لانحلال الحكم بانحلال الموضوع فيتحقق الأقل و الأكثر لا محالة، فلو علم بوجوب إكرام العلماء، و تردد شخص بين كونه عالما أو لا، أو تردد كلام بين كونه من الغيبة المحرمة أو لا، أو تردد صوت بين كونه من الغناء المحرم أو لا، أو تردد ثوب بين كونه مما لا تصح الصلاة فيه أو لا. إما لأجل كونه مما لا يؤكل لحمه، أو لجهة اخرى، فالمرجع في الجميع هو البراءة.

التمسك لعدم وجوب الأكثر بالأصل الأزلي

و قد يتمسك لعدم وجوب الأكثر بأصالة عدم الوجوب بالعدم الأزلي، بمعنى أن التكليف بأقله و أكثره لم يكن واجبا قبل البعثة ثم وجب، و مقتضى هذا الأصل عدم وجوب الأكثر إلاّ أن يدل دليل عليه، و يصح التمسك باستصحاب عدم الوجوب قبل البلوغ أيضا، و لكن ذلك كله مستغنى عنه بعد كفاية البراءة.

نعم، يصح التمسك به للتأييد و التأكيد.

الكلام في الشبهة المفهومية الدائرة بين الأقل و الأكثر

ثم إن الرجوع إلى البراءة لنفي الأكثر في الشبهة التحريمية إنما هو في

ص: 216

خصوص الشبهة الموضوعية منها. و أما المفهومية فالأكثر متيقن الحرمة، و الأقل هو المشكوك، فيرجع فيه إلى البراءة، فإذا تردد مفهوم البكاء الحرام في الصلاة بين كونه مع الصوت، أو مجرد البكاء و لو بلا صوت، فالمتيقن إنما هو ما كان مع الصوت، و في غيره يرجع إلى الأصل، و له نظائر كثيرة في الفقه. و حيث ان الاصوليين تعرضوا لبعض أحكام الخلل في المقام مع أنها من الأحكام الفقهية فنشير إلى بعضها، و قد ذكرنا التفصيل في كتاب (مهذب الأحكام).

بعض أحكام الخلل:

و هو إما عن عمد أو جهل أو إكراه و اضطرار أو عن سهو، و الجميع إما بالنقصان و إما بالزيادة. و لا ريب في كون النقيصة العمدية موجبة للبطلان، إذ لا معنى للوجوب إلاّ أن التعمد. في تركه موجب للبطلان، ما لم يكن دليل على الخلاف، كما في بعض أفعال الحج حيث ان تركه العمدي لا يوجب بطلان أصل الحج، بناء على أنه جزء للحج و ليس من الواجب في الواجب.

إن قيل: كيف يعقل الصحة مع فرض الجزئية و الترك العمدي، فإن كان ذلك مع بقاء وجوب الجزء حينئذ فهو من التناقض، و إن كان مع زواله حينئذ فهو خلف.

يقال: ببقاء الوجوب و بترتب العصيان و الكفارة، و بعد ذلك ينزّل الشارع العمل الناقص منزلة التمام تسهيلا على الأنام، كما يمكن أن يقال بزواله، و حيث أنه مستند إلى اختياره يعاقب عليه ثم ينزّل الشارع الناقص منزلة التام تسهيلا و امتنانا. و قد ادّعي الإجماع على أن الجاهل بالحكم كالعامد إلا ما خرج بالدليل، و ظاهرهم التسالم على أن النقص عن إكراه و اضطرار يوجب البطلان أيضا إلا مع الدليل على الخلاف، و لو لا ظهور التسالم لأمكن التمسك بحديث الرفع للصحة بعد شموله لجميع الآثار، كما تقدم. و محل تنقيح الفروع إنما هو في الفقه.

ص: 217

النقيصة السهوية:
اشارة

و الكلام فيها.

تارة: في تصوير التكليف بما عدا المنسيّ ثبوتا.

و اخرى: في دلالة الأدلة الأولية عليه.

و ثالثة: في الأدلة الثانوية.

الأولى: تصوير التكليف بالنسبة إلى المنسي و غيره، الجواب عنه الإشكال في تكليف غير المنسي بوجوه

أما الاولى فلا ريب في سقوط التكليف بالنسبة إلى خصوص المنسي، لأن التكليف به مع فرض بقاء النسيان تكليف بما لا يطاق، و مع زواله خلف الفرض. و أما بقاء التكليف بالنسبة إلى بقية الأجزاء.

فاشكل عليه: بأن الأمر بالمجموع قد ارتفع لأجل النسيان، و قد ارتفع الأمر المتعلّق بالبقية بارتفاع الأمر بالمجموع و لا تكليف مستقلا بالنسبة إليها حتى يكون التكليف باقيا، فينتفي التكليف بعد عروض النسيان مطلقا بالنسبة إلى المنسي و غيره من الأجزاء.

و اجيب عنه بوجوه..

منها: أنه مبني على كون وجوب الأجزاء وجوبا مقدميا لتحقق الكل، و أما لو كان وجوبا نفسيا انبساطيا فلا وجه لزوال وجوب بقية الأجزاء لسقوط وجوب بعضها، و تكون حكمة الانبساط هو الكل، لا أن يكون ذلك العلة التامة المنحصرة.

و منها: أن المأمور به في حق الجميع ناسيا كان أو غيره ما عدا الجزء المنسي، و قد اختص الذاكر بخطاب خاص بما نسيه الناسي.

و اشكل عليه: بأن المنسي ليس شيئا واحدا دائما، بل يختلف بالنسبة إلى المكلف الواحد فكيف بعامة المكلفين، فليفرض أنه صلّى الظهر مثلا جمع، فنسى أحدهم الفاتحة، و الآخر السورة، و ثالث الأذكار الواجبة، و رابع السجدة،

ص: 218

و خامس التشهد و هكذا، فما يكون الحدّ المشترك بين ذاكرهم و ناسيهم، و أي خطاب يختص بخصوص الذاكر منهم؟! فلا بد حينئذ من تصوير الجامع.

و فيه: أنه يمكن تصوير الجامع بنحو ما مرّ في تصويره في الصحيح و الأعم، فراجع.

و منها: أن التكليف المتوجه إلى الناسي ليس بعنوان النسيان حتى يلزم المحذور، بل بالعنوان الملازم له غالبا.

و فيه: أنه مع التفاته إلى الملازمة يلزم المحذور قهرا، و مع عدم التفاته يصير ملتفتا لا محالة، فإنه يسأل عن وجه اختصاصه بالخطاب فيلتفت فيعود المحذور أيضا.

فالحق أنه يمكن تصوير تكليف الناسي بما عدا المنسي، كما مر. و بجعله من صغريات تصوير الجامع بين الصحيح و الأعم، كما عرفت. مع أن الجزئية و التكليف متقوّم في الواقع بالملاك، و الوجوب كاشف عنه، و سقوط الوجوب لا يستلزم سقوط الملاك، كما هو معلوم فيصح تكليفه بالبقية ثبوتا، و يشهد لذلك العرف أيضا.

الثانية: بحسب دلالة غير المنسي بوجوه

و أما الثانية - أي بحسب دلالة الأدلة الأولية - فهي منحصرة في الإطلاق الواقعي النفسي الأمري و تحقق الملاك في البقية المنكشف، ذلك كله من كثرة اهتمام الشارع بمثل الصلاة، و من الأدلة الثانوية التسهيلية الواردة فيها.

و اشكل عليه: بأنها - لبيا كانت أو لفظية، و سواء كانت مثل «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» أو غيره - كاشفة عن دخل الجزء و الشرط في قوام المركّب و المشروط، و لا يراد منها شيء أزيد من ذلك، و لا تدل بشيء من الدلالات على وجوب البقية عند عروض النسيان، بل يكون مقتضاها ما تعارف و ارتكز في الأذهان من أن المركّب ينتفي بانتفاء أحد أجزائه، و المشروط ينتفي بانتفاء شرطه، لفرض كونها كاشفة عن الدخل في قوام الذات قيدا و تقيدا.

ص: 219

و لكنه باطل بما مرّ من أن استفادة وجوب البقية من سياق مجموع ما بأيدينا من الأدلة التي هي كدليل واحد على الوجوب، فتكفي الإطلاقات الأولية في الإيجاب لاحتفافها بالقرينة عليه مع حكم العرف في المركبات الاعتبارية، فإن سقوط بعض الأجزاء بالعذر لا يوجب سقوط البقية، و يكشف ذلك عن كونه مفاد الأدلة الأولية أيضا.

الثالثة: بحسب الأدلة الثانوية الدالة على وجوب البقية
اشارة

و أما الثالثة - و هي ورود الأدلة الثانوية الدالة على وجوب البقية - فهي كثيرة متفرّقة في أبواب العبادات، مذكورة في الفقه في الموارد المناسبة لها.

و يمكن التمسك بحديث الرفع أيضا، فإن إيجاب الإعادة أو القضاء مع النسيان مما لا يعلم فيكون مرفوعا، بل يمكن التمسك بخصوص حديث رفع النسيان أيضا، لأنه مقتض لوجوب التدارك إعادة أو قضاء فيكون ثابتا بثبوت المقتضي ثبوتا اقتضائيا، و هذا النحو من الثبوت يصح تعلّق الرفع التشريعي به لا رفع النسيان حقيقة حتى يقال: إنه غير قابل للرفع، و لا رفع العمل المنسي فيه عن صفحة العيان، فيكون خلاف الامتنان، إذ تجب الإعادة أو القضاء حينئذ. بل المراد ما قلناه.

و لباب الكلام: أنه يمكن إثبات الصحة في مورد النقيصة السهوية بالإطلاق المحفوف بالقرائن، و بحديث الرفع، و بأصالة عدم المانعية، و بالأدلة الثانوية.

حكم الزيادة:
اشارة

و البحث فيها..

تارة: في تصويرها.

و اخرى: في أقسامها.

ص: 220

و ثالثة: في حكمها.

الأولى: في تصويرها. الردّ على من قال بعدم إمكان تصويرها.

أما الاولى فقد يقال: بعدم تصويرها لأن المركب إن كان ملحوظا بشرط عدم الزيادة فمع الإتيان بها لم يأت بالمأمور به أصلا فكيف تتحقق الزيادة، فترجع حينئذ إلى النقيصة. و إن كان ملحوظا لا بشرط بالنسبة إلى الزيادة و عدمها فلا تضر الزيادة، فلا تتصور الزيادة حتى يبحث عنها.

و فيه.. أولا: أنه يصح تصويرها بحسب ظواهر الأدلة الشرعية، الدالة على تعيينها في أجزاء خاصة يكون إتيان غيرها زائدا عليها بمقتضى هذه الأدلة، و يشهد له ما ورد في سجدة العزيمة من «أنها زيادة في المكتوبة».

و ثانيا: تتصور الزيادة بحسب الأنظار العرفية، لأنه إذا عرضت الأجزاء المعهودة من المركب على العرف و المتشرعة يحكمون بأن كل ما زيد عليها يكون زائدا عرفا.

و ثالثا: يصح تصويرها بالدقة العقلية أيضا، بأن الأجزاء مأخوذة في المركّب على نحو صرف الوجود المنطبق على أول وجوداتها قهرا، فيسقط أمرها لا محالة، فيكون المأتي به ثانيا زائدا عليها حينئذ، لا أن تكون مأخوذة بشرط عدم الزيادة، أو بنحو لا بشرط حتى لا تتصور الزيادة.

الثانية: أقسام الزيادة

و أما الثانية: فهي إما بقصد الجزئية، أو بقصد عدمها، أو تكون بلا قصد بالنسبة إليهما، و الظاهر تحقق الزيادة عرفا في الجميع، و يشهد له ما ورد في الأخبار الناهية عن قراءة العزيمة في المكتوبة من أن السجود زيادة في المكتوبة، و لكن مورد بحث الفقهاء قدس سرّهم في الزيادة المبطلة خصوص القسم الأول دون الأعم منه و من الأخيرين، كما يظهر من كلماتهم و استدلالهم على البطلان. كما أن الظاهر أن مورد بحث الاصولى أيضا ذلك، لأنهم يستدلون أيضا بعين ما استدل به الفقهاء و يناقشون فيها، فراجع و تأمل.

ص: 221

الثالثة: حكمها، التمسك بأصالة عدم المانعية، و الاستصحاب و هو على أنحاء
اشارة

و أما الثالثة: فمقتضى أصالة عدم المانعية عدم البطلان بالزيادة مطلقا - عمدية كانت أو غيرها، كانت بقصد الجزئية أو لا - إلا مع الدليل على الخلاف، و يصح التمسك بالأصل الموضوعي أيضا، و هو استصحاب تلبّس المكلف بما كان متلبسا به و عدم خروجه عما كان عليه، فيجب عليه الإتمام و يحرم عليه القطع، و يصح استصحاب بقاء الصورة الاعتبارية أيضا، لأن لكل مركب - عرفيا كان أو شرعيا - وحدة صورية اعتبارية حاصلة من اعتبار المعتبر شارعا كان أو غيره، فمن مثل قوله عليه السّلام في الصلاة: «أولها تكبيرة و آخرها تسليمة» مع ملاحظة أدلة الأجزاء و الشرائط و الموانع و القواطع، تحصل صورة اعتبارية لها، و عند الشك في زوالها يستصحب بقاؤها فيجب الإتمام و لا يجب التدارك، و ليس بمثبت، كما هو واضح.

الإشكال على التمسك بالاستصحاب

نعم، لو اريد من هذا الاستصحاب نفي مانعية الزيادة و عدم قاطعيتها يكون مثبتا إن قلنا بأن ترتب الأحكام الوضعية الشرعية على الاستصحاب لا يكفي، بل لا بد من ترتب الحكم التكليفي عليه، و لكنه ممنوع فإنه يكفي فيه ترتب مطلق الأثر الشرعي تكليفيا كان أو وضعيا.

ثم إنه لا وجه لاستصحاب الصحة التأهّلية للأجزاء السابقة للقطع ببقائها، و لا استصحاب أثر المركّب للقطع بعدم تحققه بعد، فإنه إنما يتحقق بعد تمامه و إتمامه من كل جهة، و لا استصحاب الصحة الفعلية مطلقا، لأنه من الشك في الموضوع مع تحقق الزيادة التي يحتمل البطلان معها. هذا.

و يمكن دعوى: أن المانعية تدور مدار إحراز ثبوت المنع، و لا أثر لمشكوك المانعية أصلا، فلا تصل النوبة حينئذ إلى الأصل، و يمكن استفادة ذلك عن قول الصادق عليه السّلام: «إن الشيطان ينفخ في دبر الانسان حتى يخيل أنه قد خرج منه ريح، فلا ينقض الوضوء إلا ريح يسمع صوتها أو يجد ريحها».

و إطلاق قوله عليه السّلام: «لا تعوّدوا الخبيث من أنفسكم نقض الصلاة»، و هذا هو

ص: 222

المناسب لسهولة الشريعة و سماحتها.

ثم إنه قد استدل على البطلان بالزيادة العمدية..

تارة: بأنها إن كانت من القراءة و الذكر فتكون من الكلام الآدمي المبطل، و إن كانت من الأفعال فتخل بالموالاة.

و فيه: أن الكلام الآدمي المبطل لا يشمل القراءة و الذكر، و الإخلال بالموالاة في مطلق الزيادة العمدية ممنوع، و على فرضه فلا ربط له بالزيادة من حيث هي.

و اخرى: بأنها من التشريع المبطل.

و فيه: أنه مبني على سراية القبح الفاعلي إلى الفعل الخارجي، و هو أول الكلام، مع أنه مبني على كون الزيادة عن اقتضاء عدم الجزئية. و هو غير معلوم، إذ من الممكن أن تكون لا اقتضاء بالنسبة إليها في الواقع و إنما لم يؤمر بها تسهيلا. إلا أن يقال: إن العمل حينئذ من مظاهر التجري على المولى فلا يصلح للتقرب إليه تعالى، و لكنه فاسد لأنه متوقف على ثبوت المبغوضية، و هو أول الدعوى.

و ثالثة: بإطلاق قوله عليه السّلام: «من زاد في صلاته فعليه الإعادة».

و فيه: أنه مقيد بالركن، أو الركعة، لقوله عليه السّلام: «لا تعاد الصلاة من سجدة و إنما تعاد من ركعة». فلا دليل يصح الاعتماد عليه على البطلان بالزيادة مطلقا، و لكن البطلان بالعمدية منها من المسلّمات بين الأصحاب، و ادعي عليه الإجماع: و التفصيل يطلب من الكتب الفقهية، فإن هذه المباحث فقهية لا أن تكون اصولية. و قد تعرضنا لها في كتاب (مهذب الأحكام) فراجع.

ص: 223

ما يتعلّق بالجزء و الشرط:
اشارة

إذا ثبتت جزئية شيء أو شرطيته، فهل يكون مقتضى القاعدة ثبوتهما مطلقا حتى يسقط التكليف بالكل و المركب عند تعذرهما، أو يكون مقتضاها ثبوتهما في الجملة حتى يسقط تكليفهما فقط حينئذ دون التكليف بالكل و المشروط؟ كل محتمل، و يأتي التفصيل.

قد يقال: إن هذه المسألة من فروع بحث الصحيح و الأعم، فعلى الأول يلغو البحث هنا، لانتفاء الصحة بتعذر الجزء و الشرط، و على الثاني يكون له مجال.

و فيه: أن البحث عن الصحيح و الأعم بلحاظ نفس المستعمل فيه مع قطع النظر عن الجهات الأخر، و المقام بلحاظ الاستظهار من الأدلة و لو كان ذاك البحث بهذا اللحاظ أيضا، لكان المقام من فروعه، كما لا يخفى.

توهم اختصاص البحث في المقام ببعض الموارد و الإشكال، و الردّ على التوهم بأن البحث مبني على ثبوت

و قد يتوهم: اختصاص بحث المقام بما إذا لم يثبت الجزئية و الشرطية بمثل «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»، و «لا صلاة إلا بطهور». فإن هذه الجملة في نفي الحقيقة عند عدم الجزء و الشرط مما لا ينكر.

و فيه: أن جميع هذه التراكيب سيقت لبيان الجزئية و الشرطية، فلا فرق من هذه الجهة بينها و بين غيرها.

نعم، لا يبعد استفادة كثرة الاهتمام بما ذكر فيها من الجزء و الشرط و تقديمها على غيرها عند الدوران.

و قد يتوهم أيضا: أن البحث في المقام مبني على ثبوت الأجزاء أو الشرائط بأوامر متعددة دون ما إذا كان بأمر واحد.

و فيه: أنه بعد ما ثبت من انحلال الأمر الواحد المتعلّق بالكل بانحلال القيود المعتبرة فيه و انبساطه على الجميع، يصير ما كان بأمر واحد مثل ما كان بأوامر متعددة، فلا فرق من هذه الجهة أيضا.

ص: 224

أقسام دليل المقيد و القيد:

و هي أربعة: لأنهما إما مطلقان من كل جهة، أو يكون الأول مهملا و الأخير مطلقا، أو بالعكس، أو يكونان مهملين من جميع الجهات.

أما الأولان فلا إشكال في سقوط المأمور به بتعذر القيد، لإطلاق دليله الشامل لصورة التعذر أيضا، و لا أثر لإطلاق المقيد في القسم الأول، لأن إطلاق دليل القيد من القرينة المتصلة به، الكاشفة عن أنه لا تكليف بالمقيد مع تعذر القيد، فلا وجه لإطلاقه حينئذ. و كذا القسم الأخير، لعدم تمامية الحجة إلا في صورة وجود القيد.

و أما الثالث - و هو إهمال دليل القيد و إطلاق دليل المقيد - فلا إشكال في وجوب إتيان البقية بعد تعذر القيد، لفرض إطلاق دليل المقيد الشامل لصورة التمكن من القيد و عدمه، هذا بحسب مقام الثبوت.

و أما الإثبات فيستفاد من القرائن الخارجية التي منها الأدلة الثانوية الصورة الثالثة. و قد فصل ذلك في الفقه، و قد جرت سيرة الفقهاء على التمسك بالإطلاقات عند تعذر القيد، و التمسك بقاعدة الميسور على ما يأتي التعرض لها.

و أما الاصول العملية فلا أصل في البين إلا استصحاب وجوب الباقي عند تعذر القيد.

و أشكل عليه: بأنه مبني على جريانه في القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي أو المسامحة العرفية في المستصحب، و ذلك يختلف باختلاف الموارد.

و يمكن دفع الإشكال بأنه مبني على كون وجوب الأجزاء غيريا، و أما بناء على أن وجوبها عين وجوب الكل بنحو الانبساط. فيستصحب عين الوجوب

ص: 225

الشخصي المنبسط على الأجزاء، و ليس ذلك من استصحاب الكلي، كما لا يخفى.

و أما نفي القيدية و إثبات وجوب البقية بحديث الرفع، فاشكل عليه بأنه من الامتنانيات التي يرفع به التكليف لا أن يثبت.

و فيه: أن الإثبات إنما يكون بالأدلة الأولية لا بحديث الرفع حتى يلزم الإشكال، فحديث الرفع يرفع وجوب الإعادة أو القضاء عند ترك الجزء المقدور، و أما وجوب البقية فبالأدلة الأولية.

بعض الكلام في قاعدة الميسور، التمسك بالاخبار الإشكال عليها و الجواب عنه

و استدل أيضا بقاعدة الميسور، و هي من القواعد الارتكازية في الجملة و لم يردع عنها الشرع بل قررها في الجملة بقوله صلّى اللّه عليه و آله: «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» الوارد في جواب السؤال عن الحج و أنه في كل عام أو في العمر مرة. و قوله صلّى اللّه عليه و آله: «الميسور لا يسقط بالمعسور»، و قوله عليه السّلام: «ما لا يدرك كله لا يترك كله». و قد تسالم الأصحاب - قديما و حديثا - على نقلها و العمل بها، و جرت السيرة على الاستدلال بها.

و لكن استشكل عليها.. تارة: بقصور السند.

و يرد: بالانجبار بالعمل و الاهتمام بالنقل، مضافا إلى ما تقدم من كون القاعدة عقلائية في الجملة يكفي فيها عدم الردع.

و اخرى: بأن المراد بالشيء في الحديث الأول الكلي لا الكل.

و يرد: بأن الشيء أعم منهما، كما لا يخفى، فيشمل الكل و أجزاءه و الكلي و أفراده.

و ثالثة: بأن كلمة (من) بيانية و لفظ (ما) وقتية، فيكون المعنى إذا أمرتكم بشيء فأتوا به وقت استطاعتكم، فيكون من أدلة اعتبار القدرة في المأمور به، و يكون إرشادا إلى حكم العقل.

و فيه: أن كلمة (من) ظاهرة في التبعيضية، و لفظ (ما) في الموصولة إلا مع

ص: 226

القرينة على الخلاف، و لا قرينة كذلك.

و استشكل على الأخيرين أيضا: بأن المراد بالميسور هو الكلي، و هو المراد بكلمة (ما) في «ما لا يدرك كله» أيضا.

و فيه: أن الظاهر هو التعميم للكل و الكلي و لا وجه للتخصيص بالثاني.

ثم إن للميسور مراتب متفاوتة جدا فلا بد في التمسك بها من صدق الميسور إما بدليل شرعي يدل عليه - نصا كان أو إجماعا - و إما من صدقه في عرف المتشرعة، و مع عدم ذلك كله لا وجه للتمسك بها. و أما الأدلة الامتنانية التسهيلية فهي كثيرة وردت في أبواب الخلل، كقاعدة «لا تعاد الصلاة إلا من خمس» و غيرها.

فائدة:
لو دار الأمر بين كون شيء شرطا في العبادة أو مانعا

، مثل الجهر و الإخفات في صلاة يوم الجمعة، فالظاهر وجوب الاحتياط، للعلم بأصل التكليف و الشك في الفراغ بالاكتفاء بأحدهما.

ص: 227

شروط الاصول الاحتياط
اشارة

لا يعتبر في الاحتياط شيء إلا حسنه، فما دام يكون حسنا لدى العقلاء يصح و لو مع وجود الحجة المعتبرة على التكليف وجودا أو عدما، و إذا حكموا بعدم حسنه يصير لغوا، بل قد يكون قبيحا و حراما، كما إذا كان مخلا بالنظام أو وصل إلى حدّ العسر و الحرج أو الوسواس، بلا فرق في ذلك كله بين العبادات و المعاملات، و لا بين التمكن من الامتثال التفصيلي و عدمه، و لا بين ما كان مستلزما للتكرار و غيره. كل ذلك للأصل و إطلاقات الأدلة و عموماتها من غير ما يصلح للتخصيص و التقييد إلا امور ظاهرة الخدشة.

الجواب عن أن الاحتياط مخالف لقصد الوجه و الجزم في النية، مراتب الامتثال

منها: أن الاحتياط مخالف لاعتبار قصد الوجه و الجزم بالنية.

و فيه.. أولا: أنه لا دليل من عقل أو نقل على اعتبارهما في العمل. بل مقتضى الأصل و الإطلاقات عدم الاعتبار.

و ثانيا: أنه على فرض الاعتبار يكفي قصد الوجه بالتكليف الواقعي الموجود في البين، بل يصح قصد الوجه في كل واحد من المحتملات طريقا إلى الواقع لا بنحو الموضوعية فيه.

و منها: أن مراتب الامتثال أربعة لا تصل النوبة إلى كل لا حق مع التمكن من سابقه، و هي الامتثال العلمي التفصيلي، و العلمي الاحتمالي، و الظني، و الاحتمالي.

و فيه: أن التقسيم صحيح، و لكن الحكم بأنه لا تصل النوبة إلى كل لا حق

ص: 228

مع التمكن من سابقه بلا دليل من نص أو إجماع، و إن كان منشؤه ما مرّ من اعتبار قصد الوجه و الجزم بالنية، فقد مرّ ما فيه و لا وجه للتكرار.

الجواب عن أن الاحتياط المستلزم للتكرار لهو و عبث

و منها: أن الاحتياط المستلزم للتكرار لهو و عبث بأمر المولى مع التمكن من الامتثال التفصيلي.

و فيه: أن اللهو و العبث إما قصدي أو انطباقي، و الأول مفروض الانتفاء، و الثاني أيضا مفروض العدم، و على فرض الصدق، فهل يكون هذا القسم من اللهو و العبث حراما نفسيا أو غيريا، أو موجبا لفقد شرط أو جزء في المأمور به، و الأولان منفيان بالأصل، و الثاني مفروض العدم لفرض كون العمل واجدا لجميع الأجزاء و الشرائط، و على فرض كون هذا القسم من العبث حراما فهو في كيفية الامتثال لا في أصله حتى يوجب البطلان، و لذا استقرت آراء المحققين على جواز التقليد مع التمكن من الاجتهاد و بالعكس، و على جواز تركهما و العمل بالاحتياط.

ثم إنه يجزي في الاحتياط الإتيان بالاحتمالات المعتنى بها عند العقلاء و الفقهاء، و لا يجب الإتيان بجميع الاحتمالات، و إلا فهو من الوسواس أو ينجر إليه.

الفحص في مورد الاصول العملية:
اشارة

يعتبر الفحص في الأدلة في صحة جريان هذه الاصول الثلاثة - البراءة، و التخيير، و الاستصحاب - و البحث فيه..

تارة: عن وجوب أصل الفحص.

و اخرى: عن مقداره.

و ثالثة: عن حكم العمل قبل الفحص.

ص: 229

أما أصل وجوبه فتدل عليه الأدلة الأربعة..

فمن العقل: قاعدة دفع الضرر المحتمل الجارية في العمل لكل من الاصول اللفظية و العملية قبل الفحص في الأدلة، فلا موضوع لاعتبارها مطلقا قبل الفحص، لأن الشك في الاعتبار يكفي في عدمه - كما مر سابقا - بلا فرق بين الاصول اللفظية و العملية فلا موضوع لاعتبار أصالة الإطلاق و العموم و البراءة، و التخيير، و الاستصحاب قبل الفحص في الأدلة.

و من الكتاب: بآية النفر و هي قوله تعالى: فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ، و السؤال و هي قوله تعالى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ .

و من السنة: بالأخبار المستفيضة الدالة على الحض و الترغيب إلى طلب العلم و التوبيخ على تركه، كما لا يخفى على من راجع الكافي و البحار.

و من الإجماع: إجماع الإمامية بل المسلمين عليه، بل يصح أن يقال إن موضوع الاصول مطلقا الشك المستقر، و لا استقرار له قبل الفحص، فهو خارج عن مورد الاعتبار تخصصا، و مقتضى إطلاقها عدم الفرق في وجوبه بين الشبهات الحكمية و الموضوعية، إن كان لها المعرضية العرفية للوقوع في خلاف الواقع، و لم يكن مطلق الجهل عذرا و لو مع التقصير.

و استدل على عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية..

تارة: بالإجماع.

و اخرى: بأن بيانها ليس من عهدة الشارع حتى يتفحص عنها في الأدلة.

و يرد الأول بعدم تحققه لذهاب جمع إلى وجوبه في جملة منها مع عدم دليل عليه بالخصوص.

و الثاني بأنه لا يعتبر في الفحص أن يكون في الأدلة مطلقا، و إنما يختص ذلك بخصوص الاصول الحكمية و أما في غيرها فإنه في كل ما يرتفع بالفحص

ص: 230

فيه المعرضية العرفية للوقوع في خلاف الواقع.

نعم، في مسألة الطهارة و النجاسة و غيرها مما علم من مذاق الشرع التسهيل و المسامحة فيها. لا وجه للفحص، بل قد لا يجوز مع إثارة الوسواس، و يمكن أن يكون مراد المجمعين ذلك أيضا، فيرتفع النزاع من البين.

و أما مقدار وجوب الفحص فهو حصول اليأس المتعارف عن الظفر بالدليل في الشبهات الحكمية، و خروج الشبهة عن المعرضية للوقوع في خلاف الواقع في الشبهات الموضوعية. و أما حكم العمل قبله فسيأتي إن شاء اللّه تعالى. و أما ما يجب فيه الفحص لأجل الاصول الحكمية فهو الأمارات، و الاصول الموضوعية، و القواعد المعتبرة.

و ينبغي التنبيه على امور:
الأول هل أن وجوب التعلم نفسي أو طريقي أو مقدمي؟

الأول: تقدم أن وجوب التعلم لقاعدة دفع الضرر المحتمل في تركه، و هل هو نفسي، أو مقدمي أو طريقي محض. الحق هو الأخير، لأن الأول يتوقف على ثبوت الملاك فيه في مقابل الواقع و لا دليل عليه، بل مقتضى تسالم الكل على أنه طريق إلى الواقع و مطلوب لأجل العمل، فيكون بطلانه كبطلان الثاني أيضا، لأنه إما مقدمة الوجود و شرط الصحة، و هو خلاف ما ثبت من صحة عمل الجاهل مطلقا إن طابق الواقع. أو شرط الوجوب، و هو خلاف ما تسالموا عليه من اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل مطلقا، فيتعين الأخير، و حينئذ فيحمل ما يستفاد منه كونه مقدميا على الطريقية المحضة، أو كون المقدمية حكمة للإيجاب لا قيدا في الوجوب، و إنما ذهب إلى النفسية من ذهب لدفع شبهة وردت في المقام، كما يأتي إن شاء اللّه تعالى، فوجوب التعلم نظير وجوب الاحتياط، فكما لا وجه لاحتمال النفسية و المقدمية فيه، فكذلك في التعلم أيضا.

ص: 231

الثاني ملاك وجوب التعلم

الثاني: ملاك وجوب التعلم التحفظ على الواقعيات و الاهتمام بها و إمكان الوصول إليها، و هذا من قبيل اللوازم الذاتية له، لا يتغير و لا يتبدل بكونه بعد تنجز الواقع أو قبله، فلو لم يدخل وقت التكليف و علم المكلف أنه لو ترك التعلم قبل الوقت لفات عنه التكليف بعده، لحكم العقل و العقلاء بوجوبه قبل الوقت بعين الملاك الذي يحكمون بالوجوب بعده، و هذا من الوجدانيات لكل من رجع إلى وجدانه و في مراجعة العرف و الوجدان غنى عن إقامة البرهان، فيندفع الإشكال المعروف الذي استصعبه القوم و أطيل الكلام في دفعه و ذهبوا يمينا و شمالا: من أنه لو ترك المكلف التعلّم قبل الوقت ففات عنه التكليف في وقته لا وجه لعقابه، لأنه إن كان على ترك نفس التكليف يكون من العقاب على غير المقدور، لأن القدرة على الشيء متفرعة على العلم به و إن كان على ترك التعلم، فلا وجه للعقاب عليه لأن وجوبه ليس بنفسي، و العقاب لا بد و أن يكون على ترك الواجب النفسي، كما مرّ في مباحث الألفاظ.

و يدفع أصل الإشكال بأن العقاب على ترك الواجب النفسي المنتهى بالآخرة إلى الاختيار - و هو ترك التعلم - و يصدق عليه عرفا أنه ترك الواجب بعمده و اختياره فيصح عقابه عليه، فلا تصل النوبة في دفعه إلى القول بالوجوب النفسي للتعلم، أو القول بالواجب المعلق.

بدعوى: أن الوجوب للتكليف قبل الوقت فعليّ و الواجب استقباليّ، أو تصحيح ذلك بالشرط المتأخر، إذ كل ذلك بعيد عن الأذهان العرفية، و خلاف المشهور مع عدم الدليل عليها و عدم وجود ملزم للقول بها.

الثالث دوران صحة العمل و بطلانه مدار المطابقة للوظيفة و عدمها

الثالث: تدور صحة العلم و بطلانه على المطابقة للوظيفة المقررة له و عدمها، فكل عمل صدر من كل عامل - عالما كان أو جاهلا، قاصرا كان أو مقصرا، ملتفتا أو غيره - إن طابق الوظيفة المقررة شرعا للعمل صح، و إلا فلا يصح.

ص: 232

نعم، لو كان لنفس العلم من حيث هو دخل في الصحة لاختصت بصورة العلم فقط، و هو خارج عن محل البحث، مع أنه نادر بل غير واقع في ما أعلم، فيصح ما اشتهر من صحة عمل تارك الاحتياط و الاجتهاد و التقليد إن طابق الواقع، و لا معنى لكون التعلم طريقا محضا إلا هذا، كما هو اوضح من أن يخفى.

الرابع تلازم الصحة و سقوط العقاب، الإشكال في بعض الموارد و الجواب عنه و تعيين الحق في المقام
اشارة

الرابع: الصحة و سقوط العقاب متلازمان شرعا و عرفا، بل و عقلا أيضا، فكل مورد صح العمل لا وجه للعقاب بالنسبة إليه، و كل مورد يعاقب على العمل لا وجه لصحته، و قد خرج عن هذه الكلية الجهر في موضع الإخفات و بالعكس إن كان عن جهل، و الإتمام في موضع القصر كذلك، فأفتوا فيهما بالصحة للنص، و حكموا بتحقق الإثم أيضا مع التقصير و عدم وجوب الإعادة أو القضاء، و لهما نظائر اخرى في الفقه، كما لا يخفى على التخبير، فيحصل إشكال، أنه لا وجه للصحة مع تحقق الإثم لأنهما متنافيان.

و قد اجيب عن الإشكال بوجوه..

منها: أن ما حكم فيها بالصحة و العقاب من باب تعدد المطلوب، فقد تعلّق طلب بذات المأمور به و طلب آخر بالخصوصية، فامتثل أحد الطلبين و فوت الآخر عن تقصير، فيصح ما امتثله لوجود المقتضي و فقد المانع، و يعاقب على ترك الآخر المنتهى إلى تقصيره.

و فيه: أنه خلاف ظاهر الأدلة الدالة على أن التكليف واحد مشتمل على أجزاء و شرائط، فهذا الوجه حسن ثبوتا، و لا دليل عليه إثباتا، بل ظاهر الدليل خلافه.

و منها: أن المأمور به إنما هو الذات، و القيد واجب نفسي لا أن يكون قيدا لصحة العمل.

و فيه: أنه مثل السابق بلا فرق بينهما إلا في كيفية التعبير.

و منها: أن المأتي به ليس بمأمور به و إنما هو شيء مسقط للواجب.

ص: 233

و فيه: أنه خلاف ظواهر الأدلة و كلمات الأجلة.

و منها: أن المقام من صغريات الترتب.

و فيه: أن مورده ما إذا كان في البين أمران فعليّان من كل جهة مع تمامية الملاك و المصلحة في كل منهما، و المقام ليس كذلك.

و منها: أن المأتي به واجد لمقدار من المصلحة لا تبلغ المصلحة التامة، و لا يمكن درك المصلحة التامة مع الإتيان بما فيه المصلحة الناقصة، فيصح لوجود المصلحة في الجملة، و يأثم لتفويت المصلحة التامة التي لا يمكن تداركها. فتأمل.

هذا، و يمكن المناقشة في أصل ثبوت العصيان إن لم يكن إجماع في البين، فيرتفع أصل الإشكال، و يمكن أن يقال إن العقاب إنما هو للتحفظ على عدم التقصير في المستقبل و الاهتمام بتكاليفه.

ثم إنه قد ذكر الفاضل التوني قدّس سرّه للبراءة شرطين آخرين..
الأول: أن لا يكون إعمال الأصل موجبا لثبوت حكم شرعي من جهة اخرى.

فإن كان مراده أن مثبتات أصالة البراءة ليست بمعتبرة، فلا اختصاص له بالبراءة، بل مثبتات الاصول مطلقا لا اعتبار لها، كما يأتي إن شاء اللّه تعالى، بل لا اعتبار بمثبتات الأمارات أيضا ما لم يدل على اعتبارها قرينة معتبرة عرفا.

و إن كان مراده بإجراء الأصل في أحد طرفي العلم الإجمالي لا يثبت الحكم المعلوم بالإجمال في الطرف الآخر. فهو أيضا حق و لا اختصاص له بالبراءة، بل الاستصحاب أيضا كذلك، مع أنه لا وجه لجريان الأصل في أطراف العلم الإجمالي، كما تقدم.

و إن كان مراده أن الأصل لا يثبت موضوع حكم شرعي فلا دليل عليه من عقل أو نقل، إلاّ إذا كان موضوع الحكم الآخر نفي الحكم واقعا و في اللوح

ص: 234

المحفوظ، و لا ريب أن بالأصل لا يثبت ذلك، و لكنه من مجرد الفرض، كما لا يخفى إذ الفقه غالبه، بل كله مبني على الأحكام الظاهرية التي تكون مؤديات الأمارات و مجاري الاصول. و إثبات حكم ظاهري في موضوع بجريان الأصل في موضوع آخر كثير شائع، كمن بلغ ماله إلى حدّ الاستطاعة، و شك في أن عليه دينا أو لا، فبأصالة البراءة عن الدين يجب عليه الحج لوجود المقتضي و فقد المانع فتشمله الأدلة قهرا. و كمن شك أن عليه صوما واجبا أو لا، فبأصالة البراءة عنه يثبت عدمه، فيستحب له الصوم المندوب و يصح منه. و كمن كان عنده ماء و شك في حليته و حرمته و بأصالة الإباحة تثبت إباحته فيجب عليه الطهارة المائية دون الترابية، إلى غير ذلك مما لا يحصى.

الشرط الثاني: - مما ذكره الفاضل التوني - أن لا يكون في إعمالها الضرر
اشارة

على النفس أو الغير ممن يكون محترما شرعا.

و هذا و إن كان حقا لا ريب فيه و لكن لا اختصاص له بأصالة البراءة، بل لا مجرى للاصول العملية مع قاعدة من القواعد المعتبرة، بلا فرق بين قاعدة الضرر و غيرها، فإنها مقدمة على الأمارات المثبتة للأحكام فضلا عن الاصول العملية.

الكلام في قاعدة الضرر، و فيها جهات من البحث
اشارة

ثم إنه لا بأس بالإشارة إلى قاعدة: «لا ضرر و لا ضرار» إجمالا، و فيها جهات من البحث..

الأولى: كونها من القواعد العقلائية

الاولى: أنها من القواعد العقلائية الدائرة بين الناس في جميع الملل و الأديان، إذ السلطنة على النفس و العرض و المال مما اتفقت عليه آراء العقلاء، و التنقيص في كل واحد منها من المقبّحات لديهم، و يؤاخذون من تصدى لذلك و يلومونه و يعاقبونه، و على ذلك يدور نظام معاشهم. فهذه القاعدة من صغريات أصالة احترام النفس و العرض و المال التي هي من أهم الاصول النظامية العقلائية، بل الضرر من الظلم المنفي بالأدلة الأربعة، فلا وجه لإتعاب النفس في

ص: 235

سند حديث نفي الضرر و الضرار و في وجه دلالته. هذا بالنسبة إلى الضرر على الغير.

و أما بالنسبة إلى إضرار الشخص على نفسه أو ماله فهو أيضا من القبائح العقلائية لو لم يكن غرض راجح في البين، و هكذا بالنسبة إلى هتك الإنسان عرض نفسه، فلا ريب في قبحه أيضا عند جميع العقلاء، فيكفي في مثل هذه القاعدة العامة البلوى عدم وصول الردع من الشارع و كيف و قد ورد التقرير، فادعى في الإيضاح في باب الرهن تواتر الأخبار على نفي الضرر، و ادعى صاحب الوسائل كثرة الأخبار الواردة، و عن بعض محشي رسائل شيخنا الأنصاري ضبط عشرة منها و فيها الموثق و غيره، مضافا إلى جريان السيرة المعصومين عليهم السّلام، و فقهاء الفريقين على التمسك بها، فلا وجه للبحث من هذه الجهة للقطع بصدور هذه الجملة على اختلاف التعبيرات، ففي بعضها «لا ضرر و لا ضرار»، و في بعضها بزيادة (في الإسلام)، و في بعضها بزيادة (على المؤمن).

إذ بعد كون القاعدة من العقلائيات المقررة يكون ذكر الإسلام أو على المؤمن من باب المثال و ذكر أفضل الأفراد، و إلا فلا ضرر و لا ضرار بالنسبة إلى أهل الذمة أيضا.

نعم، من أباح الشارع نفسه و عرضه و ماله يكون خارجا عنها قهرا. فما لم تذكر فيه الجملتان أشير فيه إلى كون القاعدة عقلائية، و ما ذكرنا فيه أشير فيه إلى أن الإسلام و المؤمن أولى بأن يعمل فيه هذه القواعد، لكون الإسلام الذي هو الأتم الأكمل و كون المؤمن أعزّ عند اللّه من كل شيء، فلا بد و أن يهتم بعدم الإضرار به اهتماما زائدا على غيره. فليس المقام من دوران الأمر بين أصالة عدم الزيادة و عدم النقيصة حتى يقال بتقديم الاولى على الأخيرة في المحاورات، لأنه في ما إذا لم يتعلّق غرض بكل واحد من الزيادة و النقيصة، كما لا يخفى.

ثم إن المتفاهم من استعمالات مادة الضرر في المحاورات النقص، سواء

ص: 236

كان ماليا أو نفسيا أو عرضيا، و تطلق في مقابل النفع و بينهما التضاد عرفا فيمكن ارتفاعهما، كمن باع متاعه برأس المال مثلا فلا يصدق بالنسبة إليه النفع و لا الضرر. و من فسّره بعدم النفع، فإن أراد ما ذكرناه فهو و إلا يكون من التفسير بالأعم.

و أما الضرار فهو إما مصدر باب المفاعلة، أو اسم مصدر بمعنى الضرر، و على أي تقدير يكون ذكره لأجل التأكيد و الاهتمام بنفيه. و أما احتمال أنه فعل الاثنين لما هو الأصل في باب المفاعلة فمردود لعدم مناسبته في مورد الأخبار أولا، و عدم كون الأصل في المفاعلة من الطرفين ثانيا، كما في الاستعمالات الصحيحة كقوله تعالى: يُخادِعُونَ اللّهَ ، وَ مَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ و يُراؤُنَ النّاسَ و وَ أَنْفِقُوا ، و شَاقُّوا ، و وَ سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ إلى غير ذلك.

نعم، الظاهر تقوّمها بتكرر صدور الفعل، سواء كان من فاعل واحد - و لا يبعد إرادة ذلك منه في المقام - أو من فاعلين، بخلاف باب التفاعل، فإنه متقوّم بفاعلين، و لذا يقال: تضارب زيد و عمرو، و أما في المفاعلة فإنه يقال: ضارب زيد عمرا، مع أنه لا ثمرة عملية بين كونه تأكيدا أو تأسيسا، لأن طبيعي الضرر منفي، سواء كان من الواحد أو من اثنين.

الثانية: الفرق بين الضرر و الحرج

الثانية: الفرق بين الضرر و الحرج مع كونهما قاعدتين معمولتين في جميع الأبواب، أن الثاني أعم موردا من الأول، لشموله للمشقة التي لا تتحمل عادة و لو لم يكن نقص فيها نفسا أو مالا أو عرضا.

و بعبارة اخرى: الامور إما دون الطاقة، أو بقدرها، أو فوقها. و الأول مورد التكليف، و الثاني مورد الحرج، و الأخير مورد الضرر، و قد ورد في جملة من الأخبار أن التكليف دون الطاقة فراجع.

ثم إن الظاهر كون المراد بالضرر في القاعدة الضرر الشخصي. سواء كان

ص: 237

ضررا نوعا أيضا أو لا. كما أن الظاهر أن المراد به الواقعي دون الاعتقادي.

نعم، لو كان اعتقاد الضرر مستلزما لحصول الخوف، و كان تحقق الخوف موجبا لرفع الحكم شرعا، يترتب رفع الحكم على الاعتقاد من هذه الجهة، لأن الخوف أمر وجداني لا واقع له غير وجدانه لا أن يكون اعتقاد الضرر موجبا لرفع الحكم، كما لا يخفى.

الثالثة: المراد من كلمة (لا) ذكر الإشكال المعروف

الثالثة: كلمة «لا» المذكورة في الحديث: «لا ضرار و لا ضرر في الإسلام» تامة و ليست ناقصة، لأصالة عدم الاحتياج إلى الخبر، و هي لنفي الحقيقة، لأنه المنساق من موارد استعمالاتها، فتكون الجملة حينئذ إخبارا عن عدم تحقق الضرر و نفي حقيقته خارجا في الإسلام، و هو كذب و الشارع منزه عنه، و لهم في دفع الإشكال أقوال:

الأول: الحذف و الإضمار، أي لا ضرر غير متدارك في الإسلام.

و فيه: أنه خلاف الأصل و الظاهر، مع أنه إن كان في مقام الإخبار فيعود المحذور، و إن كان إنشاء لإيجاب التدارك فهو يحتاج إلى قرينة، و هي مفقودة.

الثاني: أن النفي بمعنى النهي، أي: يحرم الإضرار على النفس و على الغير في الإسلام، كما في «لا رفث و لا فسوق و لا جدال في الحج»، و «لا رضاع بعد فطام»، و «لا رباء في الإسلام» إلى غير ذلك مما هو كثير.

و فيه: أنه احتمال حسن ثبوتا، و لكن لا دليل عليه إثباتا بعد إمكان دفع الإشكال بغيره.

الثالث: ما عن صاحب الكفاية من أن النفي حقيقي بالنسبة إلى الحكم، و ادعائي بالنسبة إلى الموضوع، فيكون المعنى أن الموضوع الضرري لا حكم له. و يصير من نفي الحكم بلسان نفي الموضوع.

و بعبارة اخرى: يكون النفي بالنسبة إلى الحكم من الوصف بحال الذات، و بالنسبة إلى الموضوع من الوصف بحال المتعلّق.

ص: 238

و فيه: أنه خلاف الظاهر جدا، لا يصار إليه إلا مع القرينة، مع أنه تعقيد و خلاصته يرجع إلى التقدير و الإضمار.

الرابع: ما عن شيخنا الأنصاري قدّس سرّه و تبعه جمع من مشايخنا من نفي تشريع ما يوجب الضرر مطلقا - موضوعا كان أو حكما، وضعيا كان أو تكليفيا - فيكون إخبارا عن نفيه في مقام التشريع لا في الخارج حتى يلزم الكذب، كما في حديث الرفع حيث تقدم أن الرفع في مقام التشريع لا ينافي الوجود التكويني. و لا ريب أنه لا تشريع، للضرر في الشريعة المقدسة الإسلامية مطلقا، بل عند العقلاء و لو لا أن صاحب الكفاية صرح بتضعيف قول شيخه الأنصاري و ظهور الثمرة بين القولين، لأمكننا إرجاع قوله إلى قول شيخنا الأنصاري، و لكنه أنتج على ما اختاره في المقدمة الرابعة بين القولين من الانسداد، عدم حكومة دليل نفي الضرر و الحرج على الاحتياط إن كان ضرريا أو حرجيا، فإن لباب ما اختاره يرجع إلى أن الموضوع الضرري لا حكم له، و الأحكام الواقعية المجهولة لا ضرر في موضوعها أبدا، و إنما الضرر يحصل من الجمع بين المحتملات في الامتثال، فلا مورد لقاعدة الضرر بناء على مختاره حتى تجري و يرتفع بها الاحتياط، بخلاف مختار الشيخ رحمه اللّه فإن لبابه يرجع إلى أنه لا تشريع لمنشا الضرر أبدا، و الاحتياط التام منشأ للضرر في الشريعة فيرتفع بالقاعدة، و الحق أن مختار الشيخ رحمه اللّه أحق أن يتبع، كما عرفت.

الرابعة: إنها من القواعد العامة، الإشكال عليها بكثرة ورود التخصيصات و الجواب عنه

الرابعة: لا ريب في أنها من القواعد العامة التي استقرت سيرة الفريقين على التمسك بها في مقابل العمومات المثبتة للأحكام بلا كلام. و قد اشكل على عمومها بكثرة ورود التخصيصات عليها من الأحكام الضررية المجعولة شرعا، بحيث يكون الخارج منها أضعاف الباقي فلا يصح التمسك بعمومها حينئذ، مع أن القول بعمومها ابتداء من ورود هذه التخصيصات يكون من التخصيص المستهجن، و هو قبيح في المحاورات العرفية.

ص: 239

و يرد.. أولا: بأن أكثرية الخارج من مجرد الدعوى، فإن الأحكام الضررية المجعولة بالنسبة إلى الأضرار التي يردها الناس بعضهم على بعض يكون بنسبة العشرة إلى المائة بل أقل.

و ثانيا: ما يتوهم الضرر فيه الصدقات الواجبة، و الحج، و الجهاد، و الحدود، و الديات. و الاولى ما يحتفظ به المال أو النفس أو كفارة لما فعل، و لا يسمى ذلك ضررا عرفا، و كذا الحدود و الديات جزاء لما كان ارتكبه، و الحج نظير سائر الأسفار المتعارفة، فمن سافر إلى بلد لغرض صحيح و انفق مالا في سفره، لا يقال عرفا إنه تضرر. و أما الجهاد في سبيل اللّه فإنه من أجلّ المفاخر البشرية، لا يرضى العاقل بأن يطلق على الشهيد بأنه تضرر ببذل مهجته في سبيل اللّه. و لا نتوقع مثل هذه الإشكالات مع الأنس بمذاق الشريعة، و هل يكون من الإنصاف أن تعدّ القوانين الإلهية المتقنة، التي وضعت لتكميل البشر شخصا و نوعا، دنيا و آخرة ضررا؟!!

ثم إنه على فرض صدق الضرر عليها يكون المراد بالضرر المنفي ما لم يكن أصل جعله و تشريعه ضرريا لمصالح كثيرة دنيوية و اخروية، بل حصل الضرر بعد الجعل و التشريع لجهات خارجية، فيكون خروجها حينئذ تخصصا لا تخصيصا حتى يلزم تخصيص الأكثر، و على فرض أن يكون تخصيصا فليس ذلك من التخصيص الأكثر، لأن المخصص عنوان واحد و هو التكاليف الضررية، فيصير المحصل أنه «لا ضرر و لا ضرار في الإسلام إلا التكاليف الضررية لمصالح تغلب على ضرريتها بمراتب كثيرة»، كما عن شيخنا الأنصاري قدّس سرّه.

و أشكل عليه صاحب الكفاية: بأن النوع الواحد طريق إلى الأفراد الخارجية، فإذا كانت الأفراد الخارجة عن تحت العام أكثر مما بقي تحته يكون مستهجنا، سواء كان ذلك بنوع واحد أو بإخراج نفس الأفراد متعددا.

ص: 240

نعم، لو كان العام أيضا نوعيا، و كان ما بقي تحت العام أكثر مما خرج عنه من حيث النوع، لا بأس به و إن كان الخاص الخارج أكثر أفرادا مما بقي تحت العام من الأنواع.

و فيه.. أولا: أن العام في المقام نوعي، فإن متعلّق النفي نوع ضرر النفس و نوع ضرر العرض و نوع ضرر المال، إلا نوع الضرر الحاصل من التكاليف المجعولة.

و القول: بأن النوع لا تحقق له في الخارج حتى يتعلّق به النفي.

مردود: بأنه ليس المراد به النوع المنطقي حتى لم يكن له تحقق خارجي، بل الطبيعي منه الذي هو عين الأفراد الخارجية، فيصح قول الشيخ رحمه اللّه و لا يرد عليه إشكال صاحب الكفاية.

و ثانيا: لا وجه للفرق بين ما كان العام نوعيا أو فرديا بعد أن كان النوع طبيعيا و طريقا محضا إلى الأفراد الخارجية، فلا أثر لما فصّله صاحب الكفاية قدّس سرّه من هذه الجهة، إذ المدار كله على الأفراد، و النوع طريق محض إليه، فترجع كثرة الخارج و قلة الباقي بالآخرة إلى الأفراد. فالحق ما ذكرناه من الجوابين.

و قد يستشكل بأن القاعدة لا بد و أن تكون نصا في مورد جعلها و لا أقل من ظهورها فيه، و ليس كذلك في المقام، لأن النخلة كانت ملكا لسمرة بن جندب و هو يتصرف فيها لسلطنته عليها، فإن الناس مسلطون على أموالهم، فليس في تصرفه فيها ضرر حتى يكون موردا للقاعدة.

و فيه: من الوهن ما لا يخفى، لأن أمره صلّى اللّه عليه و آله بقلع النخلة و رميها عند سمرة ليس لأجل تصرف سمرة فيها، بل لأجل أنه كان غير مبال بعرض الأنصاري و كان في مقام هتك عرضه، و هو إضرار و أي إضرار أشد منه، و كان منشأ ذلك من النخلة فأمر صلّى اللّه عليه و آله بقلع منشأ الإضرار، فتنطبق القاعدة على المورد بلا إشكال.

الخامسة: تقديم قاعدة الضرر على جميع الأدلة المتكفلة لبيان الأحكام مطلقا

الخامسة: لا ريب في تقدم قاعدة الضرر على جميع الأدلة المتكفلة لبيان

ص: 241

الأحكام بعناوينها الأولية أو الثانوية، كالنذر و العهد و اليمين، و أمر الوالدين - وجوبية كانت أو تحريمية، وضعية أو تكليفية - بمعنى أنه يستكشف من القاعدة أنه لا جعل لتلك الأحكام مطلقا في مورد الضرر أبدا، و من شاء فليسم هذا جمعا عرفيا، أو حكومة، أو لفظا آخر، إذ لا ثمرة عملية في هذه الاصطلاحات بل و لا علمية معتنى بها أصلا بعد أن اتفق العلماء بل العقلاء على تقديمها عليها، و ظاهرهم سقوط الأحكام في مورد الضرر خطابا و ملاكا، لا خطابا فقط حتى يكون من المتزاحمين اللذين يقدم أحدهما على الآخر مع تحقق الملاك فيهما، فيكون تقديم قاعدة الضرر عليها من باب العزيمة لا الرخصة، بخلاف قاعدة الحرج، فعن جمع أن تقديمها عليها من باب الرخصة لا العزيمة، فمن توضأ مع كون الوضوء ضرريا بالنسبة إليه يبطل وضوءه، بخلاف ما إذا كان حرجيا فيصح، و قد ذكرنا ما يتعلّق به في الفقه فراجع. و من لطيف المصارعة و المعارضة أن الأحكام بناء على كونها ضررية تتقدم على قاعدة الضرر تخصصا، و إن كانت تلك الأحكام مستلزمة للضرر زائدا على جعلها تقدم القاعدة عليها حكومة.

ثم إنه قد تخصص قاعدة الضرر التي تقدم على جميع الأحكام في موارد..

منها: ما عن بعض الفقهاء إن من أجنب عمدا مع العلم بكون استعمال الماء مضرا، وجب عليه الغسل و إن أضرّ به، مستندا إلى خبر. و قد تعرضنا له في مباحث التيمم في الفقه، فراجع.

و منها: تقديم قاعدة السلطنة و الحرج، بل و الضرر عليها في بعض الموارد، كما يأتي.

السادسة: تعارض ضرر مع ضرر آخر.
اشارة

تارة: يكون بالنسبة إلى شخص واحد، كما إذا اكره شخص على الإضرار

ص: 242

بزيد إما بهذا الضرر أو بذاك.

و اخرى: لشخص واحد أيضا لكن من حيث التحمّل، كما إذا دار الأمر بين تحمله بنفسه لهذا الضرر أو ذاك. و الحكم فيهما هو التخيير مع التساوي لقبح الترجيح بلا مرجح، و اختيار الأقل ضررا مع التفاوت، كما هو مقتضى سيرة المتشرعة بل العقلاء، و في رجوع الوجدان غنى عن إقامة البرهان.

و ثالثة: الإكراه على الإضرار إما بزيد أو بعمرو، فمع التساوي يتخير و مع التفاوت قد يقال بالتخيير أيضا، لأن قاعدة نفي الضرر امتناني بالنسبة إلى الجميع، و بعد جواز أصل ارتكابه لدليل الإكراه لا فرق بينه و بين القليل و الكثير.

و لكن فيه إشكال، فراجع مباحث الفقه، هذا بناء على ما هو المتسالم نصا و إجماعا من عدم وجوب تحمل الضرر لدفع الضرر عن الغير، بأن كان الضرر متوجها أولا و بالذات إلى الغير، بأن اكره الشخص على الإضرار به مثلا و أما إذا كان متوجها إلى نفسه بأن أجبره الظالم على دفع مال من نفسه أو الأخذ من غيره فليس له الإضرار بالغير، كما يأتي.

و رابعة: يدور الأمر بين الإضرار بنفسه أو غيره، فإن كان الضرر متوجها إلى الغير و لكن تحمله لم يتوجه إليه، و لا ريب عندهم في عدم وجوب تحمل الضرر، بل عدم جوازه في بعض الصور.

و خامسة: يكون متوجها إليه و لو صرفه إلى غيره لم يتضرر، و لا ريب عندهم أيضا في عدم جوازه.

و سادسة: يكون الضرر بالنسبة إليه و إلى غيره في عرض واحد، كما أنه لو احتاج شخص إلى بالوعة في داره لو حفرها يتضرر الجار و لو لم يحفرها يتضرر بنفسه، و قال الشيخ قدّس سرّه: «الأوفق بالقواعد تقديم المالك، لأن حجره عن التصرف في ماله ضرر يعارض ضرر الغير، فيرجع إلى عموم قاعدة السلطنة و نفي الحرج - إلى أن قال قدّس سرّه - و الظاهر عدم الفرق بين كون ضرر المالك بترك

ص: 243

التصرف أشد من ضرر الغير أو أقل».

و فيه: أن عموم السلطنة معارض لعموم سلطنة الغير على الدفع عن ورود الضرر على ماله. و لكن للمسألة فروع قد ذكرت في الفقه.

فرع:

لو أدخلت الدابة رأسها في القدر بغير تفريط من أحد المالكين، المشهور أن القدر يكسر و يضمن قيمته صاحب الدابة، لأن الكسر لمصلحته، و هو مبني على ما هو المتعارف من أن كسر القدر أهون من قتل الدابة، فراجع و تأمل.

السابعة: قد تتقدم قاعدة الحرج على قاعدة الضرر

السابعة: قد تتقدم قاعدة نفي الحرج على قاعدة نفي الضرر، كما إذا كان المالك في حرج و مشقة من عدم البالوعة مثلا في داره و إن لم يكن متضررا بذلك و لكن يتضرر منها الجار، فإنه يجوز للمالك حفرها فإن تحمّل الحرج لدفع الضرر عن الغير منفي بقاعدة نفي الحرج، فتكون هذه القاعدة حاكمة على قاعدة نفي الضرر، كحكومة قاعدة السلطنة عليها في الجملة.

تتميم:

لا إشكال في أن قاعدة نفي الحرج من القواعد المعتبرة، و يدل عليها الكتاب مثل قوله تعالى: وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ و السنة المستفيضة في الأبواب المتفرقة، و إجماع الإمامية بل المسلمين، و يصح أن تكون من القواعد العقلائية أيضا، لأن العقلاء يقبّحون التكاليف الحرجية الصادرة من الموالي بالنسبة إلى العبيد، و ما ورد من التكاليف الشاقة في بني إسرائيل لم يعلم أنها كانت جعلا من اللّه تعالى أولا بالنسبة إليهم، أو أنها كانت عقوبات دنيوية عن جزاء أعمالهم، و الأنس بفضل اللّه تعالى وسعة رحمته قديما و حديثا بالنسبة إلى

ص: 244

عباده يقتضي الثاني فيعلم من ذلك أن قوله تعالى: رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا ، و ما ورد «أن بني إسرائيل كانوا إذا أصابتهم قطرة بول قرضوا لحمهم بالمقاريض». لم يعلم أن ذلك كان تكليفا أوّليا إلهيا، أو كانت من العقوبات المستعجلة الدنيوية التي رفعت عن امة نبينا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله.

مع أن الإصر عبارة عن الضيق و مطلق المشقة و هو أعم من الحرج و غيره، مثلا وجوب إتيان الفرائض في المساجد ضيق و ليس بحرج، و كذا الفورية في قضاء الصلوات و الصيام و نحو ذلك، و المراد بقوله تعالى: وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً هذا النحو من الضيق لا الحرج المنفي في صدر الآية بقوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها ، و بقوله تعالى: وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ . فيستفاد من إطلاقه أن دين اللّه تعالى لا حرج فيه خصوصا بقرينة قوله: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ ، و كذا إطلاق قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها .

ثم إنه كلما تقدم في فقه (لا ضرر و لا ضرار) يجري في (لا حرج في الدين) بلا فرق بينهما من هذه الجهة، فتجري فيها الأقوال الأربعة المتقدمة. و قد تقدم أن مفادها ترخيصي امتناني لا أن يكون على نحو العزيمة، فيصح العمل لو تحمل الحرج و أتى به.

إن قلت: بعد سقوط الأمر لأجل الحرج لا وجه لصحة العمل العبادي لتقومها بقصد الأمر.

قلت: سقوط الأمر لا يستلزم سقوط الملاك، و الكاشف عن بقائه مضافا إلى الإطلاقات استصحاب البقاء بعد كون السقوط ترخيصيا لا عزيمة. و لا يلزم من هذا التخيير بين الطهارة الترابية و المائية - مثلا - في ما إذا كانت الأخيرة مستلزمة للحرج، لأنه لا ريب في الاختلاف الرتبي بينهما ثبوتا و إثباتا، و مع ذلك كيف يثبت التخيير الذي لا بد فيه من التساوي من كل جهة.

ص: 245

و ظاهر الفقهاء التسالم على عدم حلّية المحرمات لأجل الحرج، فمن كان في حرج من عدم الكذب أو عدم الاغتياب أو نحوهما لا تحل له، كما أن ظاهرهم عدم الفرق بين الصغائر و الكبائر، و لا يبعد أن يكون الوجه في ذلك مضافا إلى ظهور الإجماع أن مفسدة الارتكاب أكثر بمراتب عن مصلحة الترخيص ما لم يكن في ترك الارتكاب ضرر أهم.

ثم إنه لا تجري قاعدة نفي الحرج في نفي التكاليف الأولية المجعولة، و إن قيل بأن فيها حرجا، لما تقدم في الجهة السادسة في قاعدة الضرر.

و الحمد للّه أولا و آخرا.

ص: 246

الفصل الرابع الاستصحاب

اشارة

و هو من الاصول المعتبرة الجارية في تمام أبواب الفقه. و قد عرّف بتعاريف جميعها تشير إلى المعنى المعهود، و ليست بحدود حقيقية منطقية، فلا وجه للإشكال عليها بالنقض و الإبرام، و لعل الأولى الإشارة إليه: بأنه «إسراء أثر ما يعتذر به سابقا إلى زمان الشك فيه».

و لا بد من تقديم امور:

الأول: الفرق بين المسألة الأصولية و الفقهية، و القاعدة الفقهية

الأول: قد تكرر في هذا الكتاب أن المسألة الاصولية الكبرى الكلية التي تستنتج منها الأحكام، كقول: «كل أمر ظاهر في الوجوب»، فإنه بضميمة أن «هذا أمر و كل أمر ظاهر في الوجوب» يستنتج منه الوجوب لا محالة. و كذا في سائر مسائله من أوله إلى آخره. و القاعدة الفقهية ما يبحث فيها عما يتعلّق بالإنسان من حيث الوظيفة الشرعية، و لا يختص بباب دون باب، كقاعدة نفي الحرج، و الضرر و غيرهما من القواعد العامة، و قد تطلق القاعدة على ما يختص بباب خاص أيضا، كقاعدة «لا تعاد الصلاة إلا من خمس»، و «لا شك لكثير الشك» و نحوهما مما هو كثير و لا مشاحة في الاصطلاح.

و المسألة الفقهية ما يبحث فيها عمّا يتعلّق به و تختص بباب خاص، كوجوب الصلاة مثلا، و قد تطلق على ما لا يختص بباب، كوجوب الوفاء بالعقود الجارية في جميع أبواب المعاملات مطلقا، و وجوب أداء حقوق الناس الجارية في الزكاة و الفطرة و الخمس و المعاوضات و النفقات و الديات و غيرها.

ص: 247

و لا يبعد أن يقال إن القاعدة الفقهية ما لوحظت فيها جهة الكلية في الجملة و إن اختصت بباب، و المسألة الفقهية ما لم يلحظ فيها ذلك و إن لم تختص بباب، و حيث أن الاستصحاب فيه ملاك الأصل و الأمارة و القاعدة الفقهية صار برزخا بين الجميع، و يصح انطباق تعريف الجميع عليه، فيصح جعله في كل بحث من مسائله، كما في كثير من مسائل علم الاصول. حيث يكون فيها ملاك جملة من العلوم.

و الظاهر أن الاستصحاب الجاري في الموضوعات من المسائل الفقهية، و في الأحكام يمكن أن يكون من المسائل الاصولية، لصحة وقوعه في طريق الاعتذار، و حينئذ يمكن أن يكون أمارة إذا لوحظ حصول الظن النوعي منه بنحو الحكمة لا العلة، و يمكن أن يكون أصلا إذا قطع النظر عن ذلك، فراجع المطولات لعلك تجمع بذلك بين شتات الكلمات، فليس الاستصحاب إلا مثل جملة كثيرة من المسائل الاصولية التي يصح أن تكون مجمعا لعناوين كثيرة.

الثاني: الفرق بين الاستصحاب، و قاعدة اليقين و قاعدة المقتضي و المانع

الثاني: لا ريب في اعتبار تحقق اليقين و الشك في الاستصحاب، و قاعدة المقتضي و المانع، و قاعدة اليقين - المعبر عنها بالشك الساري أيضا - و الأول معتبر بخلاف الأخيرين. و خلاصة الفرق بينها أن متعلّق اليقين و الشك إما أن يتعدد وجودا أو لا، و على الثاني إما أن يسري الشك إلى اليقين و يزيله أو لا.

و الأول قاعدة المقتضي و المانع، و تأتي الإشارة إلى أقسام المقتضي في الأمر اللاحق.

و الثاني قاعدة الشك الساري.

و الثالث الاستصحاب.

و يكفي في عدم اعتبار الأولين الأصل بعد عدم دليل عليه من السيرة و الأخبار و الإجماع، لما يأتي من ظهور الأخبار في الاستصحاب دون غيره، و الشك في الشمول لغيره يكفي في عدم جواز التمسك بها، لأنه حينئذ من

ص: 248

التمسك بالدليل في الموضوع المشتبه.

الثالث: للاستصحاب أقسام مختلفة.
منها: بحسب زمان اليقين و الشك.

فتارة: يكون زمان اليقين و المتيقن سابقا، و زمان الشك و المشكوك فيه لاحقا و هو الغالب في الاستصحابات المتداولة.

و اخرى: يكون زمان حدوث اليقين و الشك واحدا مع كون زمان المتيقن سابقا و زمان المشكوك لاحقا، كما إذا علم فعلا بأن الماء كان كرا في الأمس و شك فعلا أيضا في كريته.

و ثالثة: يكون زمان حدوث الشك سابقا و زمان حدوث اليقين لاحقا مع سبق زمان المتيقن على زمان حدوث الشك، كما إذا شك فعلا في طهارة الماء ثم حصل له اليقين بأنه كان طاهرا قبل حدوث الشك.

و الحق اعتبار الاستصحاب في هذين القسمين أيضا لوجود المقتضي و فقد المانع، إذ المناط كله في اعتباره اختلاف زمان وجود المتيقن و المشكوك مع تقدم الأول على الثاني، سواء اختلف زمان حصول اليقين و الشك أم اتحد، و على الأول سواء سبق زمان حصول الشك أو كان بالعكس.

و رابعة: يكون زمان المشكوك فيه سابقا و زمان المتيقن لاحقا، و يعبّر عنه بالاستصحاب القهقرى، و لا دليل على اعتباره لا من الشرع و لا من بناء العقلاء.

و منها: بحسب منشأ الشك بين المقتضي و الرافع و الغاية، و تعريف المقتضي
اشارة

و منها: تقسيمه من جهة منشأ الشك، فإنه إما في المقتضي، أو في الرافع، أو في الغاية. و المقتضي عبارة عن مقدار قابلية الشيء للبقاء، سواء كانت القابلية تكوينية أو تشريعية، أي ملاك المجعول أو حكمة نفس الجعل ثبوتا، المستكشف ذلك كله بالأدلة الشرعية أو الاستظهارات العرفية، و لا ريب في شمول الشك في المقتضي للجميع. و ما عن بعض من اختصاص اصطلاح الشك في المقتضي بخصوص المقتضي الإثباتي - أي: ما يستفاد في مقام

ص: 249

الإثبات من الأدلة - لا وجه له ظاهرا، و إن كان لا مشاحة في الاصطلاح.

أقسام المقتضي، تعريف الرافع و الفرق بيته و بين المانع

و ملخص القول في المقتضي: أنه على أقسام ثلاثة..

الأول: مجرد الاقتضاء الواقعي من دون تحقق ما فيه الاقتضاء خارجا،

كما إذا أراد أن يتوضأ - مثلا - ثم بعد مدة شك في أنه حصل له مانع عن إرادته أو لا، و هذا هو موضوع قاعدة المقتضي و المانع التي ذهب المشهور إلى عدم اعتبارها.

الثاني: ما إذا تحقق ما فيه الاقتضاء في الخارج و أحرز بدليل معتبر بقاء اقتضائه مدة خاصة، و شك في أثناء تلك المدة في أنه هل حصل رافع عن استمرار وجوده الخارجي أو لا، و هذا هو مورد الشك في الرافع بعد إحراز بقاء المقتضي.

الثالث: تحقق المقتضي في الخارج و عدم إحراز مقدار استعداد تحققه الخارجي، و دار بين القليل و الكثير بحسب ذاته، و هذا هو الشك في المقتضي الذي ذهب شيخنا الأنصاري قدّس سرّه إلى عدم جريان الاستصحاب فيه.

هذه خلاصة تطويلات القوم في المقام.

و الرافع: عبارة عما يوجب انعدام الموضوع أو الحكم مع إحراز إرسالهما و عدم التحديد لهما بحدّ مخصوص، و هو قد يشك في أصل وجوده، فيعبّر عنه بالشك في الرافع، و قد يشك في شيء أنه رافع أم لا، و يعبّر عنه بالشك في رافعية الموجود، و المانع أعم من الرافع، فإنه يطلق..

تارة: على ما يزاحم المقتضي عن أصل اقتضائه.

و اخرى: على ما يرفعه بعد تحققه و اقتضائه، فيتحد مع الرافع حينئذ.

تعريف الغاية، تصادق الشك في المقتضي مع النسخ و الغاية في غير الشبهة الموضوعية

و الغاية: عبارة عن تحديد الحكم أو الموضوع في ظاهر الدليل بحدّ خاص معين، و الشك في حصوله يكون من الشك في الغاية.

ثم إن الشك في المقتضي قد يكون من حيث الشبهة الموضوعية، و قد

ص: 250

يكون من الشبهة المفهومية أو الحكمية، و الظاهر تصادق الأخيرتين مع الشك في النسخ و الغاية في الجملة.

و منها: تقسيمه بحسب الدليل الدال على المستصحب فإنه.

تارة: يكون هو الكتاب.

و اخرى: السنة.

و ثالثة: الإجماع.

و رابعة: العقل.

و منها: تقسيمه بحسب المستصحب،

فإنه إما وجودي أو عدمي، أو كلي أو جزئي، أو تكليفي أو وضعي إلى غير ذلك، و يأتي إن شاء اللّه تعالى أن الحق اعتباره مطلقا فلا وجه للتطويلات مع أن جلّها لو لا كلها بلا طائل.

الرابع: إن كان الدليل على المستصحب هو العقل

، و استكشف حكم الشرع منه بقاعدة الملازمة، قد يشكل حينئذ في صحة الاستصحاب، لأن العقل لا يحكم بشيء إلا بعد الإحاطة بوجود جميع المقتضيات و فقد جميع الموانع، فمع تحقق ذلك كله يحكم و مع العدم لا حكم له، فلا يتصور الشك في حكمه و الاستصحاب متقوّم بالشك، فلا موضوع له حينئذ لا بالنسبة إلى نفس حكم العقل و لا بالنسبة إلى حكم الشرع المستفاد منه بقاعدة الملازمة، لعدم تمامية الملازمة مع عدم حكم العقل.

هذه خلاصة دليل من منع عن استصحاب حكم العقل أو الشرع المستند إليه.

و فيه.. أولا: أن ما يتصور الشك فيه من حكم العقل إنما هو ما إذا كان دقيا حقيقيا من كل جهة، و كانت جميع الخصوصيات الملحوظة مقوّمة لموضوعية الموضوع شرعا أيضا، و الظاهر أنه لا يوجد لذلك مثال في الأحكام الشرعية لابتناء جميعها على العرفيات المتعارفة بين الناس. و أما إذا كان المراد بحكم

ص: 251

العقل ما تطابقت عليه آراء العقلاء في معاشهم و معادهم، فلا ريب في تصور الشك فيه عندهم، فيتحقق موضوع الاستصحاب حينئذ في حكم العقل. و كذا في حكم الشرع المستفاد منه.

و ثانيا: لا ملازمة بين الشك في حكم العقل و عدم تصوره في حكم الشرع المستفاد منه، لأن قاعدة الملازمة إنما تدل على تبعية حكم الشرع لحكم العقل ثبوتا في الجملة، و أما كون موضوعه تابعا لموضوع حكم العقل من كل حيثية و جهة و بقاء أيضا، فلا دليل عليه بل الظاهر خلافه، لأن سهولة الشريعة المقدسة و سماحتها تقتضي التسهيل في موضوع حكمه و أوسعيته من موضوع حكم العقل.

الخامس: قد فصل في اعتبار الاستصحاب بين الشك في الرافع فيعتبر
اشارة

، و بين الشك في المقتضي فلا يعتبر.

فإن كان هذا التفصيل لقصور الإطلاق و العموم عن شمولها، فهو خلاف الظاهر. و إن كان لوجود مانع في البين فليس ما يصلح للمانعية، و يأتي ما تعرض له الشيخ قدّس سرّه من استظهار الاختصاص من مادة النقض، و يأتي الجواب عنه إن شاء اللّه تعالى.

كما أن التفصيل بين العدميات و الوجوديات، فيعتبر في الاولى دون الثانية لا وجه له أيضا، فإن الاتفاق على اعتبار جملة من الاصول العدمية، كعدم القرينة و التخصيص، و المزاحم، و السهو و الغفلة و نحوها مما اتفق عليها الكل لا ينافي شمول الإطلاق و العموم للوجودية أيضا، فالمناط تنقيح أصل الكبرى الشاملة للجميع.

بل يجرى في الأعدام الأزلية أيضا، لعموم ما سيأتي من الدليل و فقد المانع.

و العدم الأزلي عبارة عن العدم السابق على الأشياء مطلقا، لأن كل موجود

ص: 252

حادث يكون مسبوقا بالعدم و إلا لا يكون حادثا، بل يتصف بالقدم.

و الفرق بينه و بين العدم النعتي أن الثاني ملحوظ بالإضافة إلى الغير و وصفا له دون الأول، فإذا لوحظت الملكية مثلا بالنسبة إلى موضوع خاص و شككنا في عروضها له، يجرى عدم الملكية له و يسمى هذا بالعدم النعتي (الوصفي)، و إذا أجرينا أصالة عدم تحقق الملكية مطلقا بحسب ذاتها يسمى هذا بالعدم الأزلي، أي مفاد ليس التامة، أو العدم الذاتي.

فينطبق على المورد أيضا انطباق الطبيعي على أفراده، و لا إشكال فيه من عقل أو نقل.

و لكن أشكلوا عليه بأنه من الاصول المثبتة، و هي غير معتبرة، و هو ساقط، لأن انطباق الطبيعي على الأفراد ذاتي لا واسطة فيه حتى يقال بالاثبات، و كذا بالنسبة إلى مفاد كان التامة، أي كان الشيء مسبوقا بالوجود، فيجرى استصحابه و ينطبق على المورد لا محالة بلا محذور في البين، و التعرض بأكثر من ذلك إخراج للبحث عن موضوعه و إدخاله في موضوعات أخرى.

التفصيل بين الموضوعات و الأحكام و الجواب عنه

كما أن التفصيل بين الموضوعات، فيعتبر فيها، و بين الأحكام الكلية فلا يعتبر.

مردود أيضا، إذ لا وجه للاختصاص إلا دعوى: أن الأحكام الكلية ليست إلا الصور الذهنية، و الأثر الشرعي مترتب على الخارج دون الذهن. أو دعوى أنها معارضة باستصحاب عدم الجعل.

و يرد الاولى: بأن الصور الذهنية ملحوظة طريقا إلى الخارج لا بقيد الذهن، مع أن الأحكام الكلية اعتبارات صحيحة عرفية عقلائية، لها نحو تحقق اعتباري في عالم الاعتبار، و هذا النحو من الوجود منشأ للأثر و هو يكفي في الاستصحاب.

و يرد الثانية: بأن العلم الإجمالي بنقض استصحاب العدم في الأحكام

ص: 253

الابتلائية يمنع عن جريانه فيها. فالحق اعتباره مطلقا من غير تخصيصه بمورد أبدا، لوجود المقتضي و فقد المانع.

الأدلة على حجية الاستصحاب:

الأول: دعوى الإجماع

، و لكنه راجع إلى بناء العقلاء، فليس دليلا مستقلا في مقابله، و ليس من الإجماع التعبدي لمعلومية المدرك، مضافا إلى كثرة الخلاف.

الثاني: إن سبق الثبوت يوجب الظن بالبقاء

و فيه: أنه ممنوع صغرى و كبرى.

الثالث: بناء العقلاء، لأن الشك عندهم.

تارة: بدوي، و المرجع فيه بعد الفحص البراءة.

و اخرى: من أطراف العلم الإجمالي، و قد استقر بناؤهم على الاحتياط فيه ما لم يكن مانع عنه في البين.

و ثالثة: مسبوق بالثبوت و التحقق، و استقر بناؤهم فيه على الأخذ بالحالة السابقة ما لم تكن قرينة على الخلاف، سواء حصل لهم الظن بالبقاء أو لم يحصل، و في مثل هذه السيرة العامة البلوى يكفي عدم ثبوت الردع و لا نحتاج إلى الإمضاء، مع أنه قد ثبت أيضا بما يأتي من الأخبار.

و توهم: إن ما ورد كتابا - كما مر - و سنة من النهي عن اتباع غير العلم رادع عنها.

مردود: لما تقدم غير مرة أن المراد بغير العلم في الكتاب و السنة ما لا يعتمد عليه العقلاء، دون ما يعتمدون عليه في معاشهم و معادهم. فما عن صاحب الكفاية من صلاحيته للردع في المقام مع ذهابه إلى العدم في الخبر

ص: 254

الموثوق به تهافت، كما هو واضح.

الرابع: جملة من الأخبار:
الأول: مضمر زرارة:

و لا يضرّه الإضمار، لأن مثله لا يسأل إلا من المعصوم عليه السّلام «قلت له:

الرجل ينام و هو على وضوء، أ توجب الخفقة و الخفقتان عليه الوضوء؟ قال عليه السّلام: يا زرارة قد تنام العين و لا ينام القلب و الاذن، فإذا نامت العين و الاذن و القلب فقد وجب الوضوء. قلت: فإن حرّك في جنبه شيء و هو لا يعلم.

قال عليه السّلام: لا حتى يستيقن أنه قد نام، حتى يجيء من ذلك أمر بيّن و إلا فإنه على يقين من وضوئه، و لا ينقض اليقين أبدا بالشك و لكن ينقضه بيقين آخر».

و سوقه يشهد بأنه عليه السّلام في مقام بيان قاعدة كلية و ضابطة عامة تجري في جميع الأبواب بلا شبهة و ارتياب.

و اشكل عليه بوجوه..

الأول: أن جواب الجملة الشرطية في قوله: «فإن حرّك» غير معلوم، فهو مجمل، لأنه إن كان كلمة «لا»، أو جملة (فإنه على يقين) فهو خلاف مصطلحات الأدباء من لزوم كون الجزاء جملة فعلية. و إن كان جملة (و لا ينقض) فهو أيضا خلاف ما تسالموا عليه من عدم تصدر الجزاء بالواو.

و فيه.. أولا: أنه لا ملزم لمراعاة ما قاله الأدباء في كلمات سادات الفصحاء، بل لا بد و أن يكون الأمر بالعكس.

و ثانيا: أنه لا يضرّ بالاستدلال، إذ الجواب معلوم على كل حال، فإنه مستفاد من سياق الكلمات، و هذا شائع في المحاورات، فالجواب سياقي لا أن يكون لفظيا، و هذا من أسرار البلاغة، كما هو واضح، مع أن الإشكال اللفظي لا

ص: 255

موضوع له بعد معلومية المراد منه عرفا.

الثاني: أن الألف و اللام في لفظ «اليقين» للعهد، فلا يستفاد منه العموم بل يختص بخصوص مورده الذي هو الوضوء فقط.

و يرد عليه..

أولا: أن ظهور مدخولها في الجنسية قرينة عرفية على كونها للجنس أو الاستغراق.

و ثانيا: على فرض كونها للعهد، فهو ظاهر في أنه من باب تطبيق القاعدة الكلية على المورد لا الاختصاص به، فلا وجه لاستفادة الاختصاص أصلا.

الثالث: قد مرّ في مباحث الألفاظ أن المفرد المحلّى باللام يفيد العموم، كلفظ «اليقين» في المقام، و حيث أن النهي ورد عليه في قوله: «لا ينقض اليقين» يستفاد منه سلب العموم، و هو في قوة المهملة، كما ثبت في محله، فلا يدل على الكلية. نعم لو كان من عموم السلب يدل على الكلية، فتكون الأقسام ثلاثة:

إحراز عموم السلب، إحراز سلب العموم، الشك في أنه من أيهما. و ما يستفاد منه العموم هو الأول فقط دون الأخيرين.

و فيه: أن هذا التقسيم إنما يجري في ما إذا لم يعلم أن العام سيق مساق جعل القانون الكلي و القاعدة الكلية الأبدية. و إلا فلا وجه لتوهم احتمال سلب العموم فيه. و قد أحرزنا في المقام بقرائن خارجية أن الجملة وردت لجعل القانون الكلي في جميع الموارد، و لا فرق في ذلك بين كون ما يستفاد منه العموم معنى اسميا أو حرفيا أو سياقيا، كما هو واضح.

الثاني: مضمر زرارة الآخر:

«قلت: فإن ظننت أنه أصابه و لم أتيقن فنظرت فيه و لم أر شيئا فصلّيت فرأيت فيه. قال عليه السّلام: تغسله و لا تعيد الصلاة. قلت: لم ذلك؟! قال عليه السّلام: لأنك

ص: 256

كنت على يقين من طهارتك فشككت، و ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا». و اشكل عليها:

أولا: بأن المراد باليقين ما حصل بعد الفحص و النظر و عدم رؤية النجاسة، و لا ريب في سراية الشك إليه و زواله، فتكون دليلا على اعتبار قاعدة اليقين - أي الشك الساري - و هو خلاف المشهور.

و فيه: أنه لا قرينة فيها تدل على حصول اليقين بعد الفحص و النظر، و على فرض حصوله لا قرينة على أنه المراد، بل المتفاهم منها عرفا اليقين بالطهارة قبل ظن الإصابة، فلا وجه لاستفادة قاعدة اليقين منه، و على فرض الدلالة عليها تدل على اعتبار الاستصحاب بالفحوى.

و ثانيا: بأنه مع رؤية النجاسة بعد الصلاة في الثوب يكون من نقض يقين الطهارة السابقة باليقين بالنجاسة لا بالشك، فكيف يعلّل عدم وجوب الإعادة بأنه نقض لليقين بالشك، بل الإعادة تكون نقضا لليقين بالطهارة السابقة باليقين بوقوع الصلاة في النجاسة لا بالشك بوقوعها فيها.

و فيه: أن الوجوه المحتملة في رؤية نجاسة الثوب بعد الصلاة خمسة:

الأول: العلم بأنها قد حدثت بعد الصلاة، و لا ريب في صحة الصلاة و صحة الاستصحاب بالنسبة إلى اليقين و الشك قبل الصلاة.

الثاني: قد شك في أثناء الصلاة و لم يعلم بها المصلي إلا بعد الفراغ منها و تصح الصلاة أيضا، لأنه من صغريات الجهل و يصح الاستصحاب بالنسبة إلى ما قبل الصلاة، كما مرّ في سابقه.

الثالث: التردد في أنها هي السابقة أو الحادثة بعد الصلاة أو في أثنائها و تصح الصلاة أيضا، للاستصحاب و لا شيء عليه.

الرابع: العلم بأنها هي النجاسة السابقة مع الغفلة حين الصلاة و الاعتماد على إحراز الطهارة بالاستصحاب تصح الصلاة، لأن الطهارة الخبثية شرط

ص: 257

إحرازي لا واقعي، و المفروض أنه أحرز الشرط، و يصح الاستصحاب أيضا بالنسبة إلى ما قبل الصلاة و العلم بأن النجاسة عين النجاسة لا يضر بصحة الصلاة و الاستصحاب لفرض أن الشرط إحرازي لا واقعي.

الخامس: هذه الصورة مع التردد أو الالتفات إلى حالة حين الصلاة، فإن جرى الاستصحاب قبل الصلاة تصح لإحراز الطهارة الخبثية حينئذ بالأصل و إن لم يجر لأجل عدم اليقين السابق أو التردد فيه لا تصح الصلاة، لقاعدة الاشتغال.

إن قيل: نعم الطهارة الخبثية شرط إحرازي لا واقعي فليس فيها تبين الخلاف، و لكن لا بد من إحرازها حين الدخول في الصلاة، و في بعض الصور المذكورة لا إحراز في البين.

يقال: المناط إمكان فرض وجود الإحراز بحسب الموازين الفقهية، توجه إليه المكلف أو لا. و لا ريب في إمكان فرض وجود الإحراز، كما مرّ.

و أما إدخال المقام في صغريات أن الأمر الظاهري يقتضي الإجزاء عند تبين الخلاف، و كون قوله عليه السّلام: «لا تنقض اليقين بالشك» دليلا عليه، و هذا يصح حتى بناء على كون الطهارة شرطا واقعيا، لأنه تكون لنفس امتثال الأمر الظاهري حينئذ موضوعية خاصة طابق الواقع أو لا. فهو من مجرد الاحتمال الذي لا إشارة إليه في الصحيح بوجه.

الثالث: صحيح زرارة:

«إذا لم يدر في ثلاثة هو أو أربع و قد أحرز الثلاث، قام فأضاف إليها ركعة اخرى و لا شيء عليه، و لا ينقض اليقين بالشك، و لا يدخل الشك في اليقين، و لا يختلط أحدهما بالآخر».

و اشكل عليه بأنه إن كان المراد بإضافة الركعة إتيانها موصولة فهو ينطبق

ص: 258

على الاستصحاب، و لكنه خلاف ما استقر عليه المذهب من لزوم إتيانها مفصولة. و إن كان المراد إتيانها مفصولة و كون اليقين عبارة عما جعله الشارع مبرئا للذمة، فلا ربط له بالاستصحاب، كما في قول أبي الحسن عليه السّلام لإسحاق بن عمار: «إذا شككت فابن على اليقين».

و فيه: أن المراد هو اليقين بعدم إتيان الركعة فينطبق على الاستصحاب لا محالة، و مقتضاه صحة إتيانها موصولة، و لكن دلّ الدليل من الخارج على لزوم الإتيان بها مفصولة، و ذلك لا يضر بالاستصحاب أبدا.

الرابع: قول أمير المؤمنين عليه السّلام:

«من كان على يقين فشك فليمض على يقينه، فإن الشك لا ينقض اليقين».

و اورد عليه: بظهور قوله عليه السّلام في سبق زمان اليقين على الشك و اختلافهما زمانا، فينطبق على قاعدة اليقين دون الاستصحاب.

و فيه: أن ذلك أعم من قاعدة اليقين، لاختلاف زمان اليقين و الشك في الاستصحاب غالبا أيضا.

نعم، يصح فيه اتحاد زمان حدوثهما أيضا. مع أنه يعتبر في قاعدة اليقين اتحاد متعلّق الشك و اليقين و لا إشارة في الحديث إليه أبدا، فكيف يكون دليلا عليها.

الخامس: المكاتبة:

«كتبت إليه و أنا بالمدينة عن اليوم الذي شك فيه من رمضان هل يصام أم لا؟ فكتب: اليقين لا يدخله الشك، صم للرؤية و افطر للرؤية»، بناء على أن

ص: 259

المراد باليقين اليقين بعدم دخول شهر رمضان إن كان الشك في أوله، و عدم خروجه إن كان في آخره. و أما إن كان المراد اليقين بتحقق دخوله في مقابل الظن به فلا ربط لها بالمقام. و يشهد لذلك الأخبار الدالة على أن شهر رمضان لا يصام بالظن.

ثم إنه قد يدعى دلالة مثل قوله عليه السّلام: «كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام»، و «كل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر» على الاستصحاب، بدعوى: دلالة الحكم باستمرار ما ثبت إلى ظرف الشك.

و فيه: أنه من مجرد الاحتمال الذي لا يصلح للاستدلال، كما يحتمل دلالته على الحكم الواقعي فقط، أو هو و الاستصحاب، أو هما و الحكم الظاهري، و لكن الكل من مجرد الاحتمال، و الظاهر منه الأخير، كما لا يخفى على الخبير.

هذه جملة من الأخبار التي استدل بها على الاستصحاب، و في بعضها كفاية لإمضاء السيرة العقلائية فضلا عن تمامها.

و لا بد بعد ذلك من التأمل في أن مورد السيرة عامة لجميع أقسام الاستصحاب أو تختص ببعضها دون بعض. مقتضى الوجدان هو الأول، فيشمل الشك في المقتضي و الرافع و الغاية، و هكذا إطلاق الأخبار شامل للجميع أيضا، فإذا عمت السيرة و لم يردع عنها رادع شرعي يكفي في عموم اعتبار الاستصحاب، فكيف بما إذا قررت بإطلاق أخبار الباب، فلا وجه بعد ذلك لإثبات الاختصاص بخصوص الشك في الرافع استظهارا من مادة النقض الواردة في الأخبار باختصاصها بما احرز فيه المقتضى و شك في الرافع، و أنها لا تشمل الشك في المقتضى، لأن النقض يرد على ما فيه الاستحكام في الجملة و هو متحقق مع إحراز المقتضي، و أما مع الشك فيه فلا استحكام في البين حتى يصح إطلاق النقض عليه.

ص: 260

و فيه.. أولا: أن المتفاهم من قوله عليه السّلام: «لا تنقض اليقين بالشك» خصوصا بقرينة قوله عليه السّلام: «و يتم على اليقين و يبني عليه و لا يعتد بالشك في حال من الحالات» هو ترتب أثر اليقين و تقديمه على الشك مطلقا، و قوله عليه السّلام: «و لا يعتد بالشك...» كالمفسر لقوله عليه السّلام: «لا تنقض اليقين بالشك»، و ظهور إطلاق المفسر (بالكسر) مقدم على احتمال الإجمال في المفسر (بالفتح).

و ثانيا: أنه لا ينحصر أن يكون الاستحكام المناسب لإطلاق النقض في خصوص إحراز المقتضي فقط، بل هناك شيء آخر يصح الإطلاق بلحاظه أيضا بل هو المتعين عرفا، و هو استحكام نفس اليقين و الحجة المعتبرة السابقة في مقابل الشك و التردد اللاحق، فكأنه عليه السّلام قال: اليقين و الحجة المعتبرة مستحكم، لا ينقض أثرهما بالشك و التردد. و لمكان الاتحاد الاعتباري بينهما و بين متعلّقهما يسري الاستحكام إليه أيضا، سواء كان من الشك في المقتضي أو في الرافع، و العرض على العرف أولى دليل لدفع هذه المناقشة، و مقتضى الإطلاق الشمول للجميع من الشك في المقتضي و الرافع، و الوجودي و العدمي، و التكليفي و الوضعي، و أما وجه عدم شمولها لقاعدتي الشك الساري، و المقتضي و المانع فقد تقدم سابقا، فراجع.

و لا بد من التنبيه على امور:

تنبيهات الاستصحاب

التنبيه الأول: انقسام الأحكام إلى تكليفية و وضعية

لا ريب في انقسام الأحكام المجعولة - بالمعنى الأعم من التأسيس و الإمضاء - إلى التكليفية و الوضعية. و الاولى ما يتعلّق بأفعال العباد بلا واسطة، و تنحصر في الخمسة - الواجب و الحرام و الندب و الكراهة و الإباحة - المعروفة.

و الأخيرة بخلافها، و لها نحو تعلق بالاولى في الجملة، و المرجع في أقسامها

ص: 261

اصطلاح الفقهاء، بل العقلاء.

و يمكن أن يقال: إن كل ما ليس بحكم تكليفي و له دخل فيه، أو في متعلقة، أو في موضوعه فهو حكم وضعي، فاكتفاء بعض بذكر السببية، و الشرطية و المانعية، أو بزيادة العلية، و العلامية، و الرخصة و العزيمة، أو زيادة الولاية و القضاوة أو نحوها - كما عن آخرين - ليس من جهة الحصر، بل من باب ذكر الغالب.

ثم إن البعث نحو الفعل - المعبر عنه بالوجوب - أو الترك - المعبر عنه بالحرمة - أو البعث نحو الفعل مع الإذن في الترك المعبر عنه بالندب، أو البعث نحو الترك كذلك المعبر عنه بالكراهة، أو الترخيص المطلق نحو الفعل و الترك و المعبر عنه بالإباحة، ليست مما تختص بشريعة دون اخرى، بل هي ثابتة في جميع الشرائع، بل في أفعال العقلاء و لو لم يكن التزام بشريعة أصلا، و تكون من الفطريات قررها الشرع.

نعم، تختلف متعلّقاتها باختلاف الشرائع، فرب شيء يكون واجبا في شريعة هو حرام في اخرى أو بالعكس، فأصل الأحكام الخمسة التكليفية من الاعتباريات الفطرية العقلائية لم يردع عنها الشرع، فكيف بالأحكام الوضعية - كالشرطية، و السببية، و المانعية، و الجزئية، و العلية، و العلامية، و القضاوة و الولاية و غيرها - مما كانت شائعة بين الناس ثم وردت الخطابات الشرعية مشتملة عليها، فاستفيدت منها السببية الشرعية و المانعية و نحوها.

ثم إنهم قد اختلفوا في الوضعيات، فمن قائل بأنها انتزاعيات محضة عن التكليفيات، و اختاره الشيخ الأنصاري قدّس سرّه و نسبه إلى المشهور أيضا و ادعى الوجدان في ذلك.

و فيه.. أولا: أنه لم تكن المسألة معنونة في كتب القدماء حتى يستظهر الشهرة فيه، مع أنه لا وجه لاعتبار هذه الشهرة الاجتهادية.

ص: 262

و ثانيا: دعوى الوجدان في نفي الجعل مطلقا حتى إمضاء، خلاف الوجدان، بل في الكتاب و السنة تصريح بالجعل استقلالا في مثل الخلافة و الإمامة و الحجية و نحوها قال تعالى: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً ، و قال تعالى: إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ و غيرهما من الآيات المباركة.

و أما دعوى: أنه لغو فلا وجه لها أيضا، لصحة ترتب الأثر الشرعي عليها من جريان الاستصحاب فيها و نحو ذلك، و قد أجرى نفسه قدّس سرّه الاستصحاب في جملة من الوضعيات، كما لا يخفى على من راجع كتبه الفقهية.

و من قائل بأنه لا جعل إلا للوضعيات. و التكليفيات منتزعة منها، و نسب ذلك إلى الفاضل التوني قدّس سرّه، و هو ظاهر الخدشة، كما لا يخفى.

و من قائل بالتفصيل بأن منها ما تكون مجعولة استقلالا بأسبابها الخاصة و لو إمضاء، كالملكية، و الزوجية، و القضاوة و الولاية، و الصحة و اللزوم، و الحجية و الطريقية و نحوها، و لا وجه للانتزاع فيها بعد صحة الجعل فيها ابتداء.

و منها: ما تكون منتزعة بحسب المتفاهم العرفي، كالشرطية و المانعية و الجزئية للمكلف به، لأنها مجعولة بنفس تشريع المكلف به و جعله، فإذا جعلت الصلاة المشتملة على الأجزاء و الشرائط و الموانع، يكون جعل الصلاة جعلا لها بالعرض، بلا احتياج إلى جعل مستقل بالنسبة إلى الأجزاء و الشرائط، كما أن التكليف النفسي المتعلق بالمركب انحلالي انبساطي بالنسبة إلى الأجزاء و الشرائط، فكذا المقام.

و يرد عليه: أنه يمكن أن يكون الجعل الثانوي لها لغرض التأكيد و التبيين و الاهتمام بها، فلا يكون ذلك لغوا.

و منها: ما لا تكون منتزعة عن التكليف و لا مجعولة و لو بالعرض، كالسببية و الشرطية لنفس التكليف. أما عدم صحة الانتزاع فلأن التكليف متأخر عنها لاقتضاء السببية و الشرطية تقدمهما على المسبب و المشروط، و لا يعقل

ص: 263

انتزاعهما عن التكليف المتأخر عنهما ذاتا و حدوثا. و أما عدم صحة الجعل - و لو بالعرض - فلأن السببية أو الشرطية إنما هي لأجل خصوصية تكوينية تقتضي ذلك و مع وجود تلك الخصوصية لا أثر للجعل، إذ لا يحصل الأمر التكويني بالجعل التشريعي، و مع عدمها لا وجه للسببية أو الشرطية.

و فيه: أن الانتزاع عن المتأخر ليس من حيث وجود المتأخر بما هو متأخر ذاتا، بل إنما هو من حيث كونه طرف إضافة المنتزع، و لا ريب في أن المنتزع و المنتزع منه من الامور المتضايفة فيتحدان في الشأنية و الفعلية، فيصح الانتزاع من جهة شأنية المنتزع منه و كونه بالقوة بلا إشكال. و تقدم من هذا القائل نظير ذلك في مقدمة الواجب عند بيان الشرط المتأخر، فراجع.

هذا، و أما عدم الأثر للجعل ففيه أن نفس الخصوصية التكوينية من حيث هي لا تصلح للداعوية ما لم تتم بالجعل الشرعي، لعدم إحاطة العقول بالخصوصيات، و لا بد من الجعل الشرعي لتحقق الداعوية؛ فهو لا بد منه من هذه الجهة لا محالة. هذا.

و يمكن أن يرتفع النزاع من البين و إن كان خلاف ظاهر الكلمات، بأن يقال إن من ينفي الجعل عن الوضعيات يريد الاستقلالية و الموضوعية المحضة، و من يثبته فيها يريد الأعم من التبعية و التقريرية، لأن جعل أحد المتلازمين ملازم لجعل الآخر و لو بالتبع، فيكون الجعل أعم من الإمضائي و التأسيسي و الاستقلالي و التبعي، و نتيجة ذلك صحة جريان الاستصحاب في الجميع، و لو انحصر مورد جريان الاستصحاب بخصوص مورد الجعل الاستقلالي الشرعي لبطل جريانه في جملة من الموارد المسلم جريانه فيها عندهم، فيكفي في مطلق الأثر الشرعي و لو بنحو الإمضاء، مع ترتبه على المستصحب بلا واسطة.

ثم إن من الوضعيات الرخصة و العزيمة.

ص: 264

و الاولى التسهيل و الترخيص في الفعل أو الترك، و تطلق على مجرد المشروعية أيضا.

و الثانية عبارة عن عدم المشروعية، و تطلق على الترك اللزومي أيضا.

التنبيه الثاني: الكلام في الاكتفاء بالشك التقديري، مناقشة رأي من اكتفى بالشك و اليقين فقط

يعتبر في الاستصحاب الشك الفعلي، لأنه المتيقن من بناء العقلاء و المتفاهم من الأدلة اللفظية، فلا يكفي التقديري منه، فمن علم بالحدث و غفل عن حاله فصلّى و بعد الفراغ شك في أنه تطهر قبل الصلاة أو لا، لا يجري استصحاب الحدث قبل الصلاة حتى يحكم بالبطلان، لعدم فعلية الشك قبلها و إنما حدث بعد الفراغ منها، بل إنما تجري قاعدة الفراغ و تصح الصلاة.

إن قلت: المناط في جريان الاستصحاب تحقق اليقين و الشك، و هو ثابت في المقام، لأن اليقين بالحدث كان قبل الصلاة و الشك فيه متحقق بعدها، فيجري الاستصحاب و تبطل الصلاة.

قلت - أولا: أن أثر الشك في الاستصحاب لا بد و أن يكون بالنسبة إلى ما بعد حدوثه، فلا يشمل ما قبله.

و توهم: أنه يسري الشك إلى حين صدور الصلاة أيضا.

مدفوع: بأنه لا ينفع في جريان الاستصحاب قبل الصلاة لعدم فعلية الشك قبل الشروع فيها، و المفروض اعتبارها.

و ثانيا: أنها و إن جرت في الجملة و لكنها محكومة بقاعدة الفراغ.

نعم، لو قلنا بعدم جريان القاعدة، لأنه يعتبر في جريانها عدم العلم بالغفلة حين الشروع في العمل، وجب إعادة الصلاة، لقاعدة الاشتغال.

ص: 265

التنبيه الثالث: المراد من اليقين في مورد الاستصحاب

ليس المراد باليقين في الروايات و الكلمات خصوص اليقين الوجداني المقابل لسائر الحجج المعتبرة، بل هو كناية عن كل حجة معتبرة، و كل ما يصح الاعتذار به، و إنما ذكر مثالا لكل ما يصح الاعتذار به، فكأنه قيل كل ما كنت تعتذر به في الحالة السابقة فابن عليه عند الشك في البقاء، يقينا كان أو أمارة معتبرة، أو أصلا موضوعيا أو حكميا، فيجري الاستصحاب في مورد الأمارات و الاصول مطلقا.

نعم، جريانها في مورد الاصول من قبيل لزوم ما لا يلزم، لكفاية نفس الشك في جريانها بنفسها، فلا وجه بعد ذلك لملاحظة الحالة السابقة و إجراء الاستصحاب إلا إذا ترتب عليه أثر آخر غير ما يترتب على نفس الشك، فلو كان المورد من موارد جريان أصل موضوعي، أو أصل حكمي من الاشتغال، أو البراءة، أو التخيير، يكفي نفس الشك في جريانها بنفسها من دون حاجة إلى عناية اخرى من ملاحظة الحالة السابقة، إلا إذا كان لها أثر خاص لا يترتب على نفس الشك.

التنبيه الرابع: اقسام الاستصحاب باعتبار الجزئي و الكلي
اشارة

لا ريب في شمول أدلة اعتبار الاستصحاب لما إذا كان المستصحب كليا، كشمولها لما إذا كان جزئيا، و المعروف أن استصحاب الكلي على أقسام ثلاثة، يجري استصحاب الكلي و الجزئي معا في أحدها، و يجري استصحاب الكلي فقط في آخر، و لا مجرى له أصلا في ثالث، لا استصحاب الكلي و لا الجزئي، على ما يأتي من التفصيل.

ص: 266

الأول: ما إذا كان المستصحب جزئيا خارجيا، موضوعيا كان أو حكميا

، فكما يصح استصحاب نفس الجزئي يصح استصحاب الكلي المتحد معه وجودا، فمن بال ثم شك في أنه توضأ أو لا، يصح استصحاب الحدث الجزئي الخارجي البولي، كما يصح استصحاب كلي الحدث أيضا. لأن كلا منهما عين الآخر وجودا و إن اختلفا مفهوما.

الثاني: ما يجري فيه استصحاب الكلي دون استصحاب الفرد و الجزئي،

و هو ما إذا لم يكن المستصحب متشخصا خارجا، بل كان بحسب حدوثه مرددا بين فردين و لم يعلم أن ما حدث في الخارج أي منهما، كالرطوبة الحادثة المرددة بين البول و المني، و كما في موارد العلم الإجمالي عند ارتفاع أحد الطرفين، فالاستصحاب في هذا القسم إن أجري في الشخص و الجزئي الخارجي من حيث إنه كذلك، فلا وجه له، لعدم اليقين السابق بحدوث الجزئي متشخصا بالبولية أو المنوية، و إن أجري في المردد بين الفردين من حيث الترديد فلا وجه له أيضا، لأن المردد من حيث هو كذلك لا تحقق له خارجا بل و لا ذهنا أيضا، و إنما هو من المفروض العقلية، كفرض الممتنعات، لأن التحقق مطلقا مساوق للتشخص، - كما ثبت في محله - و ما لا تحقق له أصلا كيف يتعلق اليقين به، و لو فرض صحة تعلقه به ذهنا لا ينفع لجريان الاستصحاب أيضا، لأنه لا بد فيه من تحقق موضوع الأثر الشرعي تحققا خارجيا، و لا يكفي التحقق الفرضي، فينحصر الاستصحاب الصحيح في استصحاب كلي الحدث، للعلم بتحققه إما في ضمن الفرد الأصغر، أو الأكبر، فحدوث كلي الحدث معلوم بلا كلام و بعد الوضوء يشك في ارتفاعه فيستصحب بقاءه، فيجب عليه الغسل أيضا، فالمقتضي لجريان الاستصحاب في الكلي موجود و المانع عنه مفقود فتجري لا محالة.

إن قلت: لا مجرى لاستصحاب الكلي أيضا لعدم اليقين السابق، بالنسبة

ص: 267

إليه أيضا، لأن الكلي عين الفرد، و تقدم عدم اليقين بتحقق شخص خاص من الفرد، و عدم الأثر لليقين بتحقق الفرد المردد في الذهن لو أمكن ذلك.

قلت: لا ريب في أن الكلي عين الفرد، و لكن الفردية متقوّمة بشيئين:

الذات المشتركة في جميع الأفراد المتحققة، و الخصوصية التي يتميّز بها كل فرد عن الآخر، و ما لا يقين به هو الثاني دون الأول، فإن حدوث أصل الحدث في المقام معلوم بلا كلام.

إن قلت: نعم، و لكن لا يجري الاستصحاب في الكلي من جهة عدم الشك اللاحق و لو تحقق اليقين السابق بالنسبة إليه، لأن في الرطوبة المرددة بين البول و المني بعد أن توضأ، يعلم حينئذ بارتفاع الحدث الأصغر، و يشك في أصل حدوث الأكبر، فتجري أصالة عدم حدوثه، فيرتفع الشك في بقاء الكلي، لأن الأصل الجاري في السبب مقدم على الأصل الجاري في المسبب، كما يأتي، فلا يبقى موضوع لجريان الأصل في الكلي.

قلت يرد عليه..

أولا: عدم السببية و المسببية في المقام، لتوقفهما على تحقق المغايرة الوجودية، و ليس بين الكلي و الفرد تغاير وجودي أصلا، بل هما واحد وجودا و إن اختلفا مفهوما في العقل.

و ثانيا: الأصل السببي يقدم على المسببي إن كان الترتب بينهما شرعيا، كما في الماء المشكوك الكرّيّة، و الثوب المتنجس المغسول فيه، فإن باستصحاب كرية الماء ترتفع نجاسة الثوب شرعا، و المقام ليس كذلك، فإن وساطة تحقق الفرد لتحقق الكلي تكويني محض و لا دخل للشرع فيه أصلا.

و ثالثا: أصالة عدم حدوث الحدث الأكبر معارضة بأصالة عدم حدوث الحدث الأصغر، فتسقطان بالمعارضة.

إن قلت: لا كلية لاستصحاب الكلي، فإن من آثار استصحاب كلي

ص: 268

النجاسة انفعال الملاقي لها، و لا يحكمون بترتب هذا الأثر في ما إذا علم إجمالا بنجاسة العباء مثلا، و ترددت بين كونها في الطرف الأعلى أو الأسفل ثم تطهر أحد الطرفين، إذ لا ريب في صحة استصحاب كلي النجاسة بعد ذلك و أثر الاستصحاب نجاسة الملاقي للعباء مع الرطوبة المسرية مع أنهم لا يقولون بها، لما تقدم من أن الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة لا يحكم عليه بالنجاسة، فلا بد إما من القول بعدم صحة استصحاب كلي النجاسة أو القول بنجاسة الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة، و كل منهما خلاف المعروف بين الفقهاء، و قد اشتهرت هذه الشبهة بالشبهة العبائية.

قلت: أثر استصحاب كلي النجاسة إنما هو عدم صحة الصلاة في العباء، و أما انفعال الملاقي فليس أثرا لها، لتوقف الانفعال على الملاقاة للنجس المتشخص الخارجي، لما تقدّم في البحث عن الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة، و باستصحاب كلي النجاسة لا تثبت النجاسة في محل خاص أو موضع مخصوص حتى ينفعل الملاقي له، فالمقتضي لاستصحاب أصل النجاسة موجود و المانع عنه مفقود و أثرها عدم صحة الصلاة، و لكن لا مقتضى لانفعال الملاقي لتوقفه على الملاقاة للنجاسة الشخصية الخارجية.

ثم إن في الرطوبة الخارجة المرددة بين البول و المني إما أن تكون الحالة السابقة على خروجها الطهارة، أو لا يعلم بها أصلا، أو تكون الحدث الأصغر.

و في الأولين يجب الاحتياط بالجمع بين الوضوء و الغسل لاستصحاب كلي الحدث، و في الأخير يصح الاكتفاء بمجرد الوضوء، لأصالة بقاء الحدث الأصغر و عدم حدوث الجنابة، هذا كله إن ثبت الأثر للجهة المشتركة. و أما إذا كانت الأدلة ظاهرة في التنويع، و إن أثر كل نوع غير أثر النوع الآخر بحيث يرجع إلى المتباينين أو الأقل و الأكثر ثبوتا، فيكون من القسم الثالث الذي يأتي عدم جريان الاستصحاب فيه، و يمكن أن تكون الرطوبة المرددة بين البول و المني من هذا

ص: 269

القبيل، فإن الجهة المشتركة هي النجاسة فقط، و أما الحدثية فأثرها من المتباينات، كما لا يخفى.

الثالث: ما لا يجري فيه استصحاب الكلي و الجزئي

الثالث من أقسام استصحاب الكلي: ما لا يجري فيه استصحاب الكلي و لا الفرد، و هو ما إذا علم بحدوث الفرد و علم بارتفاعه أيضا و لكن شك في حدوث فرد آخر قبل ارتفاعه أو مقارنا له، أو شك في تبدله بعد الارتفاع إلى فرد آخر مخالف له من حيث المرتبة لا من حيث الذات، كما إذا علم بحدوث الوجوب و ارتفاعه و شك في تبدله إلى الندب و عدمه.

و الحق عدم صحة استصحاب الكلي في الجميع لاختلاف القضية المتيقنة مع المشكوكة عرفا، بل دقة أيضا، إذ الكلي عين الفرد، فما علم حدوثه علم بارتفاعه، و غيره مشكوك الحدوث، فلا وجه لجريان الاستصحاب في بقاء ما حدث للعلم بالارتفاع، بل يجري في عدم حدوث ما هو مشكوك الحدوث.

و أما الصورة الأخيرة فالطلب الجامع بين الوجوب و الندب، و إن علم بحدوثه و شك في زواله، فيصح جريان استصحاب أصل الطلب حينئذ.

لكن فيه.. أولا: أنه لم يثبت كون الوجوب مركبا من الطلب و المنع من الترك، و الندب مركبا منه و الترخيص في الترك، بل هما مرتبتان بسيطتان من الطلب متفاوتتان في الشدة و الضعف، فزوال الوجوب يوجب انعدام تلك المرتبة رأسا، و تحقق الندب يوجب حدوث مرتبة اخرى.

و ثانيا: لا ريب في تباينهما عرفا، و أدلة الاستصحاب منزلة على العرف، فتكون هذه الصورة أيضا كغيرها في اختلاف القضية المشكوكة مع المتيقنة.

نعم، لو كان الوجوب و الندب مركبين من الطلب و الخصوصية، و كانت تلك الخصوصية من الحالات العارضة يجري استصحاب أصل الطلب بلا كلام، و لكنه لا دليل عليه، كما ثبت في غير المقام.

ص: 270

التنبيه الخامس: الكلام في الاستصحاب في الزمان و الزمانيات و المتدرجات في الوجود، الإشكال عليه و الجواب عنه

يعتبر في الاستصحاب اتحاد موضوع الشك و اليقين ليكون الحكم فيهما من الحكم على الموضوع الواحد، و إذا تعدد يكون إجراء حكم اليقين إلى مورد الشك من إسراء حكم ثبت لموضوع إلى موضوع آخر، و لا ريب في بطلانه، فيشكل جريانه في ما لا قرار له و يكون حال اليقين غير حال الشك، كالزمان و الزمانيات، و المتدرجات مطلقا مما لا ربط لكل جزء من سابقه بلا حقه، و يكون كل جزء محفوفا بعدمين.

و لكن هذا الإشكال باطل من أصله، لأنه مبني على كون الاتحاد بحسب الدقة العقلية، و أما إذا كان بنظر العرف فلا إشكال، لحكمه بأن لجميع السيالات و المتدرجات وحدة عرفية اعتبارية، كاليوم، و الليلة، و الأسبوع، و الشهر، و السنة، بل القرن و الدهر و نحوها. و كذا جريان الدم و الماء و نحوها، فيصح الاستصحاب في جميعها لتحقق الوحدة العرفية للمستصحب من حيث اليقين و الشك المتعلقين به.

و أما ما اجيب به عن الإشكال، بأن التعدد إنما هو في الحركة القطعية و هي كون الشيء في كل آن في محل، و أما في التوسطية و هي كون الشيء بين المبدأ و المنتهى فلا تعدد، بل هي واحدة. فإن أريد به ما ذكرناه فهو، و إلا فلا وجه له، لأن الحركة التوسطية لا وجود لها إلا في فرض الذهن و مورد الاستصحاب لا بد و أن يكون خارجيا، و لا يخفى أنه يجري في الزمان و الزماني الاستصحاب الشخصي و الكلي أيضا بما تقدم له من الأقسام.

ثم إن الزمان إما قيد للتكليف، أو للمكلف به، و على كل منهما إما أن يكون على نحو وحدة المطلوب، أو على نحو تعدد المطلوب، أو يشك في أنه من أي النحوين. و لا إشكال في جريان الاستصحاب في الزمان إن شك في بقائه

ص: 271

في جميع الأقسام، كما لا إشكال في أنه مع انقضاء الزمان ينقضي التكليف إن كان التقييد بنحو وحدة المطلوب، لانتفاء المشروط بانتفاء شرطه. و أما إن كان بالنحوين الأخيرين فلا محذور في استصحاب نفس التكليف بعد انقضاء الزمان لعدم القطع بزواله فيستصحب.

و ما يقال: من معارضته باستصحاب عدم جعل التكليف بالعدم الأزلي، فلو شك - مثلا - في بقاء الطهارة بعد خروج المذي أو الرطوبة المرددة بينه و بين البول، فكما تستصحب الطهارة يستصحب عدم جعل الوضوء مثلا موجبا للطهارة، و كذا في نظائره.

مردود: بأنه بعد تشريع الوضوء و جعله موجبا للطهارة مع استجماع الشرائط و بعد حصر النواقض في التشريع، لا وجه لمثل هذا الاستصحاب قطعا، و العرف يأباه و يستنكره.

و أما الإشكال عليه: بأن المتيقن السابق هو العدم المطلق، و المقصود إثباته في زمان الشك الحصة الخاصة منه، فيكون مثبتا.

مردود: بإمكان أن يكون المستصحب نفس الحصة فلا يكون مثبتا، لأنه و إن لم يكن تميز في العدم من حيث هو لكن من جهة إضافته إلى الوجودات يثبت التمييز فيه و تتحقق الحصة أيضا فتستصحب.

ثم إنه إن شك في تحقق أصل زمان خاص بمفاد كان التامة، أو شك في انعدامه، فيستصحب عدم حدوثه في الأول، و بقائه في الثاني، لوجود المقتضي و فقد المانع. و هل يثبت بذلك وقوع العمل في وقته الخاص به أيضا بدعوى عدم الواسطة عرفا، أو خفائه. أو دعوى أن التوقيت عبارة عن وقوع العمل في وقته الخاص به - و لو بالأصل - أو بدعوى جريان الأصل في نفس بقاء الوقت من حيث هو؟ لا يبعد ذلك.

ص: 272

التنبيه السادس: في الاستصحاب التعليقي الإشكال عليه و الجواب عنه

مقتضى عموم أدلة الاستصحاب جريانه في ما هو معلّق على شيء، كجريانه في ما لم يكن كذلك، فلو ورد الدليل أن العنب إذا غلى يحرم، ثم صار زبيبا و شك في بقاء هذا الحكم المعلّق على الغليان في حال الزبيبة أيضا، يجري فيه الاستصحاب، فيصير الزبيب المغلي، كالعنب المغلي. و كذا إن قيل أكرم زيدا إن جاءك، و بعد مدة شك في بقاء هذا الحكم لجهة من الجهات، يصح الاستصحاب فيه.

و اشكل عليه.. أولا: بتغاير الموضوع.

و فيه: مضافا إلى عدم اختصاصه بالمقام، فيجري في كل استصحاب كان المشكوك مغايرا مع المتيقن، أن الزبيبة من الحالات لا أن تكون متغايرة مع العنبية، و تغاير الاسم أعمّ من تغاير الذات.

و ثانيا: أنه لا تحقق للمتيقن في مورد الاستصحاب التعليقي، لتعلّق الحرمة على الغليان، و المفروض عدم غليان العنب في حال العنبية، فلا وجه للاستصحاب.

و فيه: أن المستصحب الحرمة المعلّقة على الغليان، لا الحرمة المنجزة الفعلية، فيستصحب نفس الحكم المنشأ المعلّق، و لا ريب في أن له نحو اعتبار بعد الجعل و الإنشاء.

و ثالثا: أنه معارض باستصحاب الحلية المطلقة، فيسقط بالمعارضة.

و فيه: أن الحلية بغاية الغليان، و مع إثبات الحرمة بالغليان و لو بالأصل لا وجه للحلية المغياة به - كما لا يخفى - فلا محذور في الاستصحاب التعليقي مطلقا، و العرف بحسب ارتكازهم لا يفرّقون بين الاستصحاب التعليقي و التنجيزي، فلا وجه للمناقشة من حيث عدم المتيقن السابق، إذ يكفي فيه

ص: 273

الوجود الاعتباري، و لا ريب في أن المنشآت التعليقية لها وجودات اعتبارية عرفية و عقلائية بل و شرعية أيضا.

التنبيه السابع: الاستصحاب في نسخ ما ثبت في شريعة أو شريعتين

يجري الاستصحاب في ما إذا شك في نسخ ما ثبت في الشريعة، سواء كان ذلك في شريعة واحدة أو في شريعتين، لوجود المقتضي له و فقد المانع.

و احتمال تغاير الموضوع، لأن أمة الشريعة السابقة غير اللاحقة.

مردود: بعدم دخالة الخصوصية الصنفية في تشريع الأحكام ما لم يدل عليه دليل بالخصوص، لكونها مجعولة لكل من يستجمع شرائط التكليف مطلقا. كما أن احتمال عدم جريان الاستصحاب للعلم الإجمالي بالنسخ.

مردود أيضا: بانحلاله بالظفر بموارد النسخ بعد الفحص، مع عدم تنجزه لخروج جملة من أطرافه عن مورد الابتلاء، و لا فرق فيه بين كون النسخ قطعا لاستمرار الحكم، أو إظهار أن مدة الحكم و أمده كان إلى حدّ مخصوص و لكنه أنشئ بصورة الدوام لمصلحة فيه، لشمول أدلة اعتباره لكلتا الصورتين.

التنبيه الثامن: في الأصل المثبت، الفرق بين الأمارة و الأصل و المناقشة فيه بيان الحق في المقام
اشارة

لا ريب في اعتبار وجود الأثر الشرعي في مورد الأمارة و الأصل مطلقا، و هو..

تارة: يترتب عليه بلا واسطة شيء أبدا، أو بواسطة أمر شرعي، و لا ريب في اعتبارهما حينئذ.

و اخرى: مع وساطة أمر عقلي أو عادي، و يعبر عن الأخيرين بالمثبت، أي تثبت الأمارة أو الأصل أمرا غير شرعي و يترتب عليه الأثر الشرعي. و قد

ص: 274

اشتهر اعتباره في الأمارات دون الاصول مطلقا.

و خلاصة ما قالوه في وجه الفرق بينهما: أن الأمارة تكون فيها جهة الكشف في الجملة و ما يكشف عن شيء يكشف عن جميع ما يتعلّق به من اللوازم و الملزومات مطلقا. و أما في الاصول فليس فيها جهة الكشف عن شيء أبدا، بل المعتبر فيها هو العمل بالأثر الشرعي المترتب على مفادها فقط، و لا يشمل دليل اعتبارها لغير ذلك.

و بعبارة اخرى: اعتبار المثبتات من سنخ الدلالات الالتزامية التي تتحقق فيما فيه الظهور و الكشف دون غيره.

و فيه: أنه لا كلية في ذلك بل يدور الاعتبار مدار مقدار دلالة الدليل عليه لا محالة مطلقا ما لم تقم. حجة معتبرة عليه، و المتيقن منها ما قلناه، و لا فرق فيه بين الأمارة و الأصل.

نعم، لو قيل بعموم الحجية في مثبتات الأمارات مطلقا لكان بينهما فرق، و لكن لا دليل على هذا التعميم، بل لنا أن نتمسك في اللازم البيّن للاصول بنفس الأدلة الدالة على حجية الاصول، فإنها من الأمارات، و الأمارة حجة في لازمها البيّن، كما مرّ.

و لا بدّ أولا من بيان الأصل، ثم بيان الحق الذي ينبغي أن يقال.

و لا ريب في أن مقتضى الأصل عدم حجية المثبت مطلقا لا في الأمارات، و لا في الأصل، لما اثبتناه من أصالة عدم الحجية في كل شيء إلا ما ثبت بالدليل المعتبر، فإن تمّ الدليل على اعتباره فهو المتبع و إلا فيبقى على مقتضى الأصل.

و الدليل على الاعتبار منحصر بنفس الأمارة أو الأصل، فإن استفيد ذلك الأمر العرفي من الأصل أو الأمارة بنحو من الدلالات المحاورية العرفية نقول بالاعتبار، بلا فرق بين الأمارة و الأصل، و إن لم يكن في البين ما يصح الاعتماد عليه في هذه الدلالة فلا اعتبار به مطلقا بلا فرق بينهما أيضا، و مورد الشك

ص: 275

ملحق بهذه الصورة أيضا، لأصالة عدم الاعتبار، و إن وجد في الأمارة دون الأصل أو بالعكس فعليه المدار.

و بعبارة اخرى: اعتبار المثبتات من قبيل اعتبار المداليل الالتزامية المختلفة بحسب اختلاف الموارد و الجهات، بلا فرق بين الاصول و الأمارات، و لا كلية للنفي المطلق بالنسبة إلى الأولى، و لا للإثبات المطلق بالنسبة إلى الأخيرة.

و لعل إلى ما ذكرناه يرجع ما عن المحقق الأنصاري قدّس سرّه من اعتبار مثبتات الاستصحاب مع خفاء الواسطة، و ما عن المحقق الخراساني قدّس سرّه من اعتبارها في ما إذا كانت من قبيل المتضايفين.

بقي امور لا بد من التنبيه عليها:
الأول: في المراد بالأثر الشرعي

الأول: كل ما يصح انتسابه إلى الشارع فهو أثر شرعي، سواء كان تكليفيا أو وضعيا، تأسيسيا أو إمضائيا، فاستصحاب البراءة من التكليف لا يكون مثبتا، لأن نفي التكليف مجعول الشارع كوضعه و لو إمضاء، فيصح نسبة الرفع و الوضع إليه، و ذلك يكفي في عدم كون الأصل مثبتا. و كذا استصحاب وجود الجزء و الشرط و فقد المانع، لا يكون مثبتا لترتب الأثر الشرعي عليه و هو صحة العمل، و كذا استصحاب عدمها لترتب الفساد بلا إشكال في ذلك، بناء على كون الصحة و الفساد مجعولين مستقلين شرعا، بل و كذا بناء على انتزاع الصحة في أثناء العمل من وجوب الإتمام، و انتزاع الفساد من وجوب الإعادة أو القضاء، لما يأتي.

الثاني: لا وجه لتوهم الإثبات بين الكلي و الفرد

، و اللازم و الملزوم، سواء كان لازم الوجود، أو لازم الماهية، لمكان الاتحاد بينهما عرفا بل عقلا،

ص: 276

فاستصحاب الوجوب الكلي، و الملكية الكلية، و تغير الكر بالنجاسة، لا يكون مثبتا بالنسبة إلى الوجوب الشخصي و الملكية الشخصية و نجاسة الماء الخارجي الجزئي.

الثالث: أقسام الأثر المترتب على الشيء

الثالث: الأثر المترتب إما شرعي فقط، أو غير شرعي فقط، أو غير شرعي مترتب على الشرعي، أو شرعي مترتب على غير الشرعي.

و لا ريب في اعتباره في الأول، كما لا ريب في عدم الاعتبار في الثاني، و الثالث معتبر بلا إشكال، لتحقق الموضوع، فيترتب عليه الأثر غير الشرعي، كترتب استحقاق العقاب على مخالفة الوجوب المستصحب، و إجزاء امتثاله، و نحو ذلك من الآثار غير الشرعية. و الأخير هو الأصل المثبت المعهود، فقد يكون معتبرا مع الاتحاد بنظر العرف، و قد لا يكون معتبرا، كما في مورد حكم العرف بالاختلاف و التباين.

الرابع: الجواب عن موارد ربما يستظهر من المشهور اعتبار الأصل المثبت فيها

الرابع: ربما يستظهر من المشهور ما يوهم ذهابهم إلى اعتبار الأصل المثبت.

منها: ما إذا اتفق الوارثان على إسلام أحدهما في أول اليوم و الآخر في آخره، و اختلفا في موت المورث، فقال أحدهما إنه مات في الظهر - مثلا - فلا يرث من أسلم في آخر اليوم، و قال الآخر بل مات بعد الغروب، فلا يختص الإرث بأحدهما. فحكم الفقهاء باشتراكهما في الإرث و عدم الاختصاص بأحدهما، مع أن الإرث متوقف على كون الإسلام قبل الموت أو مقارنا له، و إثبات ذلك بالأصل يكون مثبتا.

و فيه: أنه ليس من الأصل المثبت، لأن المنساق من الأدلة كفاية الموت عن وارث مسلم و لو كان إحراز الإسلام بالأصل، و لا دليل على لزوم تقدم إسلام الوارث على موت المورث و لا مقارنته معه حتى يكون ذلك من الأصل المثبت.

و منها: حكمهم بالضمان في من استولى على مال الغير، ثم شك في أنه

ص: 277

كان بحق أو لا، فإن كان الضمان لقاعدة اليد فهو من التمسك بالدليل في الموضوع المشتبه، و إن كان لأصالة عدم الإذن فلا توجب الضمان إلاّ بعد إثبات العدوان، و لا يكون ذلك إلا بناء على الأصل المثبت.

و فيه: أنه يصح إثبات الضمان بقاعدة اليد مع عدم كونه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، لأن مطلق وضع اليد على مال الغير يوجب الضمان إلاّ إذا احرز بوجه معتبر ثبوت الإذن و الرضا فيه، فوضع اليد على مال الغير متحقق وجدانا، فتشمله القاعدة قهرا، مع أن نفس عدم إحراز الإذن و لو بالأصل يكفي في الضمان، و لا نحتاج إلى إثبات العدوان حتى يكون من الأصل المثبت.

و منها: غير ذلك مما يذكر في الفقه مع إمكان دفع الشبهة بأدنى تأمل.

الخامس: جريان الاستصحاب في ما كان الأثر للبقاء فقط أيضا

الخامس: لا إشكال في جريان الاستصحاب في مورد يكون فيه الأثر الشرعي حدوثا و بقاء، كما لا ريب في جريانه في ما إذا كان الأثر للبقاء فقط. و أما إن كان بمجرد الحدوث فقط دون البقاء فلا مجرى له أصلا، و هو أوضح من أن يخفى.

التنبيه التاسع: أقسام الشك في حدوث الحادث، للكلام في جريان الاستصحاب في ما كان للشك في السبق و اللحوق، الكلام

الشك في حدوث كل حادث على أقسام خمسة:

الأول: أن يلحظ بالنسبة إلى ذاته فقط، و يجري استصحاب عدمه مع تحقق أركانه.

الثاني: أن يعلم بأصل الحدوث في الجملة و يشك في زمانه، فلا ريب في جريان استصحاب عدم الحدوث إلى زمان العلم به، و أما إثبات أن زمان الحدوث كان في الأمس أو قبله - مثلا - فليس ذلك من شأن الاستصحاب، لكونه مثبتا.

ص: 278

نعم، يمكن إثبات الحدوث في آخر أزمنة إمكانه بإدخاله في الموضوعات المركبة من الأصل و الوجدان، و هو احتمال حسن ثبوتا، و لكن يحتاج إلى دليل إثباتا، و مقتضى الأصل عدم حجية الموضوعات المركبة إلا مع دليل معتبر عليها من عرف أو شرع.

الثالث: أن يعلم بحدوث الحادثين في الجملة، و يشك في السبق و اللحوق بينهما، و يكون الأثر الشرعي لنفس عدم أحدهما في ظرف الآخر واقعا من دون تقييد بينهما أبدا. و لا ريب في عدم صحة الاستناد إلى استصحاب عدم كل منهما، إما لجريانهما و السقوط بالمعارضة، كما عليه جمع منهم المحقق الانصاري قدّس سرّه. أو لعدم إحراز اتصال زمان الشك باليقين، كما عليه جمع آخر منهم المحقق الخراساني قدّس سرّه، كما إذا علم بحياة الوالد و الولد يوم الخميس و بموتهما يوم الأحد، و شك في أن موت الوالد كان في يوم الجمعة، و موت الولد في يوم السبت، أو بالعكس مع العلم بعدم التقارن، فأصالة بقاء حياة الوالد إلى يوم الأحد يستلزم كون موت الولد يوم الجمعة، و أصالة بقاء حياة الولد إلى يوم الأحد يستلزم كون موت الوالد يوم الجمعة، فجريان الاستصحابين مستلزم لعدم إحراز اتصال زمان الشك باليقين في كل منهما، و هو معتبر، فلا يجري لعدم المقتضى لا لوجود المانع، أي السقوط بالمعارضة، فعدم صحة الاستناد إلى الاستصحاب مسلّم بين الجميع، و النزاع بينهم علمي و لا يترتب عليه أثر عملي.

و لكن يمكن الخدشة في الوجه الثاني بأن إحراز انفصال المشكوك عن المتيقن بحجة معتبرة، مانع عن جريان الاستصحاب، لا أن يكون إحراز الاتصال شرطا، إذ لا دليل عليه، فيكفي عدم العلم بالانفصال بعد تحقق اليقين و الشك، و صدق عدم النقض عرفا بالنسبة إلى كل واحد من الاستصحابين في حدّ نفسه، مضافا إلى تحقق الاتصال الزماني خارجا، و اتصال المشكوك

ص: 279

بالمتيقن ذهنا، و مقتضى الإطلاق و عموم السيرة عدم اعتبار أزيد من ذلك. هذا مع أن إثبات الانفصال بجريان الأصل مثبت لا اعتبار به.

الرابع: ما إذا علم بتاريخ أحدهما، و شك في الآخر، مع ترتب الأثر الشرعي على نفس عدم مجهول التاريخ في زمان الآخر، فيجري الاستصحاب بالنسبة إلى المجهول دون المعلوم، لليقين بزمان حدوثه.

نعم، يشك في أنه قبل زمان حدوث مجهول التاريخ أو بعده، و يأتي حكمه.

الخامس: أن يشك في التقدم و التأخر و التقارن، و كان الأثر الشرعي مترتبا على ما اتصفت بهذه العناوين خارجا، أي بمفاد كان الناقصة، و لا ريب في عدم جريان الاستصحاب لعدم العلم بالحالة السابقة، إذ المعلوم إنما هو نفس الحدوث في الجملة، لا عنوان التقدم و ضديه.

نعم، لو كانت نفس هذه العناوين من حيث هي موردا للأثر الشرعي، و قلنا بكونها من الاعتباريات العقلائية الممضاة شرعا، يجري الاستصحاب فيها و يسقط بالمعارضة، سواء كان الأثر الشرعي لكل واحد منها في مورد واحد، أو كان لكل منها أثر شرعي خاص مبتلى به في مورد المعارضة، و لا فرق في هذا القسم بين ما إذا جهل تاريخ الحادثين، أو علم تاريخ حدوث أحدهما و جهل الآخر.

ثم إنه لا فرق في مجهولي التاريخ بين ما إذا أمكن الجمع بينهما، كموت المورث و إسلام الوارث، أو لم يمكن، كالحدث و الطهارة المتعاقبين، و قد تشتت الأقوال في الأخير. و الحق جريان الاستصحاب فيهما و سقوطهما بالمعارضة، هذه خلاصة ما ينبغي أن يقال في المقام؛ و قد ذكرنا بعض الكلام في كتاب (مهذب الأحكام) في مسألة توارد الحالتين من الحدث و الطهارة.

ص: 280

التنبيه العاشر: الكلام في الاستصحاب في الاعتقادات، أقسامها، استصحاب الحكم، استصحاب بقاء الشريعة

يجري الاستصحاب في الاعتقاديات، كجريانه في الفرعيات لعموم أدلته و إطلاقاتها، و تسميته بالأصل العملي باعتبار الغالب، مع أنه أعم من العمل الجارحي و الجانحي.

ثم إن الاعتقاديات على أقسام..

فتارة: يكون المطلوب فيها مجرد الاعتقاد بالواقع على ما هو عليه من دون لزوم تحصيل العلم به.

و اخرى: يلزم تحصيل العلم به، و على كل منهما..

تارة: يكون مورد الاستصحاب نفس الموضوع.

و اخرى: هو الحكم. و على كل من هذه الأقسام الأربعة..

تارة: يكون الحاكم به هو العقل، و اخرى: يكون هو الشرع. فهذه ثمانية أقسام، و لا وجه لجريان الاستصحاب في الموضوع في جميع هذه الصور؛ سواء كان مما يكفي فيه مجرد الاعتقاد، أو لزم تحصيل العلم به، لأن الاستصحاب متقوّم بالشك و التردد، و الاعتقاد متقوّم بالجزم أو العلم. و هما لا يجتمعان إلاّ أن يدل دليل من الخارج على كفاية الجزم و العلم التعبدي في الاعتقاديات أيضا.

و أما الاستصحاب في الحكم فلا محذور فيه إن كان الحاكم هو الشرع، بل و كذا إن كان هو العقل و قلنا بكفاية عدم الردع في الأثر الشرعي، و إلا فيختص جريانه بما إذا كان الحاكم هو الشرع فقط، بل يمكن أن يقال بعدم جريان الاستصحاب في الشبهة الحكمية مطلقا، لأن اللازم في الاعتقاديات تحقق العجز عن تحصيلها، فمع العجز لا وجه للاستصحاب. و كذا مع عدم إحراز العجز لوجوب تحصيلها إلى أن يظهر العجز أيضا، فلا مورد للاستصحاب في

ص: 281

الاعتقاديات أصلا، فظهر بطلان تمسك الكتابي بالاستصحاب لبقاء شريعته إلى أن يثبت الدليل على نسخه، مع أن الدليل إما برهاني، أو إلزامي، أو إقناعي؛ و استصحاب بقاء الشريعة لا يصلح لكل منها. إذ الأول عبارة عن اعتقاد الطرفين بصحة جميع المقدمات القريبة و البعيدة في البرهان، و إلا فلا ينفع شيئا، فلا بد و أن يعتقد الكتابي و المسلم بصحة الاستصحاب في الشريعتين، مع الاعتقاد بصحة كل من الشريعتين مستقلا، فإذا اعتقد الكتابي بصحة الشريعة الختمية و كونها دينا سماويا ناسخا لما سبقه من الأديان، يصير مسلما و يزول موضوع الاستصحاب لا محالة. و الثاني عبارة عن كون الدليل مشتملا على مقدمة مقبولة لدى الخصم فيرده بما هو مقبول لديه، مثل أن يقول الكتابي للمسلم: أنت تعترف بصحة الاستصحاب و نبوة عيسى عليه السّلام، و نحن نستصحب نبوة عيسى إلى أن يثبت الدليل على عدمه. و لا يصح ذلك أيضا، إذ المسلم لا يعترف بنبوة عيسى مطلقا، بل نبوته من حيث أخبر بها خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله، و نسخت نبوته بالشريعة الختمية، و مع هذا الاعتقاد لا موضوع للاستصحاب رأسا. و الثالث عبارة عما لا يفيد العلم، بل يوجب رفع المخاصمة في الجملة، و هو باطل في المقام أيضا، لأن النبوة مما يعتبر فيه تحصيل العلم، و الدليل الإقناعي بمعزل عن ذلك.

التنبيه الحادي عشر: الكلام في بعض الموارد التي قد يتردد بين كونها من الأصل اللفظي حتى يتقدم أو الأصل العملي تحقيق الكلام

لا ريب في تقدم الأمارات مطلقا، و الاصول اللفظية على الاصول العملية بلا خلاف من أحد، و لكن قد يتردد بعض الموارد في أنه من موارد الرجوع إلى الدليل اللفظي أو الأصل العملي، و على الأول هل هو العام أو الخاص لو كانا في البين؟ كما إذا ورد عام مثل (أوفوا بالعقود) و خاص مثل (المغبون له الخيار)

ص: 282

و شك في أنه على الفور أو التراخي، فهل المرجع هو العام، أو الخاص، أو استصحاب بقاء الخيار؟ فيه احتمالات، بل أقوال:

و لا بد أولا من بيان أمر، و هو أن الزمان..

تارة: يلحظ بالنسبة إلى ما يقع فيه - حكما كان أو موضوعا - على نحو الظرفية الاستمرارية فقط، كقول: أكرم العلماء دائما و أبدا، أو نحو ذلك من التعبيرات الظاهرة في الاستمرار، فلا يكون في البين إلاّ شيء واحد مستمر، لا أشياء متعددة بحسب تعدد أجزاء الزمان.

و اخرى: تلحظ أجزاء الزمان المتكثرة كل واحد منها لحاظا مستقلا، كقول: أكرم العلماء كل يوم - مثلا - و اصطلح عليه بالعام المفرد، فيحصل لما يقع فيه حينئذ أفراد طولية، كما كان له أفراد عرضية.

و الفرق بين القسمين: أن القسم الأخير يستقر ظهور الدليل في جميع الأفراد الطولية و العرضية. و لا يضرّ عروض التخصيص بالنسبة إلى بعض الأفراد باستقرار الظهور في سائرها، فيصح التمسك بالدليل حينئذ في غير ما علم عروض التخصيص عليه، بخلاف القسم الأول، فإنه لم يكن في البين إلا لحاظ الاستمرار لوحدة الاتصالية الملحوظة، و ليس الدليل إلاّ متكفلا لذلك فقط، فإذا ورد عليه التخصيص و انقطع الاستمرار و انفصمت الوحدة الاتصالية، ليس في البين ظهور للعموم بالنسبة إلى سائر الأفراد حتى يرجع إليه، فلا بد من الرجوع إلى دليل آخر، بلا فرق في ذلك بين أن يكون التخصيص حادثا بحدوث العام أو حدث بعده.

و يمكن أن يجعل القسمان متلازمين واقعا، فالاستمرارية تلازم المفردية و بالعكس، لأن الاستمرارية عبارة عن شمول الدليل للأفراد الطولية بلحاظ الاستمرار، و المفردية عبارة عن شموله لها بلحاظ نفس تلك الأفراد مستقلا.

و الظاهر اشتمال كل منهما للمفردية و كونها ملحوظة في الجملة إلاّ أنها في

ص: 283

الاستمرارية ملحوظة إجمالا، و في المفرّدية تفصيلا، فالاستمرارية تدل على التفريد بالالتزام العرفي و على الاستمرار بالمطابقة، و المفردية تدل على التفريد بالمطابقة و على الاستمرار بالالتزام العرفي، فلا ثمرة معتنى بها للفرق في البين من هذه الجهة بعد التلازم العرفي بينهما، هذا إذا علم الاستمرارية أو التفريد بالقرينة المعتبرة.

و إن شك في أنه من أيهما و لم تكن قرينة على تعيين أحدهما، فلا موضوع للثمرة حينئذ حتى بناء على عدم التلازم. و لا يبعد أن يقال إن الأصل في العموم الاستمرارية إلاّ أن يدل دليل على التفريد، لأن الأصل عدم ملاحظة الأفراد مستقلا.

ثم إن الأقسام أربعة: فإن العام إما أفرادي، أو استمراري، و على كل منهما يكون الخاص إما أفراديا أو استمراريا. فإن كان العام أفراديا فالمرجع عند الشك في التخصيص هو العام مطلقا، سواء كان الخاص أفراديا أيضا أو استمراريا، لكون الأفراد مورد شمول العام، فالمقتضي للتمسك به موجود و المانع عنه مفقود، و لا يصح التمسك بدليل الخاص لكونه من التمسك بالدليل في الشبهة الموضوعية، كما لا يصح الرجوع إلى الاستصحاب، لكونه محكوما بدليل العام بلا كلام. هذا إذا كان شمول العام لتلك الأفراد معلوما، و إن كان مشكوكا لجهة من الجهات فلا يصح التمسك به حينئذ أيضا، بل يرجع إلى دليل أو أصل آخر.

و إن كان العام استمراريا فلا وجه للرجوع إليه لانقطاع استمراره بالخاص، كما لا وجه للرجوع إلى الخاص أيضا مطلقا - استمراريا أو إفراديا - لفرض الشك في كون المورد مشمولا له أو لا، فيكون الرجوع إليه من الرجوع إلى الدليل في الموضوع المشتبه، و حينئذ فإن صح الرجوع إلى الاستصحاب يرجع إليه، و إلا فلا بد من الرجوع إلى دليل أو أصل آخر. هذا بناء على عدم الملازمة بين الاستمرارية و التفريد، و إلا فيصح الرجوع إلى العام في

ص: 284

هذا القسم أيضا.

ثم إن الاستمرارية و التفريد لا بد و أن يستفاد من القرائن الداخلية أو الخارجية، و ليست في البين قرينة كلية دالة على احداهما بالخصوص. هذا بعض ما يتعلق بالمقام.

التنبيه الثاني عشر: المراد بالشك في البقاء

المراد بالشك في البقاء مطلق غير الحجة المعتبرة، فيشمل الظن غير المعتبر، كما يشمل الوهم أيضا، لأن ظاهر قوله عليه السّلام: «لا تنقض اليقين بالشك و لكن تنقضه بيقين آخر» هو جعل الشك في مقابل اليقين الذي يكون كناية عن مطلق الحجة المعتبرة، فكأنه قال عليه السّلام: لا تنقض الحجة بغيرها. و أما الاستدلال بالإجماع على أن الظن غير المعتبر كالشك فلا وجه له، لعدم اعتبار مثل هذا الإجماع لكونه اجتهاديا لا تعبديا، كما لا يخفى.

التنبيه الثالث عشر: الكلام في استصحاب الصحة، المراد منها

استصحاب الصحة عند الشك فيها إن كان بمعنى الصحة الفعلية من كل حيثية و جهة لا وجه له، للشك في أصل حدوثها و ثبوتها ما لم يفرغ عن العمل مستجمعا للشرائط فلا يقين بحدوثها كذلك في أثناء العمل حتى يستصحب بقاؤها. و إن كان المراد الصحة الاستعدادية الإمكانية التعليقية، بمعنى أنه لو تحققت الأجزاء مستجمعة للشرائط و فاقدة عن الموانع لكانت صحيحة، فهي مقطوعة البقاء، و لا شك فيها أبدا. و إن كان المراد بها بقاء الهيئة الاعتبارية، و عدم زوالها و عدم خروج المكلف عما كان متلبسا به سابقا، فيصح هذا الاستصحاب لوجود المقتضي و فقد المانع.

ص: 285

و أما استصحاب الوجوب عند تعذر بعض أجزاء المركب، فإن اريد به الوجوب الغيري المحض فلا وجه له، لكونه معلوم الارتفاع، مضافا إلى ما تقدم من عدم الوجوب الغيري للأجزاء، و كذا إن اريد به المردد بين الغيرية و النفسية، لكونه مرددا بين ما هو معلوم الارتفاع و مشكوك الحدوث، بل و كذا إن اريد بها النفسي المحض للعلم بزواله بتعذر بعض الأجزاء.

نعم، لا بأس باستصحاب مقدار من الوجوب النفسي الانبساطي لا المقدمي و لا النفسي بتمام حدوده، و حينئذ فإن دلّ على تنزيل الفاقد منزلة الواجد و الاكتفاء بالميسور عن المعسور فهو، و لا تصل النوبة معه إلى التمسك بالأصل، و إلا فلا طريق لنا لإثبات البقية بالأصل، و تقدم في بحث الاشتغال ما ينفع المقام.

التنبيه الرابع عشر: أقسام اتحاد القضية المتيقنة و المشكوكة، تعيين المراد منها
اشارة

يعتبر في الاستصحاب اتحاد القضية المشكوكة و المتيقنة، إذ مع عدمه يكون من إثبات حكم ثابت في موضوع لموضوع آخر مغاير له، و بطلانه غني عن البرهان و موافق للوجدان.

و الاتحاد إما عقلي أو عرفي، أو بحسب المنساق من ظاهر الدليل. و لا وجه لاحتمال الأول، لعدم كون الأحكام الشرعية مبنية على الدقيات العقلية.

و الأخير يرجع إلى الثاني، لفرض أن الأدلة منزلة على العرفيات إلاّ ما ورد فيه التعبد بالخصوص، فيرجع لباب المقال إلى أنه يعتبر اتحاد القضية المشكوكة مع المتيقنة بنظر العرف المنزّل عليه الدليل، و ذلك كله مستغن عن البرهان و التعليل.

ثم إن العرف إنما يعتبر في المفاهيم المستفادة من الألفاظ المستعملة، و ما

ص: 286

يتبادر منها من المعاني في المحاورة، لأن الإفادة و الاستفادة مبنيان على المحاورات و المتفاهمات العرفية، و الظهور الاستعمالي - و لو كان مجازا - مقدم على الوضعي - و لو كان حقيقة - و أما المصاديق الخارجية فانطباق مفاهيم الألفاظ عليها لا بد و أن يكون قهريا، لأن نسبتها إلى المفاهيم نسبة الفرد إلى الكلي، و لا يدور ذلك مدار الأنظار العرفية، فمع الانطباق القهري تكون المصاديق من تلك المفاهيم، حكم العرف بذلك أو لم يحكم، و مع عدمه لا يكون منها و لو حكم العرف بذلك.

نعم، قد يكون نظر العرف - كالبينة و نحوها - طريقا إلى صحة الانطباق القهري، فيكون المدار عليه بالآخرة، و الباقي يكون طريقا لإحرازه.

تقدم الاستصحاب على سائر الاصول العملية:

لا ريب في تقوم الاستصحاب بلحاظ الحالة السابقة، فيكون من إسراء الدليل السابق إلى حالة الشك في مفاده و مدلوله، فيصير الدليل - علما كان أو أمارة - قسمين: حقيقيا و تنزيليا، و الثاني عبارة عن الاستصحاب. فكل حكم يكون للدليل الحقيقي يكون للتنزيلي أيضا، إلا مع وجود قرينة معتبرة على الخلاف، و حيث أن الدليل الحقيقي مقدم على الاصول مطلقا فكذا التنزيلي، و ما يكون من الحقيقي واردا على الاصول يكون في التنزيلي هكذا، و ما يكون حاكما في الحقيقي فكذلك في التنزيلي.

و بالجملة فإن الأدلة الاجتهادية بحقيقيتها و تنزيليتها مقدمة على الاصول مطلقا، مع أنه لو بني على تقديم الاصول على الاستصحاب يكون اعتباره من اللغو الباطل، مضافا إلى أنه من التخصيص بلا مخصص إلاّ على وجه دائر، مع أن المتعارف بفطرتهم لا يترددون في تقديمه عليها، بل لا يلتفتون مع لحاظ الحالة السابقة إلى أصل من الاصول أصلا.

ص: 287

تعارض الاستصحابين:

و هو على أقسام..

الأول: أن يكون الشك في أحدهما سببا شرعيا للشك في الآخر، كالشك في الكرّيّة، الذي يكون سببا للشك في بقاء نجاسة الثوب المتنجس المغسول فيه. و لا ريب في تقديم الأصل الجاري في السبب على الجاري في المسبب، استصحابا كان أو غيره، و هو الذي تقتضيه المرتكزات العرفية في المحاورات الدائرة بينهم أيضا، لأن بجريان الأصل في السبب يزول الشك في المسبب شرعا، فيكون خروجه عن تحت عموم دليل الأصل بالتخصّص بخلاف العكس فإن خروجه عنه حينئذ يكون من التخصيص بلا مخصص، كما لا يخفى.

و هل بكون هذا للورود، أو الحكومة، أو التخصيص؟ لكل وجه و قال بكل قائل. و لا ثمرة عملية بل و لا علمية في تحقيق ذلك فمن شاء العثور على التفصيل فليراجع المطولات.

و لا فرق في ذلك بين توافقهما في المؤدى أو تخالفهما فيه.

الثاني: أن يكون الشك في كل منهما مسببا عن الشك في الآخر، و هو باطل للزوم الدور، و لا فرض له في الشرعيات، بل هو من مجرد الفرض الوهمي فقط.

الثالث: أن لا يكون في البين سببية أصلا، و لكن لزم من جريانهما المخالفة العملية، كالإناءين الطاهرين اللذين علم بحدوث نجاسة في أحدهما فيلزم من جريان الأصل فيهما المخالفة العملية. فلا يجريان معا من هذه الجهة و لا في أحدهما، لأن جريانه في أحدهما المردد من حيث هو لا معنى له، لعدم التحقق للمردد في الخارج. كما أن جريانه في أحدهما المعين ترجيح بلا مرجح، فلا بد من السقوط بالتعارض، و قد تقدّم أن العلم الإجمالي كالتفصيلي

ص: 288

في التنجز.

الرابع: أن لا تكون في البين السببية أصلا و لا يلزم المخالفة العملية أيضا، و لكن كان جريانهما مخالفا لما هو المعلوم في البين، كما إذا علم تفصيلا بنجاسة الإناءين، ثم علم بطهارة أحدهما، فلا يلزم من استصحاب نجاستهما المخالفة العملية، بل يكون مخالفا لما هو المعلوم في البين، فلا يجريان من هذه الجهة.

الخامس: ما إذا لم يكن في البين سببية أصلا و لا المخالفة العملية و لا العلمية، و لكن دلّ الدليل من الخارج على عدم جريانهما، كما إذا كان ماء طاهر ينقص عن مقدار الكر بقدر خاص، فتمم ذلك القدر بماء نجس في أحد أطرافه، فلا مانع من جريان استصحاب طهارة الماء الأول و نجاسة الماء المتمم، و يترتب أثر كل منهما، فيكون الطرف الذي القي فيه النجس نجسا بخلاف باقي الأطراف، و لكن ادعي الإجماع على أن الماء الواحد في المحل الواحد لا يختلف حكمه من حيث الطهارة و النجاسة.

و ربما يتوهم بأن هذا القسم من القسم الأول، لأن نجاسة المتمم سبب لنجاسة الماء، فيجري الاستصحاب في السبب و لا يبقى موضوع بعد ذلك لجريان الأصل الآخر.

و لكنه مردود بأن منشأ حدوث السببية الإجماع المدعى على أن الماء الواحد في المحل الواحد لا يختلف حكمه، راجع التفصيل في المياه من كتاب (مهذب الأحكام).

السادس: ما إذا لم يكن شيء مما سبق في البين أصلا، كمن توضأ غفلة بمائع مردد بين البول و الماء ثم التفت إليه، فيجري استصحاب طهارة مواضع وضوئه و استصحاب بقاء حدثه، بناء على صحة التفكيك في لوازم الاصول، و إلاّ يكون هذا القسم من القسم الرابع، كما لا يخفى.

ص: 289

فمقتضى الأصل في جميع أقسام تعارض الاستصحاب التساقط، لأن الأخذ بأحدهما ترجيح بلا مرجح، و المفروض عدم إمكان الجمع بينهما، و عدم دليل على التخيير.

و قد يحتمل في جميع ما تقدم من الأقسام الأخذ بالراجح و مع فقده فالتخيير.

و فيه: أن الترجيح إن كان بالأمارة المعتبرة، فمع وجودها لا تصل النوبة إلى الأصل حتى يتحقق التعارض، إذ لا وجه لجريان الأصل مع وجود الأمارة المعتبرة، موافقة كانت أو مخالفة. و إن كان بغير المعتبرة منها فقد تقدّم أن الظنون غير المعتبرة لا تصلح للترجيح. كما لا وجه للترجيح بالأصل موافقا كان أو مخالفا، لأن الأصل عدم حصول الترجيح بشيء إلا بما دلّ الدليل عليه، و لا دليل على حصوله بالظن غير المعتبر و الأصل.

نعم، لا بأس بكون الأصل مرجعا بعد سقوط المتعارضين عن الاعتبار.

ثم إنه قد استشكل على شيخنا الأنصاري قدّس سرّه بأنه قد علل عدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي في جملة من كلماته - فقها و أصولا - بلزوم المخالفة العملية، مع أنه قدّس سرّه علله في بعضها بلزوم المناقضة بين صدر دليل اعتبار الاستصحاب و ذيله. و أورد عليه بوجوه، و قد تقدم ما يتعلّق به في بحث الاحتياط، فراجع.

ص: 290

الخاتمة فى ذكر بعض القواعد المتقدمة على الاستصحاب

اشارة

قد جرت عادتهم على التعرض لبعض القواعد المتقدمة على الاستصحاب في المقام، و لا بأس بالإشارة إليه، و لا بد من تقديم مقدمة.

و هي: أنه لا ريب في عدم كون ما يعتذر به من الأمارات و الاصول في عرض واحد و مرتبة واحدة، بل بينها اختلاف الرتبة اتفاقا، فتقدم الأمارات مطلقا على الاصول كذلك موضوعية كانت أو حكمية. كما لا ريب في تقدم الاصول الموضوعية على الحكمية، فلا تصل النوبة إلى كل لا حق مع وجود السابق عليه، و هذا مما جرت عليه السيرة في المحاورات و الاحتجاجات و الاعتذارات الدائرة بين العقلاء.

و استدل عليه مضافا إلى ذلك باستقرار إطلاق دليل اعتبار الأمارة في مورد الشك مطلقا، سواء كان هناك أصل أو لم يكن. و أما دليل اعتبار الأصل فشموله لمورد وجود الأمارة مشكوك فيه بل معلوم العدم، و إلا لبطل اعتبار الأمارات مطلقا، إذ ما من أمارة إلا و في موردها أصل من الاصول، و حينئذ فإن قدم دليل اعتبار الأصل على دليل اعتبار الأمارة لدار، لأن التقدم متوقف على اعتبار الأصل مع الأمارة، و اعتباره معها متوقف على تخصيص دليل الأمارة بدليل الأصل، و هذا التخصيص متوقف على اعتبار الأصل مع الأمارة، إذ لولاه لكان من التخصيص بلا مخصص، و هذا هو الدور الواضح. هذا ما ذكروه.

و لكنه من تبعيد المسافة، لأن تقدم الأمارة على الأصل أوضح من ذلك في المحاورات، كما لا يخفى. كما أن بين نفس الاصول العملية تقدما و تاخرا،

ص: 291

فالاستصحاب مقدم على جميع الاصول و منشأ هذا التقدم ظهور الاتفاق؛ و الاستصحاب يكون برزخا بين الأصل المحض و الأمارة المحضة، فمن الجهة الاولى تقدم عليه جميع الأمارات، و من الجهة الثانية يقدم على جميع الاصول.

ثم إن التقدم في غير موارد التزاحم لا بد و أن يكون لأحد امور خمسة، و هي مرتكزة في أذهان أهل المحاورة و إن لم يلتفتوا إليها تفصيلا: إما للتخصص، أو الورود، أو الحكومة، أو التخصيص، أو الجمع العرفي. و في التزاحم لا بد و ان يكون لأقوائية الملاك على ما تقدّم تفصيله في محله، و الظاهر أن هذه الخمسة من قبيل مانعة الخلو، فيمكن اجتماع أكثر من واحد منها في مورد.

كما أن الظاهر أن تقدم الأمارات على الاصول للورود، لأن الاصول مجعولة في ظرف الحيرة المحضة، و هي منتفية مع وجود الأمارة، و هذا معلوم و لا وجه للإطناب فيه، مع أنه لا ثمرة عملية في البين، سواء كان التقدم لأجل الورود أو الحكومة.

ثم إن التخصص عبارة عن الخروج الموضوعي تكوينا.

و الورود عبارة عن الخروج الموضوعي بعناية التعبّد، أو بناء العقلاء.

و الحكومة عبارة عن كون دليل الحاكم مفسرا و شارحا لدليل المحكوم، توسعة أو تضييقا، أو هما معا من جهتين.

و التخصيص هو الخروج الحكمي عن دليل العام مع كونه من أفراده موضوعا، و لعل الفرق بين التخصيص و الحكومة بأن الثاني من شئون المعنى أولا و بالذات، بخلاف الأول فإنه من شئون الألفاظ في المحاورات.

و الجمع العرفي هو الجمع بين الدليلين بما يقتضيه الطبع السليم و يرتضيه الذوق المستقيم، و لا تضبطه ضابطة كلية، بل يختلف اختلافا فاحشا حسب اختلاف الموارد.

ص: 292

قاعدتا التجاوز و الفراغ:
اشارة

القاعدة الفقهية عبارة عن حكم فرعي يتعلّق بالإنسان من حيث الحكم المجعول له شرعا، و يكون تحتها مسائل كثيرة.

و الفرق بينها و بين المسألة الفقهية بالعموم و الخصوص و قد يتساويان.

و لا مشاحة في الاصطلاح، و تكون نسبة القاعدة الى المسائل الداخلة تحتها نسبة الكلي إلى الفرد، و قد تعرضنا لذلك في أول الكتاب، فراجع. و البحث فيهما من جهات:

الجهة الاولى: هل هما من القواعد التعبّدية المحضة، أو العقلائية التي كشف عنها الشارع

، كما تكون جملة من القواعد كذلك؟ الحق هو الأخير، كما لا يخفى على الخبير، لكونهما من صغريات أصالة عدم السهو و الخطأ و الغفلة و البقاء على الإرادة الإجمالية الارتكازية الكامنة في النفس عند إرادة إتيان العمل المتدرج الوجود، و ذلك كله مما استقر عليه بناء العقلاء، و ما ورد من الشرع تقرير لذلك، لا أن يكون تعبّدا محضا.

الجهة الثانية: هل هما قاعدتان مختلفتان

، أو من صغريات كبرى واحدة.

و إنما الاختلاف بالحيثية، أي حيثية لحاظ أثناء العمل، فتكون قاعدة التجاوز، أو بعد الفراغ فتكون قاعدة الفراغ؟ الحق هو الأخير. أما بناء على كونهما من أفراد أصالة عدم السهو و الغفلة و الخطأ فواضح، و كذا بناء على كونهما تعبديا محضا، لإطلاق قول أبي جعفر عليه السّلام: «كل ما شك فيه مما قد مضى فامضه كما هو»، و قول أبي عبد اللّه عليه السّلام: «كل ما مضى من صلاتك و طهورك فذكرته تذكرا فامضه و لا إعادة عليك». فإنهما يشملهما معا. و أما قوله عليه السّلام: «إذا خرجت من شيء ثم دخلت في غيره و شككت، فشكك ليس بشيء» فإنما ورد لبيان جريان القاعدة في أثناء العمل أيضا، كجريانها بعد الفراغ منه و ليس في مقام بيان تشريع

ص: 293

قاعدتين مختلفتين، مع أن في اعتبار الدخول في الغير في قاعدة التجاوز كلاما يأتي إن شاء اللّه تعالى.

و ما يقال: من أنه لا جامع بينهما حتى تكونا مورد دليل واحد بذلك الجامع.

مردود: بأن الجامع هو الشك في الشيء، سواء كان في أصل تحققه، كما في قاعدة التجاوز، أو في صحته، كما في قاعدة الفراغ، فلا فرق بين كون الشك في أصل وجود الصحيح أو صحة الموجود.

و اورد على هذا الجامع..

تارة: بأن مورد قاعدة التجاوز إنما هو الشك في أصل التحقق، و مورد قاعدة الفراغ إنما هو الشك في صحة المتحقق، و هما متباينان فلا جامع بينهما.

و فيه: أن الجامع هو الشك في انطباق المأتي به على المأمور به، و هو جامع قريب عرفي.

و اخرى: بأن مورد قاعدة التجاوز هو الجزء، و مورد قاعدة الفراغ هو الكل. و الأول ملحوظ تبعا، و الثاني استقلالا، و هما متباينان لا يجتمعان في استعمال واحد.

و فيه: أن اللحاظ وسيع جدا يصحح اجتماع اللحاظ التبعي و الاستقلالي فيه في استعمال واحد، بل هو شائع جدا، فإن في التكلم بكلام يجتمع اللحاظان، لأن أجزاء الكلام ملحوظة تبعا، و تمامه ملحوظ استقلالا، و كذا في جميع الأعمال المتدرجة الوجود التي لها أجزاء و وحدة اعتبارية.

و ثالثة: بأنه مستلزم للتناقض فإنه إذا شك في جزء، و قد دخل في غيره، فمقتضى قاعدة التجاوز الصحة، و مقتضى قاعدة الفراغ عدمها، لكونه في الأثناء لا بعد الفراغ.

و فيه: أنه لا خلاف من أحد في تغاير موردهما، و اختصاص قاعدة الفراغ

ص: 294

بما بعد العمل، و التجاوز بالاثناء، فلا مجرى لقاعدة الفراغ في الأثناء حتى يلزم التناقض.

و قد اشكل على وحدتهما من حيث الكبرى بوجوه ضعيفة اخرى، لا يخفى وهنها على من راجعها، مع أن هذا النزاع ساقط من أصله، إذ لا ثمرة عملية بل و لا علمية معتدا بها للوحدة و التعدد، إلا دعوى أنه مع الوحدة لا بد و أن تجري قاعدة الفراغ في الأثناء في كل مورد تجري فيه قاعدة التجاوز، و أن تجري قاعدة التجاوز في الوضوء أيضا، مع أنه لا قائل بذلك.

و فيه: أنه بناء على الوحدة أيضا تكون لكل منهما خصوصية خاصة لدليل مخصوص دلّ عليه، و ذلك لا ينافي وحدة أصل الكبرى، كما لا يخفى.

الجهة الثالثة: أنه على القول بكونهما من الأمارات تعتبر مثبتاتهما

، بخلاف القول بأنهما من الاصول، و الحق سقوط البحث عن هذه الجهة أصلا، لما مرّ غير مرة من أن ما اشتهر من اعتبار مثبتات الأمارات دون الاصول لا أصل له بنحو الكلية، بل يدور اعتبارها مدار الدلالة العرفية المعتبرة في المحاورات، فمع وجودها تعتبر و لو في الاصول، و مع العدم أو الشك فيها لا وجه للاعتبار و لو في الأمارات، كما أن القواعد مقدمة على الاصول مطلقا، سواء كانت من الاصول أو في الأمارات، فلا ثمرة من هذه الجهة أيضا. فلا فرق بين كونهما من الأمارات أو الاصول.

و كيف كان، لا ريب في تقديمهما على استصحاب عدم الإتيان بالمشكوك فيه، و إلا لكان اعتبارهما لغوا مطلقا، مع أن اعتبار الاستصحاب معهما لا يكون إلا على وجه الدور دون العكس، كما تقدم و يأتي.

الجهة الرابعة: الفراغ.
اشارة

تارة: واقعي.

و اخرى: إحرازي بوجه معتبر.

ص: 295

و ثالثة: بنائي، بأن رأى المصلي نفسه فارغا عن الصلاة و كان بانيا عليه بحسب حاله، و لا وجه لإرادة القسم الأول لمنافاته، لتحقق الشك. و إرادة القسم الثاني يحتاج إلى دليل و هو مفقود، مع أنه خلاف التسهيل و الامتنان الذي تبتنى عليه مثل هذه القواعد، فيتعين الأخير الموافق لسهولة الشريعة، فكلما كان المصلي بانيا بحسب حاله على الفراغ عنها و شك في صحتها، تجري القاعدة، و لو كان منشأ الشك فيها الإتيان بالجزء الأخير، و إن كان بانيا على أنه في هذه الصلاة تجري قاعدة التجاوز، و لا تجري قاعدة الفراغ لعدم تحقق شرطها. و كذا لو شك في أنه بان على الفراغ أو لا، لأنه حينئذ من التمسك بالدليل في الموضوع المشتبه، بل تجري أصالة عدم فراغه عنها.

الكلام في اعتبار الدخول في الغير فيهما

و أما الدخول في الغير فمقتضى الأصل و الإطلاقات، و ظهور التسالم عدم اعتباره في مورد قاعدة الفراغ. و أما قول أبي عبد اللّه عليه السّلام في الصحيح: «إذا قمت من الوضوء، و فرغت عنه و قد صرت في حالة اخرى من صلاة أو غيرها، فشككت في بعض ما سمي اللّه تعالى عليك مما أوجب اللّه عليه لا شيء عليك». فهو توضيح للفراغ و بيان له، لأن من اللوازم التكوينية للفراغ عن الشيء الصيرورة في حالة اخرى غير ما كان مشغولا به أولا، و ليس عليه السّلام في مقام بيان القيد الشرعي المعتبر في مورد القاعدة. و من اعتبر الدخول في الغير في مورد قاعدة الفراغ، فإن كان من جهة أنه من اللوازم التكوينية للفراغ عن الشيء، فهو مسلم عند الكل. و إن أراد التعبد الشرعي، فالأدلة قاصرة عن إثباته، مع أن هذا النزاع ساقط من أصله بناء على كفاية مطلق الدخول إلى حالة اخرى عند من يعتبر الدخول في الغير فيها، لأنه تكويني - اعتبر أو لم يعتبر -.

و أما قوله عليه السّلام في صحيح ابن أبي يعفور: «إذا شككت في شيء من الوضوء و قد دخلت في غيره فشكك ليس بشيء، إنما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه». فإن مرجع الضمير في (غيره) غير المشكوك فيه، فيكون عبارة عن

ص: 296

قاعدة التجاوز، فهو غير معمول به لعدم جريان قاعدة التجاوز في الوضوء. و إن كان المرجع غير الوضوء من سائر الحالات حتى يكون من قاعدة الفراغ، فالكلام فيه عين ما تقدم آنفا. هذا بعض الكلام في قاعدة الفراغ، و قد تعرضنا لبعضه الآخر في كتاب (مهذب الأحكام).

الكلام في المراد من التجاوز

و أما التجاوز: فلا ريب في أن المناط فيه التجاوز عن محل المشكوك فيه لا نفسه، إذ مع الشك فيه كيف يعقل التجاوز عنه، و حينئذ فإن كانت القاعدة من صغريات أصالة عدم السهو و الغفلة، و أصالة البقاء على الإرادة الإجمالية الارتكازية، فلا وجه لاعتبار الدخول في الغير، لأن في الامور التدريجية تكشف إرادة الدخول في الجزء اللاحق عن تحقق الجزء السابق عليه بأصالة عدم السهو المعتبر عند العقلاء. و إن كانت القاعدة تعبّدية محضة، فيعتبر الدخول في الغير، لظاهر الروايات، و لكن لا بدّ و أن يبحث في أن لنفس الدخول في الغير من حيث هو موضوعية خاصة، أو يكون طريقا و كاشفا عن مضي المحل. يمكن تقريب الأخير، بأن مقتضى المرتكزات كفاية إرادة الدخول في الغير في الكشف عن تجاوز المحل.

و بعبارة اخرى: تارة: يكون بانيا و مريدا لإتيان الجزء اللاحق.

و اخرى: يكون بانيا على العدم.

و ثالثة: يتردد. و متعارف الناس في الصورة الأولى لا يعتنون بالشك في إتيان الجزء السابق، و قد وردت الأخبار على طبق ذلك أيضا، و في الصورتين الأخيرتين يعتنون بالشك، و حيث أن نفس الإرادة الإجمالية للدخول في الغير غير ملتفت إليها تفصيلا بحسب الغالب، و طريق إحرازها تحقق الدخول في الغير خارجا، ذكر اعتبار الدخول في الغير في الروايات من هذه الجهة لا لموضوعية خاصة فيه، فيكفي مجرد إرادة الدخول في الغير في الكشف عن تحقق المراد السابق عليه بحسب الارتكازات، و عدم إحراز اعتبار الموضوعية المحضة في اعتبار الدخول في الغير يكفي في عدم الجزم باعتبار الموضوعية

ص: 297

فيه، مع ما مرّ من اكتفاء العرف في عدم الاعتناء بالشك السابق عند تحقق إرادة الدخول في الغير و لو لم يدخل فيه بعد، فلا يبقى ظهور في الأدلة لإثبات الموضوعية المحضة.

ثم إنه بناء على اعتبار الموضوعية في الدخول في الغير، هل المراد به الأجزاء المستقلة، أو الأعم منها و أجزاء الأجزاء، أو الأعم منها و مقدماتها؟ يشهد للأخير عموم لفظ الغير المتوغل في الإبهام من كل جهة، فيشمل الجميع.

و اشكل عليه.. تارة: بقول زرارة لأبي عبد اللّه عليه السّلام: «رجل شك في الأذان و قد دخل في الإقامة - إلى أن قال - شك في الركوع و قد سجد. قال عليه السّلام: يمضي في صلاته، ثم قال: يا زرارة إذا خرجت من شيء و دخلت في غيره فشكك ليس بشيء». و حيث أن مورد السؤال الأجزاء المستقلة فيخصص عموم الجواب.

و فيه: أن الإمام عليه السّلام في مقام بيان الضابطة الكلية الجارية في تمام الموارد، و تخصيصها بخصوص مورد السؤال خلاف المحاورات العرفية.

و اخرى: بقول أبي جعفر عليه السّلام: «إن شك في الركوع بعد ما سجد فليمض، و إن شك في السجود بعد ما قام فليمض كل شيء شك فيه مما قد جاوزه و دخل في غيره فليمض عليه».

و فيه: مضافا إلى ما تقدّم في سابقه، أن ذكر ذلك من باب المثال و الغالب لا الخصوصية، إذ لا وجه لها مع بيان الكلية.

و ثالثة: بقوله عليه السّلام أيضا: «و إن شك في السجود بعد ما قام...» فإنه لو كان الدخول في مطلق الغير كافيا لم يكن وجه لذكر القيام، لتحقق الدخول في النهوض له قبل القيام.

و فيه: أن للقيام عن السجود مراتب متفاوتة يصدق بعض مراتبه على أول مرتبة النهوض من السجود، فيصح التمسك بإطلاق القيام، لكفاية الدخول في بعض مراتبة أيضا، بل الظاهر أنه لو رفع رأسه عن السجود و جلس يصح إطلاق:

قام عن السجود، كما يصح إطلاق قام عن النوم لمن استيقظ و جلس في فراشه،

ص: 298

و يشهد لكفاية الدخول في مطلق الغير صحيح عبد الرحمن «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: رجل أهوى إلى السجود فلم يدر ركع أو لم يركع. قال عليه السّلام: قد ركع». فإنه نص في كفاية الدخول في مقدمة الجزء أيضا. فالأقوى هو التعميم بالنسبة إلى أجزاء الأجزاء و مقدماتها أيضا، بلا فرق في الأجزاء بين الواجبة و المندوبة، و هذا هو الموافق لسهولة الشريعة المقدسة و مدافعة الشك الذي هو من أقوى وساوس الشيطان.

الجهة الخامسة: تجري قاعدة الفراغ في الشك في الشرط نصا و إجماعا

و أما قاعدة التجاوز فإن كان لتحصيل الشرط محل مخصوص شرعا، كالطهارة التي لا بد و أن يحصّلها المصلي قبل الدخول في الصلاة - مثلا - فتجري فيه أيضا، لأصالة عدم السهو و الغفلة، و إطلاق الأدلة، و إن لم يكن كذلك - كالستر، و الاستقبال - فعن جمع عدم جريانها فيه.

و استدل عليه.. أولا: بأن الأمثلة المذكورة في الأدلة جميعها من الأجزاء فلا تشمل الشرائط.

و فيه: أنه من باب المثال لا الخصوصية.

و ثانيا: بأنه ليس له محل حتى يصدق التجاوز عن المحل.

و فيه: أن تجاوزه باعتبار محل المشروط، و ذلك يكفي في صدق التجاوز بالنسبة إلى الشرط أيضا.

و ثالثا: بأن مجرى قاعدة التجاوز ما كان موردا للإرادة التبعية، كالأجزاء.

و أما الشرائط، فتتعلّق بها الإرادة الاستقلالية لا التبعية.

و فيه: أنها أيضا متعلّق الإرادة التبعية بالنسبة إلى المشروط.

نعم، بعض الشرائط يكون مورد الإرادة الاستقلالية أيضا، كصلاة الظهر بالنسبة إلى صلاة العصر، و لكن لا دخل لهذه الجهة بالمقام.

و الحق أن يقال: إنه إن أمكن تحصيل الشرط في الأثناء بلا لزوم مانع في البين، تجري القاعدة بالنسبة إلى الأجزاء السابقة، فتصح كما تصح الأجزاء

ص: 299

اللاحقة، لتحقق الشرط فيها، و إن لم يمكن إلا بتخلل مانع فلا يمكن تصحيح العمل حينئذ، هذا كله في ما كان شرطا لتمام العمل و مجموعه، كالطهارة و الاستقبال مثلا. و أما ما كان شرطا للأجزاء شرعيا كان أو لا، كالجهر و الإخفات بالنسبة إلى أجزاء القراءة، فتجري القاعدة بلا إشكال. لوجود المقتضي و فقد المانع.

الجهة السادسة: اختصاص جريان القاعدة بخصوص السهو و الغفلة

الجهة السادسة: تختص جريان القاعدتين بما احرز أصل التكليف في الجملة و كان الشك لأجل السهو و النسيان، و أما إن كان لجهات اخرى من عروض دهشة، أو اضطراب، أو احتمال تعمد الترك، أو لأجل الجهل بالحكم أو الموضوع، أو لاحتمال قصور أو تقصير في الاجتهاد أو التقليد أو نحو ذلك فلا مجرى لهما، بل لا بد من الرجوع إلى القواعد و الاصول الأخر، و لا تضبطها ضابطة كلية، بل تختلف باختلاف الموارد و الأشخاص.

الجهة السابعة: هل إن البناء على الوقوع في موردها ترخيص أو عزيمة

الجهة السابعة: الظاهر أن البناء على الوقوع في موردهما ترخيص لا أن يكون عزيمة، فيجوز الرجوع و الإتيان ما لم يلزم محذور من زيادة ركن و نحوه.

كما أن الظاهر أنه لا يعتبر الالتفات التفصيلي إلى العمل حين الإتيان فيكفي التوجه الإجمالي الارتكازي، للأصل و الإطلاق، و لعل ذلك هو المراد ب (الأذكرية) الواردة في بعض الأخبار، فراجع و تأمل.

الجهة الثامنة: في جريانها في جميع العبادات و المعاملات

الجهة الثامنة: بناء على كونهما من صغريات أصالة عدم السهو و النسيان لا تختصان بمورد دون آخر، و تجريان في جميع العبادات و المعاملات. و أما بناء على التعبّد فيهما فالتعميم مبني على عدم كون المورد مخصصا، و هو و إن كان كذلك بحسب المحاورات و لكن حيث إن الحكم مخالف لقاعدة الاشتغال فالاقتصار على المورد لعله أحوط، بل يشكل التعميم في الأول أيضا لو لم يكن إجماع عليه في البين، لأن مدرك اعتبار الأصل إنما هو السيرة، و الشك في تعميمها يكفي في عدم التمسك بها للعموم.

ص: 300

قاعدة الصحة
الأدلة على اعتبارها
اشارة

و هي من القواعد المعتبرة، و تدل على اعتبارها - في الجملة - الأدلة الأربعة..

فمن الكتاب: قوله تعالى: يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ، و آية نفي الحرج، و أن بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ و غيرها من الآيات الواردة في مقام التسهيل و الامتنان و التيسير، المستفاد من عمومها أن التكاليف الفردية و الاجتماعية بين الناس مبنية على التيسير و التسهيل مهما أمكن إليهما سبيل.

و من الأخبار: أخبار مستفيضة واردة في أبواب مختلفة، كقول علي عليه السّلام:

«ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يقلبك عنه، و لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءا و أنت تجد لها في الخير سبيلا» إلى غير ذلك مما هو كثير في أبواب المعاشرة جدا.

و من الإجماع: إجماع المسلمين في الجملة و سيرة النبي صلّى اللّه عليه و آله و خلفائه المعصومين عليهم السّلام مع الخلق مطلقا.

و من العقل: بناء العقلاء على عدم التبادر إلى الحكم بالفساد عند الشك فيه بل لا يعتنون بهذا الشك مطلقا، و من بادر إلى الحكم بالفساد يستنكر ذلك منه، فكما أن أصالة الصحة في المزاج أصل معتبر عند الأطباء العقلاء إلا مع إحراز المرض هكذا في الأفعال، و كأصالة الكروية في الأجسام التي أثبتوها في الأجسام الطبيعية بالبراهين، و أصالة عدم العيب في العوضين، إلى غير ذلك من الاصول المرتكزة في الأذهان خلفا عن سلف.

و يدل عليه أيضا أصالة عدم السهو و النسيان، و أن إتيان الفاسد خلاف ما تقتضيه طبيعة الإنسان.

و بالجملة: الصحة مقتضى الطبع في كل شيء مطلقا إلا مع الحجة على

ص: 301

الخلاف و قد مرّ مرارا أن الاصول النظامية العقلائية لا تحتاج إلى التقرير، و يكفي في اعتبارها عدم ثبوت الردع، فلا وجه لفتح باب المناقشة على الآيات و الروايات مع أن واحدة منها تكفي في استكشاف عدم ثبوت الردع، خصوصا في الشريعة التي بنيت على التسهيل في الامور الفردية و النوعية. و إنما البحث في جهات:

الاولى: لا وجه للبحث عن أنها أصل، أو قاعدة، أو أمارة

، إذ لا ثمرة فيه لا عملية و لا علمية، لتقدّمها على الاستصحاب على كل تقدير، و عدم الكلية في اعتبار المثبتات كذلك ما لم تكن قرينة في البين و تقدم الأمارات المعتبرة عليها.

و لكن لا ريب في تقدّمها على الاصول الموضوعية و الحكمية الدالة على الفساد ما لم يكن دليل على الخلاف، و لو قدّمت الاصول عليها لزم لغويتها و بطلان تشريعها مطلقا، و هو واضح البطلان.

الثانية: المراد بالصحة الواقعية منها،

لأن المعاني الواقعية هي المنساقة في المحاورات، مطلقا ما لم تكن قرينة على الخلاف، و هي مفقودة في المقام، مع أن الاعتقادية و الظاهرية طريق إلى الواقع، و لا موضوعية فيها بوجه، فتكون اصالة الصحة كأصالة الإباحة في الأشياء، و أصالة احترام النفس و العرض و المال و سائر الاصول النظامية التي متعلّقاتها واقعيات ما لم يدل دليل على الخلاف.

ثم إنه قد تتحد الصحة في نظر العامل و الحامل اجتهادا أو تقليدا، و قد تختلف، و يمكن أن تكون الصحة في نظر العامل تمام الموضوع للصحة عند الحامل، فلا بد له و أن يرتب عليه آثار الصحة و لا محذور فيه من عقل أو شرع، و هو الذي تقتضيه سهولة الشريعة.

و لا فرق في جريانها بين ما إذا كان الشك في أثناء العمل أو بعد الفراغ منه، للسيرة و إطلاق الأدلة.

ص: 302

نعم، إن كان العمل مما يتقوّم بالقصد و الاختيار لا بد من إحراز ذلك بوجه معتبر.

و يمكن أن يقال إن نفس قاعدة الصحة الجارية في العمل تدل عرفا على تحقق القصد و الاختيار أيضا، و لا يبتنى ذلك على اعتبار مثبتاتها، لأن القصد سواء كان شرطا للعمل أو جزء منه، كسائر أجزائه و شرائطه، فكما تجري القاعدة في الشك في تحقق سائر الأجزاء و الشرائط، تجري عند الشك في تحقق القصد و الاختيار أيضا، مع أنها من صغريات أصالة عدم الغفلة، و هي جارية في الشك في القصد أيضا.

الثالثة: لا فرق في مجراها بين كونه من العبادات أو غيرها مطلقا

من العقود و الإيقاعات، لشمول الأدلة للجميع، بل قد ادعي إجماع آخر على جريانها في غير العبادات، بل الظاهر أن مورد استدلالهم بأنه لو لم تجر لاختل النظام و تعطلت أسواق الأنام إنما هو في غير العبادات، كما لا يخفى على الأعلام، و لا فرق بين كون منشأ الشك نفس العقد أو الإيقاع، أو ما يعتبر في المتعاقدين، أو العبادات أو العوضين، أو نفس الانتقال، و ذلك كله لعموم الدليل و إطلاق التعليل.

نعم، لو كان الشك في أصل الصدور و الوجود بمفاد (كان) التامة، فلا مجرى للقاعدة حينئذ، لأن مجراها مورد الشك في صحة الموجود لا الشك في أصل التحقق و الوجود، كما هو المتفاهم من الأدلة اللفظية، و مقتضى السيرة العقلائية.

إن قلت: إن منشأ الشك لا بد و أن يرجع إلى فقد جزء أو شرط، فيرجع بالآخرة إلى الشك في أصل الوجود، لأن الكل ينعدم بانعدام جزئه - شرعيا كان أو لا - و المشروط ينتفي بانتفاء شرطه كذلك، فلا يبقى مجرى للقاعدة أبدا.

قلت: المناط في أصل التحقق هو التحقق العرفي في الجملة و الخروج

ص: 303

من العدم إلى الوجود كذلك، لا التحقق من كل حيثية و جهة بجميع القيود و الشرائط المعتبرة، و إلا فلا نحتاج إلى قاعدة الصحة، فيكون المقام نظير التمسك بالعمومات و الإطلاقات في المعاملات لنفي القيود المشكوكة، فكما يكفي فيها مجرد التحقق العرفي في الجملة لئلا يكون التمسك بها من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، فكذا المقام.

نعم، لو كان الشك مستلزما للشك في أصل الوجود العرفي لا وجه لجريانها حينئذ.

و لعل نظر المحقق الثاني قدّس سرّه حيث ذهب إلى عدم الجريان إلا بعد استكمال الشرائط إلى ما قلناه، فراجع و تأمل، هذا كله إذا شك غير المتعاملين في صحة العقد و فساده، أو اعترف أحدهما بصحته و قال الآخر بالفساد إجمالا من دون الاعتراف بمنشإ الفساد بالخصوص. و أما لو قال أحدهما بالصحة و قال الآخر: إني ما كنت راضيا - مثلا - حين العقد، يشكل جريانها حينئذ، لأن المتيقن من الإجماع و السيرة غير هذه الصورة، بل ظاهر جمع كثير عدم الجريان، فإذا عقد رجل على بنت الأخ و ادعت العمة عدم الإذن و ادعى هو الإذن، فإن الفقهاء يقدّمون قول العمة، مع أن مقتضى أصالة الصحة تقديم قول الرجل، راجع نكاح العروة فصل (المحرمات بالمصاهرة)، و المسألة منقحة في كتاب القضاء من كتاب (مهذب الأحكام).

الرابعة: مقتضى إطلاق الأدلة اللفظية و السيرة ترتيب جميع آثار الصحة مطلقا

، فكل أثر يترتب على الصحيح الواقعي يترتب على مشكوك الصحة أيضا، فلو شك في صحة بيع الصرف من جهة الشك في تحقق القبض في المجلس، أو في بيع الوقف من عروض المجوز، أو في بيع الفضولي من جهة لحوق الإجازة، أو في عمل النائب من جهة الشك في فراغ ذمة المنوب عنه به، فالكل من مجاري القاعدة، و بجريانها تترتب آثار الصحة مطلقا حتى بالنسبة إلى

ص: 304

فراغ ذمة المنوب عنه.

فما يظهر من الشيخ الأنصاري قدّس سرّه من التفكيك في الأخير بجريانها في عمل النائب من حيث هو دون جهة الإضافة إلى المنوب عنه.

مخدوش: لأن النيابة إما تنزيل نفسي، أو تنزيل عملي، و كل منهما مستلزم عند المتشرعة لفراغ ذمة المنوب عنه بعد تصحيح عمل النائب.

ثم إن المتيقن من أدلة قاعدة الصحة اللبية، و المتفاهم من اللفظية منها في ترتيب الآثار على جريانها، هو خصوص الآثار الشرعية، و أما العادية و العقلية فإن حصل الاطمئنان المعتبر بها فهو، و إلاّ فيشكل ترتبها عليه، و الشك في الشمول لها يكفي في عدم الشمول، لأنه حينئذ من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية. و لكن يمكن القول بالشمول لأنها من الاصول العقلائية، و من صغريات أصالة عدم السهو و الغفلة، فإن ثبت الردع عن الشمول نقول به و إلا فلا محذور في الشمول.

الخامسة: لا فرق فيها بين أفعال البالغين و المميزين من غيرهم

، فتجري في أفعالهم أيضا.

نعم، لو قلنا ببطلان معاملاتهم رأسا حتى بعنوان الآلية بين الأولياء لا موضوع لها في معاملاتهم، لكنه قول بلا دليل. كما لا فرق في مجراها بين من ظهرت عدالته و بين غيره، و ذلك كله للعمومات و الإطلاقات و عموم بناء العقلاء و أصالة عدم الغفلة.

و مقتضى ذلك أيضا عدم الفرق بين الأفعال و الأقوال في مجراها، فلو تكلم شخص بكلام، و شك في أنه حرام أو مباح، أو مطابق للمحاورات العقلائية أو لا، أو كاشف عن قصده الجدي أو غير كاشف، تجري أصالة الصحة في جميع ذلك كله، فيحكم بإباحته و مطابقته للمحاورات و كشفه عن قصده الجدي. و أما لو شك في أن الكلام ظاهر أو غير ظاهر، أو أنه مطابق للواقع أو لا،

ص: 305

فلا يثبت الظهور و لا المطابقة للواقع بأصالة الصحة.

نعم، تجري في نفي احتمال الكذب، و هو أعم من إثبات المطابقة للواقع.

و كذا تجري في الاعتقاديات إن شك في التقصير فيها، و أما الشك في القصور أو في المطابقة للواقع فلا يثبت بها ذلك.

السادسة: هل تختص القاعدة بمورد صدور فعل من الفاعل ثم شك في صحته و فساده

، أو تعم مطلق الشك في صدور محرّم منه و لو كان عدما؟ مقتضى الإطلاقات هو الأخير، فلو قبض الوصي مال الميت لأن يعمل فيه بالوصية و مات، ثم شككنا في أنه عمل بها فيه أو لا، تجري القاعدة.

السابعة: مقتضى كون القاعدة تسهيلية امتنانية عدم اختصاصها بفعل الغير،

بل تجري بالنسبة إلى نفس الفاعل أيضا لو شك في صحة فعله و عدمها، فتكون قاعدة التجاوز و الفراغ، و أصالة عدم المانع، و عدم وجوب الإعادة و القضاء و غير ذلك من القواعد التسهيلية من صغرياتها، و لا محذور في ذلك من عقل أو شرع.

نعم، منشأ توهم الاختصاص بفعل الغير ظواهر الأدلة اللفظية، مثل قوله عليه السّلام: «ضع أمر أخيك على أحسنه».

و لكنه مردود: بأن التمسك بمثله للاختصاص من قبيل التمسك بمفهوم اللقب و لا وجه له، و المناط كله عدم الاعتناء بالشك، لأنه من فعل الشيطان - كما في بعض الأخبار - و لا فرق حينئذ بين الغير و النفس إلاّ في ما قام دليل معتبر على العدم من إجماع أو غيره، و قد تفحّصنا عاجلا و لم نظفر عليه.

الثامنة: لا تجري هذه القاعدة مع وجود العلم المنجز على الخلاف،

تفصيليا كان أو إجماليا، و كذا لا تجري مع وجود البينة أو الأمارة المعتبرة على الخلاف، بل الظاهر عدم الجريان في ما إذا غلب الفساد على شخص بحيث لم يبق موضوع لحمل فعله على الصحة عند من يعلم بحاله.

ص: 306

قاعدة اليد:

اليد: عبارة عن الاستيلاء على الشيء عينا كانت، أو منفعة، أو انتفاعا، أو حقا. و تختص بالشبهات الموضوعية فقط. و هي معتبرة بالأدلة الأربعة..

فمن الكتاب: قوله تعالى: وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ و الإضافة إنما تتحقق باليد و الاستيلاء.

و من السنة: أخبار مستفيضة، منها قول أبي عبد اللّه عليه السّلام: «من استولى على شيء فهو له»، و قوله عليه السّلام: «لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق».

و من الإجماع: إجماع المسلمين.

و من العقل: سيرة العقلاء على اعتبارها.

و لا ريب في تقدّمها على الاستصحاب، بلا فرق بين كونها أمارة أو أصلا.

و البحث في أنها أصل أو أمارة عين ما تقدم في سابقتها، و لكن الظاهر كونها بالأمارة أشبه.

و لا بأس بالإشارة إلى بعض ما يتعلّق بها و إن كان قد فصّلنا القول فيها في كتاب القضاء:

الأول: لو علم كيفية حدوث اليد من أمانة أو غصب أو نحوهما، ثم احتمل ملكية ذي اليد بالانتقال الصحيح الشرعي إليه، لا يحكم بالملكية لأجل اليد، لعدم السيرة على الحكم بالملكية حينئذ. و الشك في شمول الأدلة اللفظية له، بل الظاهر تحقق السيرة على الخلاف، لجريانها على قبول المدارك المعتبرة في مقابل مثل هذا اليد و الحكم بها عليها.

نعم، لو لم يعلم ذلك و احتمل اقتران حدوث اليد بغصب و نحوه، فمقتضى السيرة و الإطلاق الحكم بالملكية لليد حينئذ.

الثاني: لو كان شيء في يد شخص فعلا، و ثبت شرعا أنه كان لغيره سابقا، يحكم بملكية ذي اليد، لجريان السيرة على العمل بقاعدة اليد حينئذ،

ص: 307

و لعدم المنافاة بين كون شيء ملكا لشخص سابقا و لآخر فعلا، بل ذلك غالبي الوقوع، كما هو واضح.

الثالث: لو أقرّ ذو اليد بأن ما في يده كان لمورّثه، فثبوت موت المورث و ثبوت وارثيته يؤكده، و لا ينافي مثل هذا الإقرار استيلائه على ما في يده، و لا وجه لطلب الحاكم البينة منه أصلا، و عليه فيكون طلب أبي بكر البينة من الصديقة الطاهرة عليها السّلام إن كان لإثبات موت النبي صلّى اللّه عليه و آله، أو لأجل أن الصديقة الطاهرة بنته، فهو مما يقبحه عوام المسلمين فضلا عن خواصهم. و إن كان لأجل أن يد الوارث لا تدل على ملكية ما انتقل إليه من مورّثه فهو خلاف إجماع المسلمين بل سيرة العقلاء كافة، فلا بد لأبي بكر في منع الصديقة عن فدك من إثبات أحد أمرين: إما عدم موت النبي صلّى اللّه عليه و آله، و إما حديث «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث...».

و الأول مخالف للوجدان، و ما هو معلوم بين النساء و الصبيان.

و الثاني مخالف للقرآن و سيرة الأنبياء السابقين بل العقلاء أجمعين، هذا إن كانت دعوى الصديقة عليها السّلام أن فدك قد انتقلت إليها بالإرث، و إن ادعت أنها كانت نحلة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لها. أو من اللّه تعالى، كما يظهر من بعض الأخبار، فمقام قداسة الصديقة الطاهرة، و عدم المعارض لها في هذه الدعوى من أحد من المسلمين و لا غيرهم، و كون فدك في يدها يدلّ على أنها عليها السّلام مالكة لفدك، فلا وجه لانتزاعها منها.

و ما يتوهم: من أن المعارض لها أبو بكر و هو وليّ المسلمين، فلا وجه لكون دعواها بلا معارض.

مردود: بأنه لا بد لأبي بكر حينئذ من ردّ دعواها بمقام ولايته، لا بحديث «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث» و المسألة مذكورة مفصلا في كتب الكلام و التواريخ من الفريقين.

ص: 308

قاعدة القرعة:

و هي: مما تعارف بين المسلمين فتوى و عملا، بل و بين العقلاء أيضا في الجملة، و يدلّ عليها..

الكتاب في قصة يونس، قال تعالى: فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ، و مريم: إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ .

و السنة: مثل قوله عليه السّلام: «فكل شيء مجهول ففيه القرعة»، و ما اشتهر في الكتب الفقهية: «القرعة لكل أمر مشكل».

و يختص مورد جريانها بالشبهات الموضوعية التي ينحصر رفع الشبهة فيها بخصوص القرعة فقط، فلا تجري في مورد يجري فيه الاستصحاب و سائر الاصول الاخرى حتى البراءة، و قاعدتا الحلّية و الطهارة فضلا عن مورد تجري فيه الأمارة، فلا موضوع معها للقرعة أصلا، لأن موردها التحيّر المطلق من كل حيثية وجهة، كما هو المتيقن من الأدلة اللبيّة، و المتفاهم عرفا من الأدلة اللفظية، فلا تعارض بينهما حتى تقدّم إحداهما على الاخرى.

و لا فرق في مورد جريانها بين كونه من حقوق الناس أو حقوق اللّه تعالى، كما ورد في استخراج البهيمة المنكوحة بالقرعة.

ثم إنه قد أثبتنا في كتاب القضاء أن المجهول و المشتبه - الواردين في القرعة - هو الظاهري منهما دون الواقعي، إذ لا يعقل التردد و الجهل في الواقع من حيث هو واقع، لما أثبتنا من أن الوجود مساوق للتشخّص و مناف للتردد، كما لا إشكال في أن القرعة أيضا قد تصيب و قد تخطئ و ما ورد في بعض الروايات من الإصابة لا بد و أن يحمل على حكمة الجعل. و يتوقف جريانها في كل مورد على عمل الأصحاب فهي - و قاعدة الميسور، و قاعدة العدل و الإنصاف - كجزء الدليل لا تمامه، إذ لا اعتبار بها إلا بضميمة عمل الأصحاب.

ص: 309

هذا بعض الكلام في هذه القاعدة و التفصيل يطلب من كتاب القضاء.

هذا آخر ما وفقنا اللّه تعالى لتهذيب الاصول عن الزوائد و الفضول، و نرجو منه عزّ و جل أن يوفقنا لتهذيب أنفسنا، فإنه الغاية القصوى لكل علم و عمل. و كان الختام في أسعد الأيام الثالث من شهر شعبان المعظم من شهور سنة ألف و ثلاثمائة و ثلاث و سبعين بعد الهجرة، على هاجرها آلاف التحية و الثناء.

و الحمد للّه أولا و آخرا تم الكتاب

ص: 310

الفهرس

المقدمة 5-7

تعريف الاصول، حصر مجاري ما يصح الاعتذار به، عدد الاصول العملية المقصد الأول - ما يكون معتبرا في نفسه (مبحث القطع) و يبحث فيه عن امور: 9-57

الأمر الأول: \و فيه جهات من البحث\ 11

الاولى: الكلام في أن مبحث القطع من مسائل فن الاصول 11

الثانية: آثار القطع، الكلام في صحة تعلق الجعل الشرعي به، الإشكال عليه و الجواب عنه 11-14

الثالثة: إطلاقات الحجية الثلاثة، صحة إطلاقها على القطع، المناقشة في ما ذكره الاصوليون 14-16

التنبيه على امور: \ 16-19

الأول: أقسام القطع

الثاني: أن الاطمئنان العقلائي له مراتب متفاوتة

الثالث: الكلام في ما ذكروه أن حكم العقل باعتبار القطع تنجّزيّ غير معلق على شيء بخلاف الظن الانسدادي

الرابع: أقسام الذاتي

ص: 311

الخامس: المناقشة في ما ذكره صاحب الكفاية من مراتب الحكم الأربع

الأمر الثاني: \ 20-27

تمهيد: كون هذه المسألة من المسائل الاصولية 20

حكم التجري، ذكر الاحتمالات فيه و المناقشة فيها

الاستدلال على استحقاق العقاب في التجري و الجواب عنه الإشكال على مختار الشيخ قدّس سرّه من أن التجري كاشف عن

سوء السريرة و بيان المختار في التجري 19-25

التنبيه على امور: \ 25-27

الأول: بيان الثمرة في القبح الفعلي و عدمه

الثاني: أن التجري طغيان و ظلم لا يزول إلا بعنوان حسن و مناقشة كلام صاحب الفصول

الثالث: أن التجرّي مباين للمعصية الحقيقية

الرابع: مراتب التجري

الأمر الثالث: \أقسام القطع و ما يتعلق بها، انقسام القطع إلى عشرة أو أكثر، آثار القطع، قيام الأمارات مقام القطع، الإشكال عليه و الجواب عنه\ 28-32

الأمر الرابع: \أخذ القطع بحكم في موضوع نفسه أو مثله أو ضده، نقل رأي المشهور في عدم إمكان أخذ القطع كذلك و المناقشة فيه\ 33-34

الأمر الخامس: \الموافقة الالتزامية و بعض ما يتعلق بها وجوب الالتزام بما جاء به النبي صلّى اللّه عليه و آله، الكلام في وجوب الموافقة الالتزامية\ 35-38

ص: 312

البحث في ذلك من جهات:

الاولى: وجوب الموافقة تابع للعلم بالتكليف

الثانية: لا تلازم بين وجوبها و وجوب الموافقة العملية

الثالثة: لا تمانع بين وجوبها و جريان الاصول العملية

الكلام في استحقاق العقاب و الثواب على المخالفة و الموافقة العملية

الأمر السادس: \القطع الحاصل من العقليات و قطع القطاع\ 39-43

نقل أقوال الاصوليين في القطع الطريقي و المناقشة فيها، المراد من القطاع

توجيه كلام من قال بعدم اعتبار القطع في بعض الموارد 40

الكلام في القاعدة المعروفة (كل ما حكم به العقل حكم به الشرع و عكسه) و الجواب عما يورد عليها 41

الأمر السابع: \العلم الإجمالي و بعض ما يتعلق به\ 44-53

المقصود بالبحث عن العلم الإجمالي، موارد الفرق بينه و بين العلم التفصيلي الكلام في إثبات العلية التامة للعلم الإجمالي، الاستدلال للترخيص بارتكاب بعض أطرافه بالعمومات و الأخبار و المناقشة فيها

بيان المحتملات في هذه الأخبار

شرائط تنجز العلم الإجمالي: \ 48

الأول: \إحداثه تكليف فعليّ غير مسبوق بالوجود، أقسام تقارن العلم الإجمالي مع العلم التفصيلي، حكم الاصول الجارية في أطراف العلم الإجمالي\ 49

ص: 313

الثاني: \أن يصلح للداعوية نحو التكليف، خروج موارد ثلاثة\ 49

منها: ما إذا لم يكن بعض الأطراف مورد الابتلاء، بيان المراد من الابتلاء، أقسام القدرة 50

الثمرات المترتبة على هذا المورد 51

منها: مورد دوران الأمر بين المحذورين و شروط هذا المورد 52

و منها: الشبهة غير المحصورة 52

الثالث: \من شروط تنجز العلم الإجمالي: أن لا يكون العلم التفصيلي معتبرا في التكليف\ 52

الرابع: \أن لا يكون في البين ما يدلّ على رفع الحكم الواقعي

تنبيه: \الجواب عما يوهم فيه الترخيص في مخالفة العلم التفصيلي\ 53

الأمر الثامن: \الامتثال الإجمالي\ 54-55

الإشكال على الاكتفاء بالامتثال الإجمالي و الجواب عنه

المقصد الثاني: \ما يصح الاعتذار به من جهة الكشف فيه.

و فيه مباحث\ 59-155

تمهيد: \مراتب الاطمئنان، تبويب البحث في غير العلم، مورد جريان أصالة عدم الحجية، الاستدلال بالشكل الأول على عدم حجية الظن\ 59-60

المبحث الأول\إمكان التعبد بغير العلم\ 61-69

المراد من الإمكان 61

الأول: القياس على الإخبار عن اللّه تعالى و الجواب عنه 62

الثاني: النقض للغرض المناقشة فيه 62

الثالث: تفويت المصلحة و الإلقاء في المفسدة و الجواب

ص: 314

عنه، تحقيق الكلام في الموضوعية و السببية في الأمارات 63

الرابع: اجتماع المثلين أو الضدين الجواب عنه 65

ذكر أجوبة الاصوليين عن الدليل الرابع و المناقشة فيها 67-69

المبحث الثاني: \أصالة عدم الاعتبار و عدم صحة الاعتذار الاستدلال على هذا الأصل بالأدلة الأربعة، المناقشة فيها. تقرير الدليل العقلي. الاستدلال بالاستصحاب على حجية هذا الأصل المناقشة فيه و الجواب عنها\ 70-74

تقرير الأصل بوجوه اخرى و الجواب عنها 71

التنبيه على امور: \ 72-74

الأول: الاستدلال على حرمة التشريع، أنحاء ما يضاف إلى الشارع، أقسام التشريع

الثاني: حرمة الفعل المشرع فيه

الثالث: عدم الفرق بين البدعة و التشريع

الرابع: الرد على صاحب الكفاية في قوله إن حجية شيء في الدين غير مساوق لصحة انتسابها إلى الشارع

الامور التي خرجت عن هذا الأصل 75-136

الأمر الأول: \الظواهر\ 75-80

اعتبار الظواهر من الاصول النظامية، البحث فيها صغروي و كبروي

استدلال الأخباريين على عدم حجية ظواهر القرآن و الجواب عنه 75

ص: 315

امور\: 77-78

الأول: النص و الظواهر و الأظهر من أوصاف اللفظ

الثاني: عدم دوران حجية الظهور مدار حصول الظن الشخصي

الثالث: للظهور مراتب متفاوتة

الرابع: في اختلاف قراءة القرآن

مناشئ الظهور 79-80

و هي كثيرة، منها قول اللغوي، الاستدلال على حجيته، المناقشة فيه، تحقيق الكلام في أصالة الحقيقة و أصالة عدم القرينة و أصالة الظهور

الأمر الثاني: \الإجماع\ 81-89

و هو إما محصل أو منقول، كونه من الامور العرفية. ليس للإجماع موضوعية بل لأجل كشفه عن حجة

طرق استكشاف رأي المعصوم عليه السّلام 82-85

الأول: دخول شخص المعصوم، المناقشة فيه

الثاني: قاعدة اللطف، المراد من اللطف، الرد عليه

الثالث: الحدس، الجواب عنه

الرابع: تراكم الظنون، الإشكال عليه

الخامس: لأجل كونه كاشفا عن قاعدة معتبرة

السادس: لأجل كونه كاشفا عن قاعدة معتبرة

السابع: انفراد فقيه بالرأي و ادعائه الإجماع

الثامن: الإجماع القهري الانطباقي

تحقيق الكلام في الإجماع عند الإمامية 85

نقل الإجماع 85-87

ص: 316

أقسام نقل الإجماع، الإشكال على نقل السبب في الإجماع إذا لم يكن سببا تاما، تحقيق المناط في نقل الإجماع مطلقا

التنبيه على امور: \ 87-89

الأول: الإجماع إنما يكون معتبرا إذا حصل الاطمئنان منه

الثاني: يعرض على الإجماع ما يعرض على الخبر الواحد

الثالث: معنى قول الفقهاء «نقل الإجماع عليه مستفيض بل متواتر»

الرابع: إذا شك في أن ناقل الإجماع استند إلى الحس أو الحدس.

الخامس: معنى الإجماع المحصل

السادس: نقل كلام المحقق البحراني في الحدائق

ختام في الشياع و الاستفاضة و التواتر 89

الأمر الثالث: \الشهرة\ 90-98

أقسام الشهرة 90

الإشكال على اعتبار الشهرة الاستنادية صغرى و كبرى و الجواب عنه 91-93

الاستدلال على اعتبار الشهرة الفتوائية، الإشكال عليه

93-94

التمسك بالمقبولة على اعتبار الشهرة مطلقا، الإشكال عليه و الجواب عنه 94

إشكال المحقق النائيني على الاستدلال و الجواب عنه 95

ختام فيه امور: \ 96-98

الأول: عدم الفرق في الشهرة مطلقا بين أن يكون موردها

ص: 317

نفس الأحكام أو ما يتعلق بها

الثاني: المراد من الواجب في كلمات قدماء الأصحاب

الثالث: إطلاق الشهرة القدمائية يقتضي الاتصال إلى المعصوم

الرابع: لا أثر للشهرة الاستنادية في غير الوجوب و الحرمة

الخامس: لا اختصاص للشهرة الاستنادية بخصوص مسائل الفقه

السادس: نقل كلام صاحب الجواهر في اختلاف القدماء

السابع: تفسير قول الفقهاء «على الأشهر، عليه الأكثر، عليه المعظم».

الثامن: طرق إحراز الشهرة

الأمر الرابع: \الخبر الواحد\ 99-121

تمهيد فيه امور: \ 99-102

الأول: المناط في إثبات الحكم الشرعي بالخبر الواحد

الثاني: زمان حدوث البحث في الخبر الواحد

الثالث: الكلام في أن البحث في حجية الخبر الواحد من مسائل الاصول

الرابع: قد ادعي الإجماع على حجية ما في الكتب الأربعة، الإشكال عليه و الجواب عنه

أدلة عدم اعتبار الخبر الواحد و الجواب عنها 102-104

الاستدلال على اعتبار الخبر الواحد بالأدلة الأربعة 104-115

الاستدلال من الكتاب بآية النبأ بمفهوم الشرط تارة

ص: 318

و بمفهوم الوصف اخرى 104

الإشكال على الاستدلال بوجوه و الجواب عنها 105

مناقشات لا تختص بآية النبأ بل تعمها و غيرها وردها 107

إشكالات تختص بالاخبار مع الواسطة فقط 107-109

كيفية الاستدلال بآية النفر، الإشكال عليها ثم الجواب عنه 109

الاستدلال بآيتي الكتمان و السؤال و آية الاذن 110

الاستدلال بالأخبار المتواترة إجمالا 111

الإجماع و السيرة على اعتباره 112

الردّ على السيرة و الجواب عنه

الاستدلال على اعتبار الخبر الواحد بوجوه عقلية و الجواب عنها، الفرق بين الانسداد الصغير و الانسداد الكبير 114-115

نتائج البحث\ 115-121

الاولى: أن النزاع في اعتبار الخبر الواحد صغرويا لا أن يكون كبرويا 115

الثانية: العدالة في الراوي طريقية لا أن تكون موضوعية

الثالثة: مراتب الوثوق و الاطمئنان 116

الرابعة: الكلام في اعتبار تضعيفات بعض علماء الرجال

الخامسة: تحقيق الكلام في أقوال الرجال بالنسبة إلى الرواة 117

السادسة: بيان المراد من الوثوق و الصدق المعتبرين في الراوي 118

ص: 319

السابعة: مورد اعتبار التوثيق 119

الثامنة: موجبات الوثوق بالصدور 120

التاسعة: كلام في حال الرواة

العاشرة: أقسام وثوق الراوي 121

الحادية عشر و الثانية عشر: في الوثوق و التضعيف

الأمر الخامس: \الاجتهاد و التقليد\ 122-136

تعريف الاجتهاد و التقليد 122

آراء العلماء في الاجتهاد. و ما يعتبر في الاجتهاد 123

تعريف التقليد 125-128

المطلق و المتجزي

ما يعتبر في مرجع التقليد 126

التخطئة و التصويب، موضوعهما و موردهما 128

أقسام التصويب و المناقشة فيها 129-130

الأعلمية 131-133

الاستدلال على اعتبارها في المرجع و المناقشة فيه

أدلة عدم اعتبار الأعلمية و الردّ عليها 132

فوائد 133

الاولى: بيان المراد من الأعلم

الثانية: كيفية تحقق موضوع الأعلم

الثالثة: لو شك في اختلاف الأعلم مع غيره

تبدل الرأي، موضوعه، مقتضى الدليل 134

تقليد الميت 134-136

أقسامه، البحث فيه من جهتين، الإشكال على جوازه

ص: 320

و الجواب عنه

اعتبار مطلق الظن 136-155

الاستدلال على اعتباره و الجواب عنه 136

دليل الانسداد 138-139

مقدمات دليل الانسداد و المناقشة فيها

جملة القول في الاحتياط أقسامه بيان الإشكال فيه 139

نقل كلام صاحب الكفاية في الحرج الحاصل من الامتثال و الرد عليه 140

الإشكال في وجوب الاحتياط الذي لا يوجب العسر و الحرج 141

الرجوع إلى الاصول العملية بيان الإشكال فيه

الجواب عن الإشكال المعروف من التناقض بين صدر دليل الاستصحاب و ذيله 142-144

بيان المختار في دليل الانسداد 144

التنبيه على امور: \ 145-154

الأول: هل تكون نتيجة دليل الانسداد في المسألة الأصولية أو في الأحكام أو فيهما معا

الاستدلال على الاختصاص بخصوص الطرق و الجواب عنه؟ 145-146

الثاني: هل تكون نتيجة دليل الانسداد الكشف أو الحكومة؟ 146

الثالث: هل تكون النتيجة كلية أو مهملة؟ 147-149

الاستدلال على التعميم بوجوه و الإشكال عليها

ص: 321

الرابع: الإشكال على النهي عن الظن القياسي و الرد عليه 149

الخامس: لو قام ظن على عدم اعتبار ظن آخر

السادس: كلام في الظن بالفراغ بعد تعلق أصل التكليف 150

السابع: في الظن الغير المعتبر 150

أقسام الاعتقاديات. الاستدلال على وجوب المعرفة عقلا و الرد عليه 151

الاستدلال على وجوب معرفة المعاد و المناقشة فيه 152

الاستدلال على وجوب المعرفة شرعا و ردّه 153

فوائد 154-155

الاولى: المناط في المعرفة هو الاعتقاد و الجزم

الثانية: عدم اعتبار حصول المعرفة من الاستدلال الفلسفي

الثالثة: تعيين أحد مراتب الاعتقاد و الجزم، تعيين مراتب القصور

الرابعة: أن ما يعتبر فيه الجزم لا يكفي فيه الظن

الثامن: اعتبار الظن في الاعتقاديات

المقصد الثالث: \الاصول العملية\ 159-290

تمهيد في عدد الاصول العملية، الفرق بين الجهل في موردها و الجهل في مورد الأمارات 159

تقديم امور: 160-161

الأول: إن الجهل إنما يكون مورد الاصول مطلقا بعد الفحص و اليأس عن الظفر بالدليل.

ص: 322

الثاني: كون البحث عن حكم الشبهات الموضوعية خارجا عن فن الاصول

الثالث: كون بحث الحظر و الترخيص أعم موردا عن بحث البراءة

الرابع: المراد بالجهل و الشك 160

الخامس: كون الاصول الأربعة المعروفة من الامور العقلائية

السادس: أن النزاع بين الاصولي و الأخباري صغروي لا أن يكون كبرويا

السابع: تقسيم آخر للاصول

الثامن: كون مباحث الاصول العملية من علم الاصول 161

الفصل الأول - البراءة 162-173

أدلة البراءة في الشبهات الحكمية مطلقا

الاستدلال بالكتاب 162-165

منها: قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها وجه الاستدلال و المناقشة فيه 162

منها: قوله تعالى: ما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً كيفية الاستدلال و الإشكال عليه و الجواب عنه 163

استدلال الأخباريين على عدم الملازمة بين حكم العقل و الشرع و الجواب عنه 164

الاستدلال بالسنة 165-173

منها: حديث الرفع، المراد من الرفع و الإشكال عليه و الجواب عنه 165

ص: 323

و البحث عن حديث الرفع ضمن امور:

الأول: مقتضى عموم الحديث و إطلاقه القول بأنه لا وجه لرفع المؤاخذة و دفعه 166

الثاني: كيفية ترتب الأثر الشرعي على الشيء 166

الثالث: تقدم حديث الرفع على الأحكام الواقعية، الإشكال بأنه يستلزم النسخ أو التصويب أو الصرف و الجواب عنه 167

الرابع: الحديث يرفع كل ما يمكن أن تناله يد الجعل:

الإشكال عليه و الجواب عنه 168

الخامس: توجيه ما ذكر في الحديث: من الطيرة، و الحسد، و التفكر في الوسوسة في الخلق: 169

السادس: كلام في مثبتات الاصول العملية 170

و منها: مرسل الصدوق، ذكر الاحتمالات فيه و الجواب عنها 170

و منها: حديث الحجب. المناقشة في الاستدلال به 171

و منها: صحيح ابن الحجاج. المناقشة فيه. ردّ ما يستشكل عليه 171-172

الاستدلال بالإجماع، و دليل العقل، و الأصل على البراءة 173

الفصل الثاني - الاحتياط 174-194

أدلة وجوب الاحتياط شرعا في الشبهات الحكمية التحريمية و الجواب عنها 174

الاستدلال بالكتاب و الجواب عنه 174

ص: 324

الاستدلال بالسنة، ذكر المحتملات في أخبار الاحتياط المناقشة فيها 174-176

المناقشة في الاستدلال بصحيح ابن الحجاج الوارد في الصيد 176

الدليل العقلي على وجوب الاحتياط و الجواب عنه 177-179

الكلام في مورد إجمال النص أو تعارضه 178

الكلام في الشبهات الموضوعية 179

التنبيه على امور: \ 179-194

الأول: تقدم الأمارات على الاصول الموضوعية و الأخيرة على الاصول الحكمية

بعض الكلام في أصالة عدم التذكية 180-185

التعرض لأمرين - الأول: المراد من غير المذكي و الميتة، مناقشة كلام المشهور، بيان ما هو المستفاد من الأخبار

180-181

الثاني: أقسام الحيوان بالنسبة إلى التذكية 182

الكلام في جريان أصالة عدم التذكية في الشبهات الحكمية 182

تفصيل القول في جريان أصالة عدم التذكية في الشبهات الموضوعية 183-184

بيان الحق في المقام، التمسك ببعض الأخبار على ذلك 185

الثاني: الكلام في حسن الاحتياط غير المخل بالنظام

ص: 325

185-190

الإشكال في الاحتياط عند الدوران بين الندب و غير الوجوب أو الوجوب و غير الندب و الجواب عنه بوجوه و المناقشة فيها، و بيان الحق فيها 186

الكلام في قاعدة التسامح من جهات: 187-190

الجهة الاولى: \الأخبار الواردة في القاعدة\ 187

المناقشة فيها و ذكر الاحتمالات فيها و الإشكال عليها

الجهة الثانية: \هل تدل الأخبار على ترتيب جميع آثار المطلوب الشرعي؟ 189

الجهة الثالثة: \موارد جريان قاعدة التسامح في الأدلة\ 190

التنبيه الثالث: دوران الأمر بين التعيين و التخيير 190-193

مقتضى الأصل اللفظي و العملية في ذلك عند المشهور

الإشكال على المشهور، و نقل كلام بعض مشايخنا و الرد عليه 191

أقسام الواجب التخييري 192

موارد دوران الأمر بين التعيين و التخيير 192

الكلام في دوران الأمر بين الواجب العيني و الكفائي 193

الرابع: جريان البراءة في جميع الشبهات مطلقا 193-194

كيفية تعلق الحكم بالموضوع و جريان البراءة في جميع أقسامها

توهم اختصاص البراءة ببعض الأقسام و الجواب عنه

نتيجة البحث 194

الفصل الثالث\أصالة التخيير، البحث فيها من جهات: \ 195-227

ص: 326

الجهة الاولى: \بيان موضوعها\ 195

الجهة الثانية: \أقسام التخيير و مجرى كل واحد منها في التوصليات و التعبديات\ 195

الجهة الثالثة: \في استمرار التخيير و الإشكال عليه\ 197

الشك في المكلف به 198-217

موضوع الشك في المكلف به، جهات الشك و الكلام يقع في مقامين 198

المقام الأول\في المتباينين\ 199-213

مناط البحث فيه. الكلام في العلم الإجمالي الاستدلال عليه بوجوه 199

الأول: اختلاف مورد الشك الذي هو مجرى الاصول عن أطراف العلم الإجمالي، إشكال و جواب 200

الثاني: أقسام الاصول العملية بحسب أطراف العلم الإجمالي 200

الثالث: ما ذكره شيخنا الأنصاري في المانع عن جريان الاصول العملية

الإشكال على ما ذهب إليه و الجواب عنه 201

الاستدلال على تنجز العلم الإجمالي بالاستصحاب و الجواب عنه 202

موارد عدم وجوب الموافقة القطعية 203-211

الأول: \ما إذا دل دليل مخصوص على الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي\ 203

الثاني: \ما إذا كان في بعض الأطراف تكليف فعلي\ 203

الثالث: \إذا لم يصلح العلم الإجمالي للداعوية\ 203

ص: 327

الرابع: \خروج بعض الأطراف عن مورد الابتلاء\ 204-205

حكم ما إذا لم يحرز الابتلاء فهل يجب الاحتياط أو تجري البراءة؟

حكم ما إذا كان شيء مورد الابتلاء من جهة و خارجا عنه من جهة اخرى 205

الخامس: \الاضطرار و أقسامه\ 205

الكلام في الاضطرار الحاصل بعد تنجز العلم و إلى المعين 205

نقل الكلام عن بعض مشايخنا في الاضطرار إلى غير المعين و المناقشة فيه 206

السادس: \فقدان بعض الأطراف\ 207

السابع: \الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة، رأي المشهور فيه المناقشة فيه\ 207-210

نقل كلام المحقق الأنصاري في الملاقي لأحد الأطراف و الإشكال عليه 207

نقل كلام صاحب الكفاية في تثليث الأقسام في الملاقي لأحد الاطراف و ردّه 208

الثامن: \عدم الفرق في تنجز العلم الإجمالي بين كون أفراده دفعية أو تدريجية\ 210

التاسع: \لو اعتقد تنجز العلم الإجمالي في الأطراف الدفعية أو التدريجية\ 211

العاشر: \عدم الفرق في جميع ذلك بين أقسام الشبهة الموضوعية التحريمية أو المفهومية\ 211

ص: 328

الشبهة غير المحصورة 213

بيان موضوع غير المحصورة، بيان الحق في المقام

الإشكال على ما قيل في تحديدها بحد خاص 212

حكم الشبهة غير المحصورة 213

المقام الثاني\دوران الأمر بين الأقل و الأكثر\ 213-217

الفرق بينه و بين الشك في المحصل، أقسام الشك في الأقل و الأكثر 213

بيان الحق في المقام، إقامة الشكل الأول على ذلك 214

الاستدلال على وجوب الاحتياط و الجواب عنه 215

التمسك لعدم وجوب الأكثر بالأصل الأزلي 216

الكلام في الشبهة المفهومية الدائرة بين الأقل و الأكثر 217

بعض أحكام الخلل 217-223

أقسام الخلل 217

الإشكال على الصحة في بعض الموارد مع فرض الجزئية و الترك العمدي و الجواب عنه 217

النقيصة السهوية، الكلام فيها من جهات ثلاث: 218-220

الأولى: \تصوير التكليف بالنسبة إلى المنسي و غيره، الجواب عنه الإشكال في تكليف غير المنسي بوجوه\ 218

الثانية: \بحسب دلالة غير المنسي بوجوه\ 219

الثالثة: \بحسب الأدلة الثانوية الدالة على وجوب البقية\ 220

حكم الزيادة. و البحث فيها من جهات ثلاث: 220-223

الأولى: في تصويرها. الردّ على من قال بعدم إمكان تصويرها. 221

ص: 329

الثانية: أقسام الزيادة 221

الثالثة: حكمها، التمسك بأصالة عدم المانعية، و الاستصحاب و هو على أنحاء 222

الإشكال على التمسك بالاستصحاب 222

الاستدلال على البطلان بالزيادة العمدية بأمور ثلاثة و الإشكال عليها 223

ما يتعلق بالجزء و الشرط من حيث أن القاعدة تقتضي ثبوتهما مطلقا أو في الجملة 224

القول بأن البحث في المسألة من فروع بحث الصحيح و الأعم و الجواب عنه 224

توهم اختصاص البحث في المقام ببعض الموارد و الإشكال، و الردّ على التوهم بأن البحث مبني على ثبوت الأجزاء و الشرائط بأوامر متعددة

أقسام دليل القيد و المقيد 225-227

انقسامهما إلى أربعة 225

حكم الأقسام الأربعة، الإشكال على جريان الاصول العملية في بعض الصور و دفعه، الإشكال على جريان البراءة و الجواب عنه 225

بعض الكلام في قاعدة الميسور، التمسك بالاخبار الإشكال عليها و الجواب عنه 226

فائدة\لو دار الأمر بين كون شيء شرطا في العبادة أو مانعا\ 227

شرائط الاصول 228-246

شرط الاحتياط 228

ص: 330

الجواب عن أن الاحتياط مخالف لقصد الوجه و الجزم في النية، مراتب الامتثال 228

الجواب عن أن الاحتياط المستلزم للتكرار لهو و عبث 229

الفحص عن مورد الاصول العملية، البحث فيه من جهات ثلاث 229-231

الجهة الأولى\أصل وجوبه، الاستدلال بالأدلة الأربعة\ 230

الاستدلال على عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية و الجواب عنه 230

الجهة الثانية\مقدار وجوب الفحص\ 231

الجهة الثالثة\حكم العمل قبل الفحص\ 231

التنبيه على امور: \ 231-234

الأول\هل أن وجوب التعلم نفسي أو طريقي أو مقدمي؟ \ 231

الثاني\ملاك وجوب التعلم\ 232

الإشكال المعروف في وجوب التعلم و الجواب عنه 232

الثالث\دوران صحة العمل و بطلانه مدار المطابقة للوظيفة و عدمها\ 232

الرابع\تلازم الصحة و سقوط العقاب، الإشكال في بعض الموارد و الجواب عنه و تعيين الحق في المقام\ 233

ذكر الفاضل التوني للبراءة شرطان آخران 234-235

الأول: أن لا يكون إعمال الأصل موجبا لثبوت حكم شرعي من جهة اخرى، المناقشة في هذا الشرط 234

الثاني: أن لا يكون في إعمال الأصل الضرر 235

الكلام في قاعدة الضرر، و فيها جهات من البحث 235-244

ص: 331

الأولى: كونها من القواعد العقلائية 235

ذكر بعض الأخبار فيها، و الكلام في قيد «على المؤمن» أو «في الإسلام» 236

فقه الحديث، و المراد من الضرر و الضرار 236-237

الثانية: الفرق بين الضرر و الحرج 237

الثالثة: المراد من كلمة (لا) ذكر الإشكال المعروف و الجواب عنه بوجوه و المناقشة فيها 238

الرابعة: إنها من القواعد العامة، الإشكال عليها بكثرة ورود التخصيصات و الجواب عنه 239

جواب شيخنا الأنصاري عن الإشكال و إشكال صاحب الكفاية عليه و الجواب عنه 240

إشكال على أن القاعدة ليست نصا في موردها و الجواب عنه

الخامسة: تقديم قاعدة الضرر على جميع الأدلة المتكفلة لبيان الأحكام مطلقا

موارد تخصيص قاعدة الضرر المتقدمة على جميع الأحكام 241

السادسة: صور تعارض ضرر مع ضرر آخر 242-244

السابعة: قد تتقدم قاعدة الحرج على قاعدة الضرر 244

تتميم: بعض الكلام في قاعدة الحرج 244-246

الفصل الرابع - الاستصحاب 247-290

ذكر بعض التعاريف و الإشكال عليها، و تعريفه بما هو الحق 247

ص: 332

تقديم امور: \ 247-254

الأول: \الفرق بين المسألة الأصولية و الفقهية، و القاعدة الفقهية\ 247

كون الاستصحاب من المسألة الفقهية أو المسألة الاصولية 248

الثاني: \الفرق بين الاستصحاب، و قاعدة اليقين و قاعدة المقتضي و المانع\ 248

الثالث: \أقسام الاستصحاب\ 249-251

منها: بحسب زمان اليقين و الشك 249

و منها: بحسب منشأ الشك بين المقتضي و الرافع و الغاية، و تعريف المقتضي 249

أقسام المقتضي، تعريف الرافع و الفرق بيته و بين المانع 250

تعريف الغاية، تصادق الشك في المقتضي مع النسخ و الغاية في غير الشبهة الموضوعية 250

و منها: تقسيمه بحسب الدليل الدال عليه 251

الرابع: \الإشكال على صحة الاستصحاب إن كان دليله العقل\ 251

الخامس: \التفصيل في اعتبار الاستصحاب بين الشك في الرافع و الشك في المقتضي\ 252

التفصيل بين العدميات و الوجوديات 253

التفصيل بين الموضوعات و الأحكام و الجواب عنه 253

الأدلة على حجية الاستصحاب الأول و الثاني و الثالث:

الإجماع، و الدليل الظني، المناقشة فيها. و بناء العقلاء.

254-255

ص: 333

الرابع: \الأخبار\ 255-261

الأول: مضمر زرارة، الإشكال عليه بوجوه و الجواب عنها 255

الثاني: مضمرة الآخر الإشكال عليه و الجواب عنه 256

الثالث: صحيح زرارة و الجواب عما يرد عليه 258

الرابع: قول أمير المؤمنين عليه السّلام، و ردّ ما يتوهم من الإشكال عليه 259

الخامس: المكاتبة، الإشكال عليه 259

دلالة بعض الأخبار عليه و المناقشة فيها 260

التمسك بالسيرة في حجية الاستصحاب مطلقا 260

الجواب عما يتوهم من اختصاص الأخبار بخصوص الشك في الرافع 261

تنبيهات الاستصحاب 261-287

التنبيه الأول: \انقسام الأحكام إلى تكليفية و وضعية\ 261-265

تعريف الحكم الوضعي 262

عدم اختصاص الأحكام التكليفية و الوضعية بخصوص شريعة الإسلام، نقل الأقوال في الوضعيات و دفعها

القول بالتفصيل في الوضعيات بين ما تكون مجعولة استقلالا، و بين ما تكون منتزعة و الجواب عن ذلك 262-264

و بين ما لا تكون منتزعة و لا مجعولة، الإشكال عليه

التنبيه الثاني: \الكلام في الاكتفاء بالشك التقديري، مناقشة رأي من اكتفى بالشك و اليقين فقط\ 265

ص: 334

التنبيه الثالث: \المراد من اليقين في مورد الاستصحاب\ 266

التنبيه الرابع: \أقسام الاستصحاب باعتبار الجزئي و الكلي\ 266-271

الأول: ما يصح استصحاب الكلي و الجزئي معا 267

الثاني: ما يصح استصحاب الكلي فقط، الإشكال عليه و الجواب عنه 267

الثالث: ما لا يجري فيه استصحاب الكلي و الجزئي 270

التنبيه الخامس: \الكلام في الاستصحاب في الزمان و الزمانيات و المتدرجات في الوجود، الإشكال عليه و الجواب عنه، أقسام أخذ الزمان في التكليف\ 271-272

التنبيه السادس: \في الاستصحاب التعليقي الإشكال عليه و الجواب عنه\ 273

التنبيه السابع: \الاستصحاب في نسخ ما ثبت في شريعة أو شريعتين\ 274

التنبيه الثامن: \في الأصل المثبت، الفرق بين الأمارة و الأصل و المناقشة فيه بيان الحق في المقام\ 274-278

التنبيه على امور: \ 276-278

الأول: في المراد بالأثر الشرعي 276

الثاني: لا وجه لتوهم الإثبات بين الكلي و الفرد 276

الثالث: أقسام الأثر المترتب على الشيء 277

الرابع: الجواب عن موارد ربما يستظهر من المشهور اعتبار الأصل المثبت فيها 277

الخامس: جريان الاستصحاب في ما كان الأثر للبقاء فقط أيضا 278

التنبيه التاسع: \أقسام الشك في حدوث الحادث، للكلام في جريان الاستصحاب في ما كان للشك في السبق و اللحوق، الكلام

ص: 335

في جريان الاستصحاب في مجهولي التاريخ\ 278-280

التنبيه العاشر: \الكلام في الاستصحاب في الاعتقادات، أقسامها، استصحاب الحكم، استصحاب بقاء الشريعة\ 281-282

التنبيه الحادي عشر: \الكلام في بعض الموارد التي قد يتردد بين كونها من الأصل اللفظي حتى يتقدم أو الأصل العملي تحقيق الكلام في الزمان الملحوظ في الحكم، أقسام العام و الخاص بيان الحكم فيهما\ 282-285

التنبيه الثاني عشر: \المراد بالشك في البقاء\ 285

التنبيه الثالث عشر: \الكلام في استصحاب الصحة، المراد منها\ 285

التنبيه الرابع عشر: \أقسام اتحاد القضية المتيقنة و المشكوكة، تعيين المراد منها\ 286

تقدم الاستصحاب على سائر الاصول العملية، الدليل عليه 287

أقسام تعارض الاستصحابين 288-290

دفع ما يحتمل من الأخذ بالراجح و مع فقده فالتخيير 290

إشكال على شيخنا الأنصاري في المقام 290

الخاتمة: \ذكر بعض القواعد المتقدمة على الاستصحاب\ 291-310

تقديم مقدمة في الاستدلال على تقديم الأمارات على الاصول 291

أقسام التقديم في غير مورد التزاحم 292

تعريف كل واحد من تلك الأقسام 292

قاعدتا التجاوز و الفراغ - البحث فيهما من جهات 293-300

ص: 336

تعريف القاعدة الفقهية 293

الجهة الأولى: \أنهما من القواعد التعبدية أو العقلائية\ 293

الجهة الثانية: \هل هما قاعدتان مختلفتان\ 293

ذكر الجامع و الإشكالات عليه و الجواب عنها 294

الجهة الثالثة: \في اعتبار مثبتاتهما و تقدمهما على غيرهما\ 295

الجهة الرابعة: \أقسام الفراغ و تعيين المراد منها\ 295

الكلام في اعتبار الدخول في الغير فيهما 296

الكلام في المراد من التجاوز 297

هل إن للدخول في الغير موضوعية خاصة أو يكون كاشفا عن مضي المحل؟ 298

المراد من الغير بناء على اعتبار الدخول في الغير و الإشكال عليه و الجواب عنه 298

الجهة الخامسة: \الكلام في جريان القاعدة في الشروط و تعيين الحق في المقام\ 299

الجهة السادسة: \اختصاص جريان القاعدة بخصوص السهو و الغفلة\ 300

الجهة السابعة: \هل إن البناء على الوقوع في موردها ترخيص أو عزيمة\ 300

الجهة الثامنة: \في جريانها في جميع العبادات و المعاملات\ 300

قاعدة الصحة\البحث فيها من جهات: \ 301-306

الأدلة على اعتبارها 301

الجهة الأولى: \الكلام في أنها أصل أو قاعدة أو أمارة\ 302

الجهة الثانية: \المراد من الصحة، حكم اختلاف الصحة بين العامل و الحامل، جريانها في جميع أقسام الشك\ 302

ص: 337

الجهة الثالثة: \عدم الفرق في مجراها بين العبادات و المعاملات، الإشكال على جريانها في ما إذا كان الشك في فقد جزء أو شرط و الجواب عنه\ 303

حكم ما لو اختلف نفس المتعاملين في صحة المعاملة 304

الجهة الرابعة: \الكلام في ترتيب جميع آثار الصحة على مشكوكها، و الجواب عما يظهر من التفكيك في بعض الموارد\ 304

الكلام في ترتيب الآثار العرفية و العقلية 305

الجهة الخامسة: \عدم الفرق بين أفعال البالغين و المميزين، و بين الأفعال و الأقوال\ 305

الجهة السادسة: \هل تختص بمورد صدور الفعل فقط أو تعم مطلق الشك في صدور محرما و لو كان عدما؟ \ 306

الجهة السابعة: \الكلام في أنها مختصة بفعل الغير أو تشمل فعل الإنسان نفسه\ 306

الجهة الثامنة: \عدم جريانها مع وجود العلم المنجز على الخلاف\ 306

قاعدة اليد 307-308

الأدلة عليها 307

الكلام في بعض أحكامها، و بحث حول مطالبة فاطمة الزهراء عليها السّلام 307-308

قاعدة القرعة 309-310

الأدلة عليها و بعض أحكامها 309

تم الفهرست و للّه الحمد أولا و آخرا

ص: 338

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.